أقلام حرة

حاتم جعفر: هل أتاك حديث المرجلة؟

(عَودٌ على بدأ لصفحات لا تنسى من المجد والكرامة).

لم يجد الفنان الاشهر عالميا بابلو بيكاسو صعوبة في الرد على تساؤل الجنود الالمان عن صاحب اللوحة ورسّامها، عندما كانوا يجوبون شوارع إسبانيا المحتلة في منتصف ثلاثينات القرن الماضي، والدهشة والتأمل بادية على وجوههم من تلك التحفة الفنية الرائعة المسماة الغورنيكا، نسبة الى احدى مدن الشمال الاسباني والواقعة ضمن اقليم الباسك. موجها (أي بيكاسو) ودون تردد أو وجل أصابع الاتهام الى صدور الجنود الغزاة، قائلا لهم: انتم من رسم هذه اللوحة، في اشارة صريحة منه الى تحميلهم مسؤولية الخراب والدمار الذي حلَّ ببلاده.

ربما شكَّلت الحادثة الآنفة الذكر بداية قوية، ليختط على أثرها ذلك الفنان الكبير نهجا ثابتا في التصدي لتلك القيم التي تحط من مكانة الانسان والشعوب التواقة للتحرر من نير الظلم والاستعباد، خاصة بعد ان أكمل ذاك النهج برسمه لتلك الحمامة البيضاء والتي اعتبرت ومنذ ذلك التأريخ رمزا للسلام العالمي ولتطلعات الشعوب في الانعتاق نحو الحرية.

وليس بعيدا عن ذلك وفي أول ردة فعل له وبُعيد خروجه من السجن، عَبَّرَ الصحفي الشاب منتظر الزيدي عن شكره وإمتنانه لكل من وقف معه في محنته وحمل ذات المشعل وغنى ذات اللحن. مضيفا بعدم رغبته دخول التأريخ كما يظن البعض، حين تصدى للرئيس الامريكي السابق جورج بوش بضربة حذاء، التي لم تشكل وقتذاك مهانة كبيرة للرئيس فحسب بل لكل من راهن على الخيار الذي جاء بالاحتلال، فدافعه لذلك الفعل هو حجم الخراب والدمار الذي لحق ببلده وشعبه.

واذا ما أعتبرنا تلك الواقعة وما ترتب عليها دخولا للتأريخ من أوسع ابوابه وأشجعها، فهو وبحسب ما أعلنه، لم يكن مخططا لها، وان دافعه لإعلان صرخته والاحتجاج بتلك الطريقة التي شاهدها الملايين وعلى الهواء مباشرة، هو راجع الى حجم الاستهتار والغطرسة التي ظهر عليها الإحتلال. وانه تصرَّف كرجل عند اللحظة المناسبة، دون ان يكون في وارد تفكيره ان يتحول الى رمز أو أيقونة. لكن لا بأس بل لا تراجع ولا ندم، فما حصل قد حصل، فللشعوب حق مشروع في الدفاع عن أوطانها وفي التصدي للغزاة، ولا مناص من التضحية والثبات على المبادئ.

فهو أي منتظر، لا يختلف كثيرا عن سائر العراقيين الذين تربوا وجبلوا على الوطنية الحقة وعلى نصرة الشعوب المضطهدة. وإذا كان لنا من إستذكار فلا بأس من إستحضار ذلك الأسطورة المسماة فكتور جارا، وما كان قد تسرَّبَ الى مسامع صاحب الذكر من أغانٍ ثورية، تحث الشعوب على التحرر وعلى الوقوف ضد كل أشكال القهر والظلم والديكتاتورية.

وسيتذكر أيضا صاحب المناسبة ويستمد الشجاعة من ذلك الفنان، الذي أقدم الفاشست على قطع اوتار قيثارته واصابعه التي كان يعزف عليها أنشودة السلام والحرية، وكيف انقض الاوباش ودوائر الاستخبارات العالمية المشبوهة، التي لم يرقْ لها صعود اليسار وتربعه على عرش الحكم، ليسجل في حينها أولى تجارب التأريخ التي جاءت برئيس إشتراكي وعبر الشرعية الدستورية، والتي طالما تبجح بها الغرب، فكان من نتيجتها وللأسف أن تمت تصفية الرئيس الشرعي الليندي وليكون بذلك ضحيتها الاولى، وليخلده التأريخ وشعوب العالم الحرة فيما بعد بأحرف من نور ومحبة.

لم يكن منتظرا قد وُلدَ بعد حين أعلنت قوى اليسار في العالم عن تضامنها مع الشعب التشيلي في مصيبته، فكان للعراقيين نصيبا كبيرا، وراحوا ينشدون لتلك التجربة الرائدة والتي تم وأدها وهي لم تزل بعد في مهدها (شيلي تمر بالليل نجمة بسمانه). وللتوقف أكثر فإنَّ ما قام به منتظر الزيدي لم يكن بمعزل عن ذلك الارث الثوري والوطني الذي يفخر به العراقيون وعلى مختلف أجيالهم. واذا ما عدنا ببضعة عقود الى الوراء، لكان على ابناء الرافدين أن يقفوا بإجلال وإحترام وهيببة، أمام ما قدمه الأولون في ثورة العشرين، وأن يعيدوا شدو ما علق في أذهانهم من بقايا تلك الاهزوجة الشعـــبية وذلك السلاح رغم بدائيته، يوم تحدوا به عتاد وعدة العدو حـــين كانوا يرددون (الطوب أحسن لو مگواري).

وإذا كنا في غفلة أو نسينا فللتأريخ كلمته وحضوره، فها هو يحدثنا عن تلك المظاهرات الصاخبة التي كانت تعم مدن العراق كافة والعاصمة الحبيبة بغداد أولها وفي مقدمتها، يوم كانت تلك الإحتجاجات وتلك الحناجر تطــــالب بخروج المحتل البريطاني. وفي فورة تلك المظاهرات وما رافقها من سقوط ضحايا لشباب بعمر الورد، لم تستطع قوى الـــعمالة مـــن أن تمـــحو من شـــوارع العـــراق آثار تلك الدماء الزكــية التي ســقطت على مذبح الــحرية. ولا أن تضع حداً لذلك التحدي الاسطوري لرجال اعتلوا منصات الاعدام واعواد المشانق بزهو وكبرياء. ولا أن توقف صوت تلك الحناجر عن أداء ذلك النشيد الصاخب، والذي كان يترافق ومهرجانات الدم ومنصات الموت التي نُصبت لأولئك الأبطال، بحناجر مدوية وبصوت واحد، ليصل صداه ويخترق مسامعنا حتى هذه اللحظة: السجن ليس لنا نحن الاباة، السجن للمجرمين الطغاة.

لا تتهموا منتظرا ولا مَن يَشبهه بأية تهمة ولا تدينوه، فهو ابن بار ووليد شرعي لخلاصة شعب، كان قد جُبِلَ على التصدي لكل أشكال وأنواع الاحتلالات والديكتاتوريات ومن جرائم القتل المجانية. وإن حاول البعض أن يُعزي بسالته وما أقدم عليه، حين رمى بحذاءه صوب ذلك الرئيس المسمى بوش الإبن وَمَنْ كان بصحبته على المنصة، الى تراخي الاجهزة الأمنية وتساهلها في التعاطي مع هكذا تصرفات، وذلك إنسجاما مع ما يدّعوه وما أرادوا تسويقه، من انه يُعدٌ واحدا من تجليات الحكم (الديمقراطي) الجديد الذي يطبع النظام السائد في العراق، وكأنهم نسوا أو تناسوا ردة الفعل الهمجية والسريعة التي صدرت عن الطاقم الامني الذي كان يقوم بحراسة القاعة التي شهدت حادثة إهانة الرئيس الأمريكي، وكيف انهالوا بالضرب المبرح على ذلك الشاب العراقي الشهم، وأمام شاشات التلفزة العالمية والعراقية.

ولولا الاحتراز من الحرج الذي قد يقعون به فيما لو جرى التعامل بطريقة تكشف وتفضح  حقيقة دواخلهم وما يضمرونه من أحقاد على شعبنا وشعوب أخرى تماثلنا، وأيضا لولا تدخل الامريكان السريع في منع تداعيات الموقف ولملمة الاشكال الذي وقعوا فيه، حرصا على سمعتهم وعلى سلامة الشعارات التي رفعوها حين أحتلوا العراق، لكان لهم تصرف آخر ولكان منتظر الزيدي في خبر كان كسائر العراقيين الذين تصدوا للاحتلال.

ولعل في الرسائل التي حملها معه بُعيد خروجه من السجن، ما يثبت كذب وزيف الأدعاءات التي ما إنفكت تطلقها أجهزة الاعلام الرسمية المسؤولة، من انها تعامل السجناء وفق شرعة حقوق الانسان والمواثيق والمعاهدات الدولية، والتي تضمن توفر الشروط الانسانية في كيفية التعاطي مع السجناء والمعتقلين. وعن ذات الموضوع فلم يعد خافيا من أن هناك من الدلائل والإثباتات، ما تكشف وتشير وبشكل لا يقبل اللبس أو الإجتهاد عن حجم ودرجة معاناة العراقيين القابعين في غياهب السجون الامريكية ومعتقلات الحكومة التي نصبها الاحتلال، وأن من بينهم اطفالاً وشيوخاً وكفاءات علمية ووطنية، لا تمت بصلة وبأي شكل من الأشكال بمجاميع الارهاب على ما يدعوه. وانهم يتعرضون وكل يوم الى صنوف من التعذيب الشديد القسوة والهمجية.

وهناك من بين السجناء من أهملتهم وعن عمد أدارات السجون، وأكثريتهم ممن لم توجه لهم أية تهمة صريحة وواضحة أو قانونية. في ذات الوقت لم تعمد الى إطلاق سراحهم لعدم كفاية الأدلة، ولم توفر لهم كذلك أية فرصة من أجل السماح لها بالدفاع عن نفسها وعبر الطرق القانونية التي كفلها الدستور الذي سنّوه ويتبجحون به. وعلى صلة ليست ببعيدة عن أصل الموضوع فأن منظمة (هيومن رايتس ووتش) المعنية بحقوق الانسان في العالم، إعتبرت العراق في حينها وعلى خلفية تلك الأحداث ومع بدايات الغزو، واحدا من بين اكثر الدول التي أصدرت أحكاما بالاعدام ونفذتها بحق مواطنيها وبسرعة قياسية.

***

حاتم جعفر - السويد / مالمو

في المثقف اليوم