أقلام حرة

احمد عزيز الدين: فيض التغاريد

تمر الحياة بنا في معترك الليل والنهار بين العسر واليسر ورغد العيش وقسوة الحياة، وسرعان ما تمضي بنا إلي بغيتها ، المرء منا لا يستقر به الحال على وتيرة واحدة، فذاك قطر من غيث من فيض من جاد بالحياة وسخر للإنسان الكون، ولكن تنوع طباع البشر كالتنوع المنتشر لنتعلم منه بالنظر كما تعلم الإنسان الأول في النظر إلي ذلك التنوع المتناسق بآيات الله الكونية والمرئية .

ففي رحلتي مؤخر إلي احدي مدن الشمال، وهي مدينة السادات والتي وضع أساس نشأتها الراحل محمد أنور السادات وهي للحق مدينة رائعة في التخطيط والعمران قلّ ما نجد مثلها في محافظات الارياف وخاصة إذا ما نظرنا للفترة الزمنية التي أنشأت المدينة فيها، فالتخطيط كان سابق للزمان والمكان حقيقة، ولكن ما أردت الإشارة إليه ذالك التنوع الفكري والإنساني ولم اقصد التخطيط والعمران فقد سبقني إليه الكثير من الكتاب وأصحاب الفكر والرأي فتعالوا بنا ننظر إلي المفارقات الفارقة بين الماضي والحاضر .

ففي طريق العودة كان مقدر لي المرور على حي الزمالك ذاك الحي الراقي العريق والمصمم بعبقرية الفنان، وقد روعي عند نشأته كل التفاصيل البسيطة التي تجمع بين الذوق العالي الرفيع والخصوصية، حتي انه يطلق عليه حي السفارات نظراً لوجود العديد منها، ولكن ليس هذا ايضاً ما لفت نظري فأنا لم تكن المرة الأولي التي أشاهد فيه هذا الحي الجميل العريق بكل التفاصيل حتي فيما من يقطن ذلك الحي، وكأن الأقدار اختارت السكان للمكان كما اختارت المكان والزمان للسكان .

لكن ما إن اعتليت كوبري أبو العلا وتحركت بي العربة بضعة أمتار حتي داهمني الفارق الشاسع بين الشمال والجنوب، وبين الجمال والقبح، وبين النظام والشفافية المفرطة فقد وحد مينا القطرين لتعتلي نث حتب مملكة الشمال لتبدع في   العمارة بعد أن كانت مملكة الجنوب لها النصيب الأكبر، ولكن دعونا نعود إدراجنا من حيث بدئنا فالليل كان دائما القاسم المشترك بين القبح والجمال.

فما أن تنزل من كوبري أبو العلا حتي تري حي الأوزبكية وأول ما يقابلك (القللي) والباعة الجائلين وامتلاك الأرصفة ومساحات من الشارع من أصحاب المحلات على اليسار ومدرسة الفرج علي اليمين، وكأنه دعاء السفر للراكب بالفرج من عند الله بأنها سوف تفرج يوماً بالإصلاح، ولكن مع الصبر ثم انعطفت يساراً بعد بضعة أمتار لمنطقة الإسعاف، وعلى الرغم من كونها مكان هادئ والشوارع مزدانة بالأشجار إلا أنها كومة من الدور القديمة لا تكاد تري بها أثر للحياة ولا ضجيج البيع والشراء كما هو الحال في جارتها (القللى) تلك هي التناقضات الحياتية والتي لا تسير على وتيرة واحدة، ثم ميدان رمسيس حيث ملتقي أهل الريف والحاضرة، وعلي الرغم من الإصلاحات التي طالت الميدان ومحطة القطار وعلي الرغم من رحابة الميدان إلا أن يد الأهمال قد اكتنفت كل شيء فقد امتلئ الميدان بالعديد من السرادق للبيع والشراء أمام مسجد الفتح بعدما أغلق الباب الرئيسي للمسجد بالأكشاك لمنتجات القوات المسلحة وسار على نهجه العامة في قص  الأثر في انشاء السرادق للبيع، وتحولت حدائق الميدان لسوق تجاري ردئ، وعلا أصوات المذياع بالنداءات، وليس بالأذان حتي إنك تصم الأذان عند مرورك في تلك الطرقات المتزاحمة بأتلال البضائع ومن ذلك الملوث السمعي والبصري، فهل هذا هو التنوع المطلوب؟ أم العشوائية البلهاء التي تقتل الذوق العام لدي المواطن !!

ناهيك عن المقاهي ومواقف العربات التي تحتل الشوارع بلا تنظيم في سيمفونية غاية في البشاعة بين أصوات النداءات المختلفة من سائقي العربات وأصوات الباعة الجائلين، والتي تغطي على صوت النداء للصلاة فهل هذه العاصمة التاريخية التي تبتغي الحكومة تقديمها للعالم وتصبح مزار للسياح في يوماً ما؟

لا غرر في أن التنوع مطلوب والاختلاف ضرورة حتمية وسنّْة كونية، ولكن متي ما أصبحت العشوائية منهج حياة وطبيعة مكانية أصبح الاصلاح والتغيير فرض واجب النفاذ .

عوداً إلي عنوان المقال فيض التغاريد لم اختار ذلك العنوان عبثاً، ولكن ما اوجده ما آل إلية حال الثقافة والمثقفين فالطبيعي علي المثقف حضور الندوات الثقافية والتواصل داخل الصالونات الثقافية، ولكن ما يفطر القلوب والالباب ذلك الأمر الذي باتت فيه الثقافة سلعة رديئة لأصحاب المنافع والمنافقين، وأصبحت تلك الندوات والصالونات بعيدة عن الهدف الرئيسي لنشر الوعي واعلاء الكلمة الصادقة والتجرد في القول والعمل، فقد أصبحت تلك الأماكن والندوات كمن يركب الموج بقارب بلا مجداف، فلا عنوان ثابت ولا برنامج يقتفي أثره ولربما كانت تلك الندوات والصالونات للمصالح الشخصية، والتي أصبحت تدور حول إظهار الضيف أكثر من النخبة المثقفة حتي وإن كان الضيف لا علاقة له بالأدب والأدباء .

في ذلك المكان والزمان تفرد الضيف بالحديث طيلة الوقت تاركاً بعض الأوقات الضيقة للشعراء والأدباء لعرض مادتهم الثقافية في حديث أقرب لسرد سيرته الذاتية، ناهيك عن المغالطات لفترة زمنية شاهدناها من زمن وجيز، والغريب في الأمر بأن معظم من حضر للتكريم رحل مباشرتاً عن المكان مخلف وراءه الضيف حتي خلت القاعة من الرواد إلا القليل جدا والذي يعدّ على اصابع اليد الواحدة ناهيك عن السلبيات التي اعتلت الأنفس فلماذا يحضر المثقف ندوة لا يكون له فيها حديث ولا تنتمي حتي للمعلن عنه للموضوع العام للندوة، وهل هذا تنوع مطلوب ام سوء تنظيم وحجة واهية لاستضافة شخصية مرموقة للاستفادة من مكانتها الوظيفية بعيداً عن التثقيف، والموضوعات البناءة، ولماذا ابتعدنا عن الموروث الثقافي؟ ولماذا تنازل المثقف عن مبادئه وهمشت كل مصادرها التنويرية حتي أصبح الكتاب يباع بأرخص من قيمته الفعلية إن وجد من يقتنيه .

ويبقي الشعر يا وطني ...

لمن يقال الشعر بالأوزان فيك يا وطني

لمن صفق خلف الرأي بالقلمِ .

أم لأغراض طاح بها للخلد هجاء صبي

لا يفقه الشعر والأحزان والعلمي .

لمن يقال الشعر في ندوة للري منعقدة

في زيفها احاديث النجم للممي .

قد غرت يوماً علي الأشعار أيا قلمي

وهبت زفرات المسك بالعلني .

وجردت سيفاً أقتص للحرف في ذؤابته

أطياف ما لها في الشعر مرتجلي .

فكتب وصفاً في أبيات القصيد شارحة

لعلا القوم للإفهام تنتقدي .

لا أنصف القوم في التصفيق والعدمي

لا يصلح الملح من به خللي .

ومن كان في الرأي كحمل الريح أتربة

عفر وجوه القوم في الرصدي.

أدر في مجمل القول أنصاف في معزتها

كلحن طروب يهز الوجد للبدني.

أصلحت اثواب لخاطرة كالكأس تغتنمي

فصببت أقداح الخمر للوطني.

ناشدة في انفس القوم إصلاح من الوجل

لكن عديم الرأي ما له قلمي .

يا ندوة السيف في الأشعار كنا نحسبها

رقائق الديباج ما لها طربي .

أني الطروب إذا ما الشعر للأوصاف يعلمنا

لا تنبطح في الأوزان والنغمي.

طائر الغيث أشعل في الدجى بالأنوار قلمي

وارهق الجمع واقتفي اثري .

***

بقلم: احمد عزيز الدين احمد

كاتب وروائي وشاعر

في المثقف اليوم