مقاربات فنية وحضارية

الحيوية في الفن التشكيلي العراقي .. فن النحت أنموذجا / حكمت مهدي جبار

وقبل الخوض في تفاصيل الموضوع أرتأينا ان نتطرق الى معنى مفهوم (الحيوية) بشكل عام لكي يتسنى لنا بالتالي معرفة وما معنى  الحيوية في الفن .عرفت (الحيوية ) كمفهوم فلسفي بأنها (1) الأيمان بالأرواح كمحرك ومتحكم بكل ما في الكون من أشياء وظواهر. وأن لكل شيء ولكل ظاهرة في الطبيعة جوهرا فعالا غير مادي يسيره وهو الروح.أما (الحيـــوية) فــــي الفنون التشكيلية. Art blastic فيقصد بها ان وراء كل منجز فني ابداعي creativeness art توجد حيوية وحياة وحركة، وهي حيوية الفنان المبدع. اي روحية العمل (الخلاقة ) وتأثيراتها على الأبداع. فالفنان السومري الأول في ارض الرافدين (2) لم ينجز بنائية اشكاله الفنية لتمثيل قوى مادية بل لتجسيد افكار افرغت فيها حيوية هائلة مما هو فكري ، محولة أياها الى خطابا رمزيا وقد اتخذ صورا عقلية مستندة الى مزيج متداخل من الأنظمة السايكولوجية والمايثولوجية والحاجات الروحية.فأذا كان هربرت ريد Red

Hirbert(3) قد قال أن بيكاسو هو أول من اوحى بظاهرة (الحيوية) في الفن.فأنه نسي ان الفنان العراقي القديم هو اول من وعى عمله الفني وأسس لمنجز تشكيلي عظيم استلهمت منه كل فنون الأمم قواعدها وأسسها.فالفنان الرافديني لم يكن مجرد صانع للتمثال على الطريقة المهارية والتكنيكية فقط. انما هو ينفذ عمله الفني بقيامه  بعملية ربط عضوية بين ظواهر الطبيعة المدهشة وتنفيذ كتلة الطين وتحويلها الى شكل يتعدى حدود الشكلانية بأتجاه استخلاص جوهرها ،كما عبر عنها الدكتور زهير عبد الصاحب.أستاذ تاريخ الفن في اكاديمية الفنون الجميلة بجامعة بغداد.

وفي جانب آخريقول الفنان والنحات العالمي (هنري مور)Hinre  Mour) (ان الحيوية تعني قوة التعبير وان العمل الفني يجب ان يمتلك حيوية خاصة به ، وأن يملك طاقة كامنة وحياة عارفة خاصة به، متنقلا عن الشيء الذي يمثله، وأذا امتلك العمل الفني حيوية خالصة فلا داعي ان نطلق كلمة الجمال عليه .لأن الحيوية تغني عن الجمال) لقد ارتبط المنجز الابداعي منذ ولادة وعي الانسان بالاشياء حوله بنوع من الأسئلة والسعي نحو اكتشاف تلك الاشياء من خلال البحث عن وسائل بأمكانية تطويع المادة وتشكيلها.

ورغم ان فن النحت العراقي له مكانته الكبيرة بين الفنون العراقية الأخرى الا انه لم يأخذ نصيبه كما هو مع الفنون الأخرى فبقي الى مناقشات وتحليلات و\راسات متنوعة وهو(4) (بحاجة ماسة الى اثارة مداخلات تتصدى لمكونات الرؤية الجمالية vaison fine والتقنية بوصفها واسطة لتثبيت الموقف النقدي من العالم).ولقد حفلت المسيرة التشكيلية العراقية بعشرات من المبدعين والذين شكلوا بمثابة رموزا للمنجز الأبداعي الرافديني .

وأسسوا لمشاريع لأعادة انتاج الحيوية في الفن العراقي على مدى العصور، وقد امتلأت بهم الساحة التشكيلية العراقية سواء على مستوى النحت او الرسم او الأثنين معا. نذكر منهم اربعة من الرواد الذين ثبتوا دعائم الحركة التشكيلية في العراق لاسيما في مجال فن النحت.

جواد سليم:

تميز جواد سليم بتعدد مواهبه فكان رساما ونحاتا وفي مجال النحت تجاوز باساليبه الطرق التقليدية للنحت بحيث جعل من منجزه الابداعي النحتي قضية جمالية قائمة على اسس روحية مثيرة للدهشة واللذة عبر مراحل عمله الفني وبـ (حيوية) كبيرة.ورغم ان جوادا كان ينتمي الى المرحلة الخمسينية من القرن العشرين ،فأنه كان يفكر بخلق اعلى مستوى من الابداع ، حيث تمكن من زحزحة الطرق التقليدية في الرؤى والأساليب الفنية آنذاك، لتكون فيما بعد مرجعية فنية تشكيلية عراقية خالصة للأجيال التالية.

لقد وعى رائدنا جواد سليم عمله الفني وتفاعل معه بقوة وسعى وهو يحول المادة الجماد طين ،خشب، معدن.  الى كيان طافح بـ(الحيوية) من خلال ادراكه لحركة اشكاله وافعالها ومعطياتها الجمالية.بعد ان غادر ومعه عشرات المثقفين من كتاب قصة وشعراء الفترة الأربعينية التقليدية التي اهتمت باللوحة او التمثال التزييني الكمالي الأستهلاكي ، حيث عبد القادر الرسام وعاصم حافظ وعطا صبري وغيرهم من التشكيليين ذوالأسلوب الواقعي التزييني.لذلك فقد عمق جوادا الرؤية التشكيلية العراقية ودعا الى التجديد والتحديث. واعاد انتاج (حيوية) فن النحت العراقي بشكله المعاصر مستلهما موروثه الحضاري الرافديني والفن الاسلامي معا.

خالد الرحال:

يعتبر خالد الرحال واحدا من الفنانين العراقيين الكبار الذين شكلوا نموذجا (لحيوية) التجربة التشكيلية العراقية على مدى سنين طوال.ذلك انه لم يكن نحاتا فحسب انما يمكن اعتباره الى جانب كونه فنانا باحثا في اسرار الطين ومنقبا عن قيمه التعبيرية والجمالية . كان الرحال يؤكد اعتزازه بهوية فنه الرافديني الأصيل وبـ (حيوية) التجربة الأبداعية العراقية ، ناقدا تأثر البعض بالمدارس الفنية الغربية.وقد تمثلت (حيوية) اعمال الرحال بأقترابه من فكرة الخلود بأستخدامه وسائل وادوات جمالية باحثا عن الحلم والسحر والجمال ، كما وصفه الفنان الأستاذ عاصم عبد الأمير في تنظيراته عن الفن التشكيلي العراقي.

اما الدليل الآخر على (حيوية ) الأعمال الفنية للرحال هو شغفه بالحياة ومغرياتها وعشقه لجمالها..وفي اعماله تتضح حقيقة ان النحت العراقي هو الأكثر تفوقا والأنصع ابداعا من الفنون الأخرى .

 محمد غني حكمت:

يقف محمد غني حكمت الى جانب رواد الفن العراقي المعاصر بشموخ وقد تميز بأهتمامه بالمضامين والمعاني التي تضمها اعماله النحتية ، فضلا عن قيمها الجمالية وغناها وثراء مشاهدها.لقد تمثلت (حيوية) اعمال الفنان محمد غني حكمت بعمقها في ثنايا الوعي واسراره وذلك من خلال غزارة انتاجه من القطع النحتية موثقا القيم الأجتماعية والشعبية . وكانت من اهم سماته هي شدة التنوع في تعامله مع المادة . معتمدا على تكوينات وتعبيرات محاكيا عالم الأساطير بأعتباره مستودع تأريخي للأبداع العراقي على طول السنين. وما ذلك الا دليل على حيوية التجربة وتفاعلها الراسخ مع تطورات العقل البشري .أستفاد محمد غني حكمت من القيم التعبيرية للخط بشكل واع ومبدع. فهو تعامل مع الخط  ليس مجرد خط ، انما هو اثر لين تتركه الاداة على الطين او الحشب او المعدن مضيفا اليه التكورات والتحدبات والمنحنيات باعتبار ان تلك السمات هي رموز للحياة تزيد من ايقاع حركاتها المتصاعدة المتناغمة بما لايؤثر على حركة الأشاكل.فكانت اشكاله طافحة بـ (الحيوية) والنماء .بقي محمد غني حكمت شديد التواصل مع تأريخه الرافديني مستلهما فنه من فنون سومر واشور واكد وبابل ، ولم تغريه الحداثة وبريق الفن الغربي ولم يغادر واقعه العراقي بمحمولاته التراثية والشعبية الغنية.

اسماعيل فتاح الترك:

عندما برز اسماعيل فتاح الترك في المحفل الابداعي التشكيلي جاء وهو يحمل معه سر ابداعه ، تمثل السر في غاياته التجديدية التحديثية للفن التشكيلي العراقي. من خلال منحوتاته التي تضمنت ملامح التجديد وأهمها . التعاطف مع الأنسانية التي تعاني الفواجع والمأساة والأحزان . فضلا عن معالجاته الفنية للمواقف الأنسانية في الحب والبطولة والمأساة . فكانت تلك مفردات هيمنت على خياله الخصب المتوثب دائما. فشكلت عناصر لأعادة (حيوية ) الهوية العراقية في الفن التشكيلي الممتدة من التماثيل السومرية والأكدية والاشورية والبابلية مرورا بالفن الأسلامي حيث القباب والأقواس والأهلة.

فقد جمع بين اسطورية الفن الرافديني المليء بـ (الحيوية) والفن الأسلامي ذو المسحة الدينية الروحانية المبجلة. وكان ينفذ مفردات عمله بعفوية وتلقائية مصحوبة بقصدية مشاكسة.لقد كان الفنان الترك فنانا مثابرا ، حيث كنت اراقبه  وهو منشغل مع طلابه في قاعات العمل ايام كنا طلابا في كلية الفنون الجميلة في ثمانينات القرن المنصرم.فكنت اترك غرفة دروسي في الرسم واذهب اليه لأتحدث معه في امور فنية كثيرة. فكان لم يبخل بأي شيء بالأجابة. ولم انسى عبارته المشهورة التي قالها بعد اتمام العمل بمنجزه الخالد (نصب الشهيد) حيث قال : (بعد نصب الشهيد لاأخشى الموت). وهكذا فقد صان الترك الأمانة التأريخية التي حملها لنا اجدادنا منذ الأزمان السحيقة . وبقي محافظا على صدى الماضي الذي انطلق من كلكامش وهو يبحث عن الخلود فآمن ان الأنسان ميت لامحال ولم يبقى منه الا عمله وانجازه وابداعه. ولازال رغم وفاته رمزا لعظمة الفن الأسلامي تحوم روحه بين قبتي نصبه الخالد يتحدى العصور.. ومثلها بقي  حصان جواد سليم يصهل على طول المدى من على جدارية نصب الحرية المتجدد الدائم (بحيويته) ولازالت شهرزاد محمد غني حكمت تسرد حكاياتها في ليالي بغداد رغم كآبتها . وذلك الجلال المهيب للجندي المجهول الوفي يطوف على درعه الذي لم يسقط ، وقد حفر اسم خالد الرحال في اذهان الناس .

 

...............

1– مفاهيم في الفلسفة والاجتماع –   ص 124ـــ احمد خورشيد النورة جي –

دار الشؤون الثفافية – بغداد 1990

 2 – الباحث الأكاديمي الدكتور . زهير عبد الصاحب . مقاله للدكتور زهير صاحب  في مجلة تشكيل . العدد الخامس 2009 ص 29

 3 – مقالة لـ (هربرت ريد)  Hirbert Red ترجمة (فخري خليل) في مجلة آفاق

عربية العدد 7كانون ثان 1993      ص 105 .

 4 – نماذج في معيار النقد . مقالة . عاصم عبد الأمير. مجلة آفاق عربية .1989ص 105

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1776 الخميس 02 / 06 /2011)

 

في المثقف اليوم