أقلام حرة

علي فضيل العربي: تحية إلى أبناء نلسون مانديلا

ما قامت به حكومة جنوب إفريقيا في رفعها دعوة ضد الكيان الاسرائيلي في محكمة العدل الدوليّة بـ (لاهاي)  سابقة تاريخية وإنسانيّة تُحسب لبلاد الزعيم الثوري الخالد نلسون مانديلا. وهي عدوة عجزت عن القيام بها حكومات أمّة إقرأ ن التي يزيد عدد (غاشيها) عن المليار والنصف. وهو دليل – رغم وجود علاقات دبلوماسية بينها وبين تل أبيب. لقد استطاعت جنوب إفريقيا أن تتجاوز المصالح الاقتصادية وتضرب بها عرض الحائط، وانتصرت للقيّم الإنسانيّة النبيلة، وعلى رأسها نصرة المظلوم مهما كانت جنسيته وموقعه ولونه ولغته وهويته، والوقوف في وجه الظالم مهما كانت قوته وهويّته. لقد عانت جنوب إفريقيا من الميز العنصري (الأبارتايد) عقودا من الزمن، منذ الغزو الاحتلال الهولندي والاستيطان الغربي. وذاق أهلها مرارة التعذيب والتقتيل والتطهير العرقي والإبادة الجماعيّة، وخبروا قساوة الظلم والعبوديّة. فلا غرو أن تُقدم حكومة جنوب إفريقيا، وتكون السبّاقة في المطالبة بمحاسبة مجرمي الحرب الصهيونيّة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة والضفّة الغربيّة.

وما يثلج الجوانح حقا، تلك المرافعة التي أدّها المحاميّة الجنوب إفريقيّة، عديلة هاشم، بكل اقتدار ومهنيّة وموضوعيّة وروح إنسنيّة شفّافة، مقرونة بأدّلة دامغة ووقائع ثابتة، نقلتها كاميرات العالم، وشاهدتها عيون الأحرار عبر كوكبنا الأرضي إلاّ تلك العيون العمياء او الحولاء، وتفاعلت معها الضمائر الإنسانيّة الحرّة، الحيّة إلاّ تلك الضمائر التي رانت الله عليها أكاذيب الصهاينة وأوهامهم وأنبائهم المزيّفة.

و ممّا جاء في مرافعة المحامية الجنوب إفريقية عديلة هاشم، عضو الفريق الجنوب الإفريقي في محكمة العدل: " غزّة التي تُعدّ واحدة من أكبر الأماكن كثافة سكانية في العالم، هي موطن حوالي 2.3 مليون فلسطيني نصفهم تقريبا أطفال. خلال  96 يوما الماضيّة خضعت غزّة لما وُصف بأنّه واحدة من أشدّ حملات القصف في تاريخ الحرب الحديثة. الفلسطينيّون في غزّة يُقتلون بأسلحة وقنابل إسرائيليّة من الجوّ والبرّ والبحر، كما أنّهم معرّضون لخطر الموت الفوري، بسبب الجوع والعطش والأمراض، نتيجة للحصار المستمّر من قبل إسرائيل، وتدمير المدن الفلسطينيّة وعدم كفاية المساعدات المسموح بها للوصول إلى السكان الفلسطينيين، واستحالة توزيع هذه المساعدات المحدودة أثناء سقوط القنابل "

لعلّ العالم الغربي المؤيّد للصهاينة تأييدا مطلقا، وعلى رأسه الولايات المتّحدة الأمريكيّة وانجلترا، يستفيق من رعونته، ويستعيد وعيه، ويثوب إلى رشده، ويضع الحقيقة في موضعها. وإنّه لمن مصلحة العالم الغربي أن يدرك – قبل فوات الأوان – الخطر الذي تمثّله الإيديولوجيّة الصهيونيّة على شعوب العالم جمعاء. ويعي العقلاء أنّ الفكر الصهيوني لا علاقة له بالملّة اليهوديّة – الموسويّة، ولا بالإبراهميّة التي تروّج لها بعض الأقلام لثقافيّة الغربيّة والمنابر السياسيّة، بهدف ترسيخ فكرة التعايش السلمي في الشرق الأوسط، وترجمة فكرة حلّ الدولتين على مبدإ الأرض مقابل السلام . وهي أفكار يوتوبيّة ومساع فاشلة سلفا، لأنّ قائمة في نيّتها وغايتها على تصفيّة القضيّة الفلسطينيّة، وعلى رأسها إخماد روح المقاومة في نفوس الأجيال الفلسطينيّة ، إضافة إلى زرع ثقافة النسيان وإعدام الذاكرة والاستسلام للأمر الواقع.

لقد عرّت الهجمة الشرسة على أهل غزّة الوجه الحقيقي البشع للصهيونيّة العالميّة - التي يريد الغرب وأذنابه من المطبّعين العرب والمطبّلين - وهو وجه عمل الغرب وسعى بكل الوسائل الماديّة والمعنويّة والأخلاقيّة إلى تجميله في غرف الزيف والخداع، وتقديمه للعالم في صورة أفلاطونيّة مثاليّة. وإنّه لمن المؤسف حقّا أن يصدّق العقل الغربي الأوهام والأساطير والتقاريرالزائفة  ويتغاضى ، بل يتعامى عن تصديق صور المجازر المروّعة والإبادة الجماعيّة في غزّة الأبيّة. إنّ صهاينة القرن الواحد والعشرين قد أطهروا للعالم - بقصد أو بدونه – أنّهم على استعداد تام لتدمير البشريّة وتعجيل يوم القيامة  بحجّة حقّ الدفاع عن النفس. فقد ألقت طائراتهم الحربيّة المصنّعة في الولايات المتصنّعة الأمريكية ودول الغرب، آلاف الأطنان على رؤوس السكان الأبرياء ؛ من الأطفال والرضع والنساء والشيوخ، ثم يأتي قادة الصهيونيّة إلى وصف جيشهم بأنّه أكثر أخلاقيّة في العالم. فكيف كان سيفعل بأهل غزّة لم يكن كذلك، كما زعم قادة الكذب والتزييف ؟ إنّه، فعلا، كما قالت العرب قديما (شرّ البليّة ما يضحك)، وإنّه لضحك مؤلم لوطأة المأساة الفظيعة.  إنّهم يكذبون كيّ يصدّقهم الغافلون، عملا بمقولة غوبلز (اكذب، اكذب حتى يصدّقك الآخرون).

لقد أفحم فريق الدفاع الجنوب إفريقي بالدلائل الدامغة والحقائق الثابتة المدعمة بالصور والمشاهد، الفريق الصهيوني، الذي ظهر مرتبكا، قلقا، ضائعا كجرذ في بالوعات  لندن العتيقة.   أمام هيئة المحكمة الدوليّة، لكونه لا يملك، في ملّفه، ما يمكن أن يغطّي شمس الحقيقة، و ينفي جناية الإبادة لجماعيّة والتطهير العرقي في غزة. وهو الذي أضاع محاميّه البريطاني بعض أوراقه وهو في الطريق إلى المحكمة للمرافعة، واختلطت عليه العبارات والجمل والكلمات. إنّه لمنظر يترجم ما وصلت إليه الفلسفة الغربيّة المتطرّفة والمتعجرفة.

إذا لم تسمّ الهجمة الصهيونيّة على الفلسطينيين في غزّة من جيش الهجوم الصهيوني - وليس جيش الدفاع كما يزعمون – إبادة جماعيّة، فما هي الوصفة المناسبة والتسميّة العادلة لها ؟ إذا لم يكن الحصار العسكري والمادي على غزّة ؛ قطع مواد الماء والكهرباء والدواء والغذاء، ومنع دخولها من المعابر المعلومة، كمعبر رفح، إذا لم نسمّه هذا كلّه إبادة جماعيّة ، فما هي التسميّة اللائقة به ؟ فإذا لم نسمّها كذلك، نكون قد ارتكبنا جناية لغويّة، مصطلحيّة. مفهوميّة. لقد تعوّد الفكر الغربي المتطرّف على تزييف هويّة الآخر، وسلب حقوقه اللغويّة، ومحو حسناته، وإلصاق السيّئات به. إنّ الشرق - في نظر الغرب – هو منبع التطرّف والإرهاب والكراهيّة، وهو مصدر الشرّ والتهديد. بينا الحقيقة أنّ الغرب هو المعتدي الحقيقي على الشرق. وهو الذي قام بتهجيرالصهاينة  وبعض اليهود المغرّر بهم إلى فلسطين، وبثّ فيهم روح العداوة للعرب والمسلمين والنصارى الفلسطينيين. وصوّر لهم فلسطين أرضا للميعاد، وجنّتهم الموعودة.

و الحقيقة، أنّ غباء الصهاينة وطمعهم وخبث سرائرهم، أعمتهم عن إدراك المغزى من وعد بلفور، وهو تهجير اليهود من أوربا والتخلّص منهم، بعدما أثخنوهم تعذيبا وقتلا وإبادة. وها هم الصهاينة يرتكبون، بكل عنجهيّة ورعونة، الإبادة التي تعرّض له أسلافهم  بعد سقوط الأندلس وأثناء الحرب العالميّة الثانيّة على أيدي الصليبيين المدعومين بالفكر الكنسي المتطرّف.

حسنا، لنفترض أنّ حماس منظّمة إرهابيّة ودمويّة، وأن الفلسطينيين القاطنين بقطاع غزّة كلّهم إرهابيّون، هل هذا يبيح لقادة الجيش الصهيوني " الذي يوصف بأنّه جيش دفاعيّ أكثر أخلاقيّة في العالم " أن يمارس الإبادة الجماعيّة ويحوّل غزّة إلى محرقة أشدّ اضطراما من المحرقة النازيّة.

ولنفترض أنّ أهل غزّة وحوش حيوانيّة - كما نعتهم أحد أعضاء مجلس الحرب الصهيوني – و قطعان من الذئاب والثعالب، هل يبيح ذلك قتلهم وإبادتهم بالشكل الوحشي. إنّه لمن العجب العجاب أن يرتكب الصهاينة جرائمهم الفظيعة على مرأى من العالم، الذي يتشدّق بالحريّة وحقوق الإنسان والحيوان.

إنّ منطق القوّة الضاربة والعنجهيّة والساديّة والاستعلاء، هو الذي يزجي أساطيل الولايات المتحدة وغلمانها الغربيين  في خوض غمار البحار والمحيطات البعيدة عن مياهها الإقليميّة وأراضيها، وكأنّها تمتلك تفويضا من شعوب الأرض كلّها. ولا أدري كيف يسير هذا التناغم بانسجام بين الجمهوريّة الديمقراطيّة الأمريكيّة من جهة والصهيونيّة من جهة أخرى، بين الحريّة والاستبداد، بين حقوق الإنسان والإبادة الجماعيّة. هل أصيب الغرب بالعمى أمام هذا الجنون الصهيوني؟ أم أذهب عقله سحرة فرعون؟.

إنّ ادّعاء الصهاينة بأنّهم ساميّون، لا أساس له من الصحّة، ولا تؤيّده سلوكاتهم وأخلاقهم وجرائمهم في حق الشعب الفلسطيني منذ أكثر من سبعة عقود. إنّ الساميّة براء من الصهاينة، بل ما أبعد هذا الكيان الصهيوني عن الملّة اليهوديّة، الموسويّة، والعرق السامي. هل من شيّم السامييّن إبادة الأطفال والنساء والرضع الحدّج والشيوخ والمرضى والأسرى؟ هل من أخلاقهم قنبلة البيوت والعمارات الآهلة بالسكان ليلا ونهارا، ودون أدنى تمييز، بحجة محاربة الإرهاب؟ إنّ مناظر الضحايا المقطّعة أجسادهم، تهت الركام، والمبعثرة أشلاؤهم يمينا وشمالا، ليدمي القلوب، ولو كانت من حجر. إنّه دليل دامغ على مقدار الحقد والبغضاء والكراهيّة التي يكنّها الصهاينة للجنس البشري. لقد فاقت درجة الجنون. وأذهلت أحرار العالم شرقا وغربا جنوبا وشمالا . والسؤال الذي سيبقى عالقا، إلى أن يثبت العكس: هل يمكن أن يعيش الشرق الأوسط والعالم في سلام وطمأنينة وتعاون في ظلّ فلسفة دمويّة رعناء ؟ إنّ للحروب أخلاق، مهما كانت دوافعها وغاياتها، إلاّ هذه الحرب على غزّة، فقد تجرّدت من كلّ خلق إنساني، وبدت وكأنّ مضرمي نيرانها، من الصهاينة صمٌّ، بكمٌ، عميٌ، قد فقدوا عقولهم وعواطفهم وبصائرهم.

وأخيرا أجدّد التحية لدولة جنوب إفريقيا، ولفريقها القانوني الذي أبدع في مرافعته، وأظهر للعالم صورة ناصعة  للإنسانيّة الحقّة، التي لا يقف في وجهها البعد الجغرافي ولا الاختلاف الإثني والإيديولوجي والديني. إنّها آية من آيات التراحم والتكافل والمواساة.

***

علي فضيل العربي – أديب وكاتب جزائري

 

في المثقف اليوم