مقاربات فنية وحضارية

فنان الحواس المعانة محمود صبري .. وداعا / ساطع هاشم

لكنا قد ادركنا بشكل واضح وبسيط عمق الافكار الخلاقة التي ابتكرها المفكر والفنان الكبير محمود صبري، الذي وصلني مساء امس 13- نيسان – 2012 خبر رحيله المؤلم .

اقول هذا، لقناعتي بان افكاره وفهمه لروح العصر سواءا بالفن او بالسياسة وعلم الاجتماع هي من الثورية والجدية والعمق الفكري، لوكانت قد طبقت لكنا الان في وضع (على الاقل نظريا) افضل بكثير من الان، رغم ادراكي باننا لانستطيع ان نحكم على هكذا اشياء بعد فوات الاوان، وعلينا التعايش مع الواقع واحتمال العالم على علاته، واليوم بوفاته صرت اخشى اكثر من اي وقت سابق في حياتي على من احبهم واعتز بهم واريدهم البقاء معنا اطول وقت ممكن لانارتنا وسط هذا العدم .

تعرفت على الفنان الراحل محمود صبري شخصيا في وقت متأخر وربما متأخر جدا، عندما وهنت قواه وصار شيخا كبيرا فقد الكثير من طاقته الجسدية، لكنه بقي طاقة فكرية لم تنضب، لكني اعرف افكاره وفنه منذ الصبا، واعتبره واحدا من اساتذتي الكبار منذ اكثر من ثلاثين سنة .

في اوائل سنة 1997 عندما كان يقيم في براغ ارسلت اليه ملفا كبيرا يحتوي على الكثير من الجداول والرسومات والخرائط التي تصف فهمي العملي وتطبيقاتي لطريقة الرسم بواقعية الكم، وقد طلبت منه ابداء رأيه والتعليق على تلك الجداول والرسوم وتصحيح الاخطاء، وقد اردت من تلك الرسالة العمل معه في مشروع مشترك، وقد ارسل لي رسالة شفهية عبر صديق مشترك وعدني فيها بالرد في وقت قريب . لكني للاسف لم اتلقى منه اي جواب ولم اكرر الاتصال به بعد طول الانتظار، وبعد ثمانية سنوات في سنة 2005 نشرت مقالة بعنوان – هذه هي واقعية الكم – شرحت بها وجهة نظري في واقعية الكم وتأثيرها على عملي ومنهجي في البحث الفني والجمالي، ومن حسن الحظ فقد اطلع عليها واعجبته وبادر بتواضع الكبار بالاتصال بي ودار حديث بيني وبينه عبر التلفون على مدى ثلاثة ايام متوالية بحدود ساعة ونصف وربما اكثر في اليوم، وهكذا تعرفت على هذه الشخصية النادرة شخصيا وتوثقت علاقتي به، كنت في تلك السنة مشغولا بمعرضي – اللون والعقل / الدينامكية والسكون – في محاولة لربط العلم بالفن عبر نظرية البروفسور البريطاني والاستاذ في جامعة لندن سمير زكي – ادراك اللون من خلال علم الاعصاب - ، وكذلك نظرية - طاقة درجة الصفر – في الفيزياء بمساعدة رئيس قسم الفيزياء البرفسور كريس بنز في جامعة ليستر، وقد كان حديثنا في تلك الساعات عن هذه المواضيع، وقد تحدثت لاحقا الى كلا العالمين البريطانيين عن الفنان محمود صبري وافكاره وتأثيرها على عملي وقد ابدى الرجلين اهتماما كبيرا حتى ان البروفسور كريس بنز طلب مني عنوانه بعد ان اطلع على اراءه باللغة الانكليزية، ثم كتب له رسالة يدعوه فيها الى تقديم محاضرة عن واقعية الكم الى طلبة الدكتوراة في الفيزياء في جامعة ليستر، وقد ارسل لي البروفيسور بنز نسخة منها، لكن لاسباب لم اعرفها لم يرد محمود صبري على الدعوة، وقد  نشرت مجلة الثقافة الجديدة ترجمة لنص تلك الرسالة سنة 2007 ضمن ملف التكريم الخاص عنه لمناسبة بلوغه الثمانين من العمر، وقد فرحت له من القلب لهذا التكريم، وقد اقترح ان اكتب شيئا جديدا عن واقعية الكم لنشرها ضمن الملف  وقد شكرته لطلبه ووعدته بالكتابة، وبعد اسبوع قرأت له بالتلفون فقرات من مقالة لم اكن قد انتهيت من كتابتها  بعنوان – البحث الجمالي والبحث العلمي – وقال انها ملائمة جدا، لكني لم ارسلها لا اليه ولا الى الثقافة الجديدةلاني ترددت في نشرها انذاك لاسباب خاصة، وقد نشرتها بعد ذلك بثلاثة سنوات،  وقرأها عبر الانترنيت .

817-Hedroعلى اني لم اتمكن من اللقاء به شخصيا او زيارته في براغ وبقيت علاقتي به عبر الهاتف، ولم يتحقق ذلك اللقاء بيننا الى ان انتقل للعيش في بريطانيا قبل حوالي ثلاثة سنوات، وقد زرته في شهر ايلول من سنة 2010 وبقيت في ضيافته وابنته الرائعة ياسمين مدة يومين لن انساها ابدا، وقد عرضت عليه صور لبعض اعمالي في واقعية الكم واهديت اليه – سي دي – يحتوي على بعض من تلك الاعمال، كان قد اثنى على بعضها وانتقد اخريات، وكم تأسفت لاني لم اسجل احاديثه وارائه وذكرياته الغزيرة عن فترة الخمسينات والفن والثقافة العراقية كما عاشها، وعلاقته بقادة الحزب الشيوعي العراقي الذين استشهدوا فيما بعد، وخاصة رفيقه وصديقه الشهيد سلام عادل، وسعة اطلاعه على احدث نظريات العلم، وكان في تلك الايام يتابع بشغف الجدل الذي اثاره كتاب العالم ستيفن هوكنغ الذي صدر للتو والذي ترافق مع زيارة البابا الى بريطانيا، وكان يترقب وصوله الى باعة الكتب في المنطقة التي يقيم فيها لشرائه، وكان متحمسا للقيام بنقلة نوعية جديدة في واقعية الكم رغم تجاوزه الثمانين، فقد اقترح ان نقيم معرضا مشتركا في لندن اعتمادا على النتائج التي توصل هو اليها في المرحلة الثانية في واقعية الكم ومن اشهر اعماله فيها – ذرة الهيدروجين -، والنتائج التي توصلت انا اليها اعتمادا على الجداول الخاصة بالمرحلة الاولى في واقعية الكم – الخطوط الطيفية للعناصر -، وقد وافقت بفرح غامر على هذه الفكرة،  فلم يسبق لي عرض لوحاتي من اعمالي في واقعية الكم في معرض وكان يمكن ان تكون هذه اروع فرصة، لكني تراجعت لاحقا لان وضعه الصحي لم يكن مشجعا، خاصة وانه من الجدية والحرص بحيث تخيلت ان معرضا كهذا سوف يستهلك كل مالديه من قوى جسدية هو بامس الحاجة اليها، لان ذلك سيفرض عليه السفر  وجلب اللوحات واختيارها واعداد كاتالوك وغيرها الكثير من العمل الجسدي، اضافة الى ان المعرض بحاجة الى قاعة ملائمة تليق بمكانته الفنية وسمعته وتاريخه، ولحجز مثل هذه القاعات بحاجة الى سنتين فما فوق بانتظار الدور، لهذا فقد اتصلت بعد ايام بابنته الرائعة والابنة الوفية  السيدة ياسمين محمود صبري وشرحت لها مخاوفي .

تتعامل واقعية الكم مع الكون والعالم المحيط على اعتباره طاقة، وتفاعل ازلي دائم، وعملية ابدية بين عناصر الطبيعة الاساسية التي يتشكل منها هذا العالم ( هيدرورجين، اوكسجين، كاربون، نيتروجين وبقية القائمة ) .

هذه الطاقة كأشياء من مواضيع جاهزة يمكن لنا رؤيتها ولمسها وهي قائمة في عالم ثلاثي الابعاد، اشجار، انهار، جبال، بشر، حيوانات ......كانت هدفا للفنان في عصر العلم الكلاسيكي – اي العلم السابق على ظهور نظرية النسبية لانشتاين سنة 1905 -، بينما في العلم الحديث – اي مابعد سنة 1905 - ومن ثم في واقعية الكم فانها تتحلل الى عناصرها الاساسية، وتبدو مجسدة بالضوء المتحلل الى الوان / طاقة في تفاعل يتغير بالطبيعة كل فمتو ثانية (اصغر وحدة لقياس السرعة وهي جزء من مليار من الثانية ) .

الكشف عن هذا العالم الواقعي الغريب الموجود والذي نحسه لكننا لانراه هو هدف البحث في العلم الحديث، وفي نفس الوقت هدف البحث الجمالي لواقعية الكم، لذلك فان وسائل التكنلوجيا الحديثة التي اخترعها العلم الحديث هي افضل وسائل التعبير فيها ايضا، مثل عالم الديجتال، واجهزة الاضاءة الحديثة وغيرها الكثير .

لم يكن ذلك ممكنا قبل اربعين سنة، عندما ابتكر محمود صبري نظريا طريقة لتصوير ذلك العالم غير المرئي، فلم يكن الكمبيوتر معروفا لغير المختصين، ولا اجهزة التصوير الرقمية او الليزر مثلا، حتى في ارقى الدول الصناعية التي ابتكرت هذه الوسائل وطورتها لاحقا وجعلتها متاحة ومشاعة بيد البشرية كوسائل عمل واتصال دولي .

ولهذه الاسباب مجتمعة وغيرها فقد  اثارت افكار محمود صبري عدوانية ومحاربة  جماعات وفرسان استلهام التراث الغابر على وجه الخصوص، فنشروا الخرافات ودبجوا المقالات وبثوا الشائعات اينما استطاعوا فقد قالوا عنها بانها فكرة تقتل (الالهام ) والاحاسيس والروح، وكانهم في خدمتهم للطغاة والمجرميين والقتلة كانوا اكثر احساسا بمأساة الانساني العراقي ومصيره الكارثي الاليم .

لقد ازداد عدد العلماء بالعالم منذ بداية القرن التاسع عشر والى الان زيادة هائلة، وبالتالي فان تاثيرهم في حياة البشر عظيمة، ومعاندة هذا التيار امر غير مجدي للانسان، فقبل مئتين سنة كان عدد المشتغلين بالعلوم التي نعرفها اليوم الف شخص فقط في كل العالم، وبعد مئة سنة اي في بداية القرن العشرين صار عددهم يزيد عن المئة الف مختص من حملة شهادات التعليم العالي، وعددهم حاليا يحسب بملايين الملايين وهم موجودين في كل زاوية بالارض، وتاثيرهم في الحياة البشرية سواءا كافكار واكتشافات او اختراعات وابتكارات للاجهزة الحديثة اصبحت من وسائل الانسان المعاصر الاساسية التي لايمكن العيش بدونها، ومن خلالها يطور الناس ليس حياتهم العملية فقط انما اذواقهم الشخصية واحاسيسهم الجمالية ومعارفهم المتنوعة .  

في العام الماضي اهدى لي فناننا الراحل محمود صبري كتابا كان قد اشترى نسختين منه واحدة لي والاخرى اليه كما قال عن تاريخ فيزياء الكم وعلمائها، في مقدمة الكتاب يذكر المؤلف كيف اهملت الكثير من افكار المفكرين والفلاسفة اليونانين القدماء ولم يناقشها احد حتى مجئ فيزياء الكم بداية القرن العشرين، حيث عادت بعد الفين سنة بقوة، واصبحت جزءا اساسيا في تساؤلات الانسان المعاصر، منها : اذا لم ينظر اي انسان بالعالم الى القمر فهل القمر موجود ام لا ؟

الان وقد رحل عنا ولم نعد نراه، ولن ننظر اليه لنراه، فهل محمود صبري موجود ام لا ؟ لااتصور ان افكار محمود صبري الطليعية التي ابتكرها وهو في الاربعينات من عمره، ستذوي او يطويها النسيان، او تترك جانبا فريسة لدعاة التراث والتصوف وهراطقته، بل انها ستبقى تضئ امامنا حتى لو لم ينظر اليها اي انسان، ولسنوات قادمة كثيرة ستعود وتختفي، توقظ النائم وتحرك الساكن، نتعلم منها ونعلم بها، طالما ان العلم والتفكير وروح العصر الحديث اساسها، فهي ببساطة - مقلقة ابدا ثورية ابدا .

 

عزيزتي السيدة ياسمين محمود صبري المحترمة

التعازي القلبية والمواساة اليك والى كل عائلتكم الكريمة، بفقدان والدكم المبدع، والذي ستبقى ذكراه في نفوسنا دائما وابدا، اتمنى ان تكون هذه اخر الاحزان .

 

ساطع هاشم

 نيسان - 2012 

 

خاص بالمثقف

.................................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (عدد خاص لمناسبة تكريم الفنان التشكيلي الراحل محمود صبري اعتبارا من 20 / 4 / 2012)


في المثقف اليوم