مقاربات فنية وحضارية

محمود صبري .. راهب الفن العراقي / عواد ناصر

وسط طقس مطير ذكرني بتشيع شيخنا بدر شاكر السياب، الذي رحل هو الآخر في منفاه العربي اللصيق "اللصيق" الكويت، كنت مضظرباً، ولم أزل، ولا بأس، لكن ثمة غضب شخصني لازمني، حتى تذكرت لقائي الأول بالراحل بمدينة براغ، في شقت، عام 1984، وعلقت في ذاكرتي صورته وهو المنغمس، كليّاً، في أفكاره، وما عداها يدخل في باب النوافل الإجتماعية، وهذا ديدن فنان حقيقي وكبير.

محمود صبري واحد من روّاد الفن التشكيلي العراقي الذي انخرط مبكراً بأحلام الناس وأحزانهم (لوحة الشهيد) وما يرتبط بالقضية المعقدة الكبرى: سعادة العراقيين وأشواقهم ومشهدهم الجدير بالتدوين رسماً ملوناً، ثم ابتكاره المهم "واقعية الكم" في تحويل الطاقة إلى لون وله فيها لوحات عديدة استغرت أغلب حياته في منفاه التشيكي، مرفقة بدراسات ومقالات ومحاضرات وتوضيحات كثيرة نشر قسم منها وحجب القسم الآخر حتى في صحافة حزبه الذي محضه انتماءه وإخلاصه للأسف، لأن "واقعية الكم" لا تمت إلى "الواقعية الإشتراكية بصلة، بل هي بالضد منها، فهي (فن بورجوازي) كما ذهب إليه أحد مشرفي الصفحات الثقافية للحزب الشيوعي.

على أن مسؤولاً كبيراً في الدولة البعثية هو المرحوم شفيق الكمالي لم يستطع أن يفي بوعده للفنان الراحل في تخصيص قاعة مناسبة للعمل في بغداد وتحويلها ورشة للتعليم، حسب شاهد عيان هو الدكتور عدنان الظاهر، أكاديمياً متخصصاً في الكيمياء وكاتب، إذ يقول: " دخل الفنان الراحل في نقاشات جادة مع الكمالي كان فحواها أنْ تخصص وزارة الثقافة له قاعة مناسبة كي يترك منفاه ويعود إلى وطنه ليؤسس فيها ورشة عمل ومرسم خاص به وبمن سيلتحق به من طلبة الفنون الجميلة وبالطبع تعهد بترك براغ والرجوع لبلده العراق. عرض عليَّ أنْ ألتحق بورشته أو مختبر أبحاثه في فن الرسم خبيراً في شؤون كيمياء وميكانيك الكم لكني اعتذرتُ . طلب الكمالي منه كتابة تقرير مفصّل حول مشروعه لدراسته والبت فيه من قبل وزارة الثقافة التي كان الكمالي حتى وقت قريب وزيرها".

وإذ يلازمني حتى اللحظة غضب شخصي لمصير مثل مصير هذا الفنان/ الإنسان – وهما صفتان نادرتان إذ يصعب جمعهما في أيامنا هذه – فا،ا لا أنسى، أيضاً، حاجبيه الغاضبين وابتسامته الصعبة، الموجزة، مثل جملة اعتراضية في حواره المعقد والمديد مع العالم.

ثمة أسباب عدة لغضبي منها أن جمهرة الفنانين والمثقفين المقيمين في لندن لم يكلفوا أنفسهم بالحضور، واجباً فرضاً، بينما الكثيرون منهم لا يتأخرون ساعة ولا يتقدمون عندما يدعون إلى وليمة أو جائزة أو معرض، أو ما من شأنه أن يدر قليلاً أو كثيراً من الدراهم.

لم يتعد حضور الفنانين من زملاؤء الفقيد أكثر من أصابع اليد الواحدة، إذ هناك عائلته (ألقت السيدة ياسمين صبري، إبنة الراحل كلمة جميلة ومعبرة عن مسيرة الأب وكفاحه وفنه) وكذا تحدث الشاعر والفنان صادق الصائغ منوهاً بمكانة الفنان الرفيعة ودوره الريادي، وكان أيضا الفنانون فيصل لعيبي ويوسف الناصر ووليد سيتي وساطع هاشم (الذي ربطته بالراحل صداقة فنية في سنواته اللندنية الأخيرة بعدما ترك براغ).

كلمات بللها المطر ودموع الحاضرين قبل أن يهيلوا التراب، رمزياً، من علبة صغيرة أعدت للغرض، ويبدو أنه تقليد إنكليزي، بينما كان المطر يتواصل لكنه لم يبلل غضبي على دولة أميّة لم تكلف نفسها بإرسال ممثل من سفاراتها في لندن، أو باقة ورد، أو رسالة تعزية لعائلة الفقيد وأصدقائه، لكن للجاهل الأمي عذره، ولست هنا سوى مذكر لهم بواجبهم البروتوكولي على الأقل.

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2108 الاربعاء  02 / 05 / 2012)

في المثقف اليوم