أقلام حرة

عقيل العبود: أحداث محكومة بالهلع

ذات ليلة من شتاءات برد مسكون بالخوف، ومع تداعيات أحداث محكومة بالموت، والسجن، والظلام، قرر  صاحبي أن يترك كل ما بحوزته من ممتلكات: مكتبته، غرفة نومه، وعلى غرار  ذلك قطعة الأرض الزراعية التي حصل عليها وفقا لنظام المزايدة العلنية الخاصة بموظفي وزارة المالية، بعد أن تركها لعمه مقابل مبلغا زهيدا،  ثمنا لتكاليف هجرة مقدارها وطن، وعائلة، ووظيفة، وأبناء، واصدقاء.

ولكن، وكما يبدو في مثل هذه الحالات، أنه لا يوجد للإنسان من خيار إلا أن ينجو بنفسه بعيدا عن نظام لا يعرف غير البطش، والقتل، والتعذيب.

وتلك فرصته الأخيرة، وملاذه الذي ربما يكون آمنا،  لكي ينطلق عبره إلى مكان آخر، بعد أن نجا مرتين من الموت؛ الأولى إبان الحرب العراقية الإيرانية، والثانية بعد هجوم قوات الحرس الخاص على مدن الجنوب، فترة أحداث ما أطلق عليه بالانتفاضة الشعبانية، يوم تم دفن آلاف الأحياء  في مقابر جماعية تحت الأرض، بعد إطلاق الرصاص عليهم بشكل عشوائي.

ولذلك وبعد تكرار الاستدعاءات الأمنية، وبتحذير من أحد المقربين الذين يعملون مع السلطة، أدرك أن مصيره سيكون إسوة بأولئك الذين تم تغييبهم في زنازين الأمن العامة، والمخابرات، ولذلك لم يبق أمامه إلا أن يودع الأرض التي ترعرع فيها أيام الطفولة، يوم كان والده صاحب منصب وظيفي يؤهله لأن يكون مُنَّعَما، وتلك فترة ستينية رافقت حكم الرئيس عبد الرحمن محمد عارف، لتمضي أشواطها بدفء، ومحبة، وسلام. 

لكن الأيام تمضي سريعة، وتقطع عبر مسيرتها أشواط السنين المحملة بالقهر، والاستلاب، وغياب الأحباب.

ولذلك ومع فترة يسود أحوالها الهلع، كان المثقفين من غير البعثيين، بل وحتى البعض من البعثيين المسالمين مهددين بالبطش، والجور، والطغيان. 

كان البرد القارس يختلط مع الظلام، ليغطي أجواء مدينته التي كأنها اكتحلت بلون السواد، لاداء مراسيم الوداع حزنا قبل أن يغادرها واحدا من أبنائها الأوفياء، بعيدا صوب محطة قد تبدو مجهولة، وينتاب أجوائها الغموض.

دبَّ الخوف، والترقب في أوصاله بشكل يجعله مستسلما للسجن، حيث من المؤكد أن تكون علامات الحذر واضحة لمسافر وُضِعَ اسمه تحت  المراقبة الأمنية، ومع هذا فهو يبحث عن وسيلة للخلاص في تلك الدائرة نفسها، فهو لم يصدق مطلقا حصوله على جواز سفر بعد  ملابسات، كادت تؤدي به إلى السجن، لولا أنه أن دفع قرابة كل ما لديه من مال لتسهيل عملية استلام الوثيقة التي تساعده على السفر  بإعجوبة.

ولذلك يوم حاز على ما يريد، لم يكن لديه ما يمتلك إلا حقيبة سفر صغيرة، وعلب دخان فايسوري اشتراها، لكي يربح بعض المال بحسب فرق العملة،  لقاء بيعها في الساحة الهاشمية، ما يساعده على  العيش ليومين، أو لثلاثة أيام،  لعله يجد عملا فيما بعد،  يساعده على العيش، وتلكم حقيقة خياراتها تفرض على الإنسان أن يتجاوز محنة التحدي، بكل ما تحتويه هذه المقولة من تفاصيل.

صارت الساعات تمشي، والمنشآت الكبيرة تجر أحمال القلوب المتعبة، والحالمة في آن واحد، ملبدة بمشاهد عالم مجهول، حيث تختلط الأحلام مع الخوف، وترتبط معها تفاصيل  الذكريات التي تراها تغوص في محيط أفكار  ومشاعر يجتاحها البؤس.

ومع توالي الأمواج الصاخبة من القلق، والاضطراب، وجد نفسه وفي تمام الساعة الثانية بعد منتصف ليلة من ليال كانون الثاني، جالسا عند  رصيف بائس من أرصفة الساحة الهاشمية، حيث لم يكن ما بحوزته من المال ما يكفيه للمنام، والمأكل، والملبس.

ولذلك صار من الواجب عليه أن يبيع علب السجائر التي  تعد رصيده الوحيد، فهو ببيعها يقدر أن يحصل على ما يغطي نفقة منامه، ولو في فندق شعبي بائس، مع وجبة إفطار رخيصة.

في اليوم الثاني نفذ ما لديه من المال، بعد أن عجز عن الحصول على عمل، حتى أحس بالجوع، والبرد، والنعاس، ولذلك قرر أن ينام في الشارع، عند المكان الذي يفترش فيه باعة البسطات بضاعتهم، وقسم كبير منهم من العراقيين، وتلك فترة شهد العراق فيها عملية حصار بائس. 

لم يبق لديه إلا بعض (الشلنات)، وهي لا تساوي إلا دراهم معدودة بحسب العملة العراقية، اجتاحته رغبة لأن يطلب صحن فول، وهو أرخص الطعام، وقرر أن يفاتح النادل وكان من جنسية مصرية، معلنا رغبته للعمل، لعله يجد ضالته المنشودة، ولذلك ومن حسن الصدف أن صاحب المطعم كان بحاجة فعلا إلى عامل.

كان الأمر بالنسبة لصاحبي مفرحا جدا، حيث تم تشغيله كعامل لتنظيف الصحون، والقدور ولساعات متأخرة في المطبخ،  ما يفرض عليه المبيت داخل المطعم، مقابل دينارين،  ومقابل أيضا أن يسلم جوازه العراقي لإدارة المطعم.

وهنالك تمت الموافقة على أن يحدد زاوية في الطابق الثاني، لتكون مكانا له للمنام، لم يكن الأمر سهلا بالنسبة إليه، بعد أن شعر أن عليه أن يعمل مثل ماكنة دون توقف، مقابل أن يأكل، ويشرب، وينام ساعات قليلة.

وهذا ما يجعله أمام فرصة، يشعر معها بأنه  استطاع أن يحقق معنى وجوده في مكان يصعب العمل فيه، لكن الأمر لم يكن سهلا،  فهو لم يتسن له من النوم إلا بضع ساعات، وأن جهوده المبذولة لقاء الأجر الذي كان يتقاضاه، يعادل جهود عمال ثلاثة، حتى وجد نفسه ذات يوم منهكا لا  يقوى أن يستمر. 

ولذلك من حسن الصدف وبعد مشاجرة حصلت له مع صاحب المطعم، وبعد مرور عشرين يوما، قرر أن يترك عمله، ويسافر إلى أربد بصحبة رفيق سفره الذي نصحه أن يشاركه في  تأجير غرفة بخمسة دنانير أردني.

 ففي أربد، يتاح له العمل،  ولو عن طريق (مسطر العمالة) أسوة برفيق سفره، كما تم الاتفاق عليه لاحقا.

أحس صاحبي أنه بات مثل طائر أُطلِق العنان لجناحيه لأن يحلقَ بعيدا عن القفص الذي سجن فيه أكثر من عشرين يوما، كان الأمر مفرحا بالنسبة إليه، حيث استطاع الحصول على أجره البالغ اربعين دينارا أردنيًا، وهذا ما يمنحه الفرصة لأن يأكل، ويشرب، وينام  لحين أن  تتاح له فرصة عمل أخرى مناسبة، ومكان يأوي إليه.  

***

عقيل العبود

 

في المثقف اليوم