مقاربات فنية وحضارية

إعادة قراءة الوثائق التأسيسية للفن التشكيلي العراقي .. الرسام محمود صبري / خالد خضير ألصالحي

 

مدونــات واقعية الكم

لقد خف دوي الضجة التي أحدثها الرسام محمود صبري حينما نشر بيانه عن واقعية الكم عام 1972، ربما كان ذلك الخفوت بالاهتمام ناتجا تغير اتجاه الفن وتنظيراته نحو مناطق  بعيدة عن تلك المشكلات التي كانت تثار في سبعينات القرن الماضي، فلم يعد الفنان (مصلحا) يحلم بتأسيس يوتوبيا، ولم يعد للايديولوجيا  ذلك البريق الذي كان لها في مجال الفن في ذلك الوقت عندنا في العراق خاصة، إلا ان محمود صبري لم يزل يعيش تلك الأجواء، بذات الإصرار والعنفوان حتى الوقت الحاضر وقد أكمل الثمانين وما  يزال مغتربا في براغ (ولد في بغداد عام 1927)، فجاءت الدعوة التي وجهت إلى عدد من نقاد الفن التشكيلي العراقي لمناقشة واقعية الكم في بغداد مؤخرا، بمثابة إعادة قراءة لواحدة من أهم الوثائق التشكيلية العراقية في الربع الأخير من القرن العشرين.

فقد اصدر الرسام  محمود صبري (بيان واقعية الكم.. فن جديد....لعصر جديد)  عام 1972، وقد أفصح البيان ونص الكِتاب والملاحق الملحقة به ليس عن افتراض واحد كما هو شائع ولكن عن افتراضات عديدة أهمها:

الفرضية الاولى: ان تطور الفن العالمي ليس "عملية واحدة متصلة.. خطية منفردة" وانه قد مر عبر تاريخه بدورات متتابعة جاءت نتاجا "للأنماط الأساسية لتفاعل الإنسان مع الطبيعة والأشكال الفنية" فقد مرت البشرية بتحولين أساسيين في علاقتها مع الطبيعة، وهي الآن تمر بتحول ثالث وهي: أولا، تحول اللبائن العليا إلى إنسان وصنع الأدوات الحجرية، او عصر الصيد، ويرجع تاريخه إلى ما قبل مليون إلى أربعة ملايين  سنة وبلغت ذروتها في ميدان الإنتاج الفني بفن الكهوف في العصر الباليوليثي، كدورة أولية متميزة في تاريخ الإنسان، كان لها "معداتها المادية والمعنوية" الخاصة بها، ووصلت نهايتها بانتهاء عصر البلايستوسين والفن (الواقعي) لرسوم الكهوف، ثانيا، دورة فنية أخرى هي نشوء الإنسان المنتج باكتشاف الزراعة بلغت ذروتها في طبيعية وواقعية القرن التاسع عشر: الفن الانطباعي والذي شكل سيزان نهايتها من خلال أعماله التي "حققت الصفات الغاليلية الرئيسية والثانوية (الشكل، الموقع في الفضاء، اللون، الخ) كلا مركبا يؤكد مفهوما للموضوع كجسيمة مادية هندسية ذات وجود مستقل عن الوعي الإنساني، وحرر الموضوع الطبيعي – أخيرا – من (جوهره) التقليدي (اللامادي) الذي يمنحه الإنسان له: الأرواح، الآلهة، الأشكال المثالية، القوى الطبيعية، الخ. وبذلك انهارت الثنائية الزراعية، فكان سيزان (نهاية لتقاليد فنية بكاملها – التقاليد الزراعية. غير انه أيضا (بداية) لتقاليد جديدة في الفن – تقاليد علمية لا تعترف إلا بمادية الطبيعة فقط" ،  وثالثا، نشوء الإنسان الخالق التي ابتدأت بتحطيم وتغيير الذرة السايكلترون، وهو المستوى التكنو – نووي. وان واقعية الكم هي فن الإنسان في العصر الأخير، ويمكن القول ان التطور قد جرى "من (الفن) كتركيب هندسي تجريدي، إلى (الفن) كشكل طبيعي محسوس (موضوع مادي متميز) هو تطور من الجماعية النيوليثية إلى الفردية الرأسمالية. ان تحول القرن العشرين من الشكل إلى التركيب في الفن هو تعبير لتحول جديد آخر – اقتصادي – اجتماعي، من الفردية إلى الجماعية.فخلال جيل واحد تمكن الإنسان من تفليق وتجزئة الذرة والعالم معا. أما الفن فانه جزّأ الشكل إلى تركيب".

الفرضية الثانية: "ان الإنسان يشيد في ذهنه صورا او مفاهيم شكلية (كمخططات للعمل) ومن ثم يقوم بتحقيق هذه المخططات في الطبيعة، أي انه يعطي صوره - مفاهيمه الذهنية وجودا موضوعيا"، وبذلك ينتهي محمود صبري إلى نظرية المحاكاة القديمة، فيكون "العمل البشري في النهاية نمطا من التقليد (المحاكاة) لأشكال او تراكيب طبيعية تلعب فيه الصورة الذهنية دور الوسيط كنتاج لعملية التعرف"، وبذلك تختزل واقعية الكم العملية الفنية برؤية ميكانيكية، بوجود "أولا تكوين ذهني، ذاتي (كصورة) لشكل او تركيب مادي موضوعي بغض النظر عما يرتبط به من أوهام، وثانيا إعادة بناء – تجسيد مادي موضوعي للتكوين الذهني، الذاتي" والاستنتاج بان "الإنسان يعمل بالتقليد".

الفرضية الثالثة: المفهوم الذي عبر عنه ( انجلز) بقوله ان العالم (كيان من عمليات) وليس (كيانا من أشياء جاهزة)، وان "الطريقة القديمة في البحث والتفكير التي يدعوها هيغل ميتافيزيقية، فضلت تحري الأشياء بكونها... ثابتة وطيدة" بينما جرت "الخطوة الحاسمة الى الامام للانتقال الى التحري المنتظم للتغييرات التي تمر بها الاشياء في الطبيعة نفسها، فحينئذ دقت الساعة الاخيرة للميتافيزيق القديم في ميدان الفلسفة".

الفرضية الثالثة: ان مرحلة الفن الزراعي التي انتهت عند سيزان كانت تنظر للموضوع كـ(وجود جسيمي) و(كيان من اشياء جاهزة) وان "التناقض الوهمي هو ان كلا من الفن والعلم خلال العقد الأول من هذا القرن كان يعالج مشكلة متشابهة: تجزئة الجسيمة الموضوع إلى أصولها التركيبية"، فحتى "التكعيبية في النهاية كشفت بان الموضوع حتى كموضوع ذهني، وحتى كـ(كهندسة بديهية ) لم يعد قادرا على الاحتفاظ بتلك الصلابة الثابتة المتميزة، وذلك الوجود الجسيمي المغلق اللذين يتميز بهما موضوع الفن الزراعي" فهي إذن تنتمي إلى المنظومة الزراعية ذاتها، وان الحركة التجريدية وان أقصت الموضوع (الطبيعي والذهني) والمفهوم ألجسيمي أدى إلى تهشيم للموضوع المايكروسكوبي (الكتلة – الشكل - اللون) غير ان البديل لم يستمد من الواقع المادي بل من الفكر، وصارت الوحدة الجديدة ليست إلا وحدة رموز وعناصر بلاستيكية، بل وحتى تجريدية موندريان، المشابهة لإشكال محمود صبري ذاته، هي في جوهرها، من وجهة نظر محمود صبري، شكل تجريدي جديد للفن المثالي الزراعي.  

 وان مفارقة واقعية الكم عن الفن السابق هوتحولها من الشكل (الخارجي) إلى التركيب (الداخلي) ومن الموضوع إلى العملية، وان المفاهيم القديمة للفن كانت تعبيرا عن وحدة (الكتلة – الشكل - اللون) بينما تعبر المفاهيم الجديدة عن وحدة (الطاقة – اللون – التركيب).

فيضع محمود صبري الفروقات التالية بين فن المرحلة الزراعية وفن العمليات:

الفن المايكروسكوبي ....................... فن العمليات

المادة (كتلة) .................................المادة (طاقة)

الموضوع المايكروسكوبي ....................العملية الذرية

الشكل الطبيعي (المايكروسكوبي) ........... التركيب الطبيعي (الذري)

اللون الطبيعي (انعكاسي) ..................... اللون الطبيعي (انبعاثي)

وبذلك تنتهي مهمة الفن القديمة "كتعبير لحيرة الإنسان وافتتانه بمظاهر الطبيعة" وتبدأ مهمة الفن الجديد باعتباره "مخططا بلاستيكيا لمشروع جماعي جديد لإعادة خلق الطبيعة"، أي ان تكون واقعية الكم واقعية من نوع جديد تنقل الوظيفة الفنية إلى مستوى أعمق عبْر "تجربة بلاستيكية لخلق فن جديد يصور مستوى جديدا أعمق من الطبيعة كشف عنه العلم الحديث ولم يتيسر للفن قبلا التعبير عنه وتصويره... انه مستوى التفاعلات والعمليات الذرية الكامنة وراء الظواهر الطبيعية المرئية بالعين المجردة"، رغم أنها تنطلق من موقف الواقعية التقليدية من الواقع الموضوعي وعلاقته بالإنسان ولكن من مستوى أعمق، أي "طموح في السيطرة على الاعماق، اعماق العمليات الذرية" انها فن الانسان التكنو – نووي الجديد.

الفرضية الرابعة: ان المفهوم الذي بلوره (اينشتاين في معادلته): ط=ك س2 (الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء)، يعني ان الطاقة والكتلة هما شكلان من أشكال وجود المادة، وأنهما لهذا قابلان للتحول المتبادل. و" ان الفرضية الثالثة هي نقض للمفهوم القديم للمادة كشكل وموضوع بصورة أساسية، والفرضية الرابعة  هي نقض للمفهوم القديم للمادة ككتلة فقط. وواقعي الكم هي تجربة بلاستيكية تمزج بين هذين المفهومين الأساسيين لعصرنا. ومزج المفهومين معاً يؤلف نقضاً للمفاهيم المرتبطة بشكل معين واحد للمادة، والخصائص التي تتصف بها، اعني المادة الماكروسكوبية.

ان الصورة التي يكشف عنها هذا المزج بين المفهومين هي ، إذن صورة العالم كـ(كيان من عمليات) مؤلف من وحدات من الطاقة، تتفاعل مع بعضها بشكل مستمر. غير ان مثل هذه الصورة الديناميكية للعالم، لا يمكن التعبير عنها بشكل بلاستيكي إلا باستخدام الوحدات البلاستيكية الصحيحة. وهذه الوحدات يجب اشتقاقها من الطبيعة على مستوى أعمق من المستوى الماكروسكوبي- أي على مستوى العمليات كي تكون الصورة الجديدة للعالم صورة نافذة.

... وبهذا المعنى يتم النظر إلى المادة على المستوى الذري كشكل من أشكال الطاقة المشعة. فكل ذرة يمكن التعبير عنها- وفقاً للفن الجديد- بالخط الطيفي الذي تشعه، والذي تتميز به الذرات الأخرى. وهكذا فان الطبيعة على مستوى العمليات الكيمائية تجد تعبيرها الفني المتميز عن الألوان النقية- ألوان الخط الطيفي للذرات.

وقد استخدمت هذه الألوان ...  كأحجار بناء للمستوى الذري للطبيعة. وأصبحت الخطوط الطيفية المشعة للذرات- في واقعية الكم- وحدات يمكن رسم صورة منها(او تشييد نموذج) للعالم باعتباره (كياناً من عمليات)."

 

 

ثلاث تجارب عراقية

لقد تأسست في الفن العراقي الحديث ثلاث تجارب مفارقة ومتميزة عن غيرها كونها  كرست نفسها باعتبارها تجارب تشتغل على مرتكزين أساسيين: منجز بصري متحقق،  يرافقه جهاز مفاهيمي لغوي محايث، تلك هي تجارب: شاكر حسن آل سعيد، ومحمود صبري، وهناء مال الله.

 وبينما تتماثل تجربتا آل سعيد ومحمود صبري لأنهما تتفقان بالمتجه أولا،  وبالمشكلات التي واجهتهما، وبالطريقة التي اتبعها الفنانان من اجل حل تلك المشكلات، كانت تجربة هناء مال الله تتجه في متجه مختلف عنهما؛ لأنها كانت تحاول توليد جهاز مفاهيمي نقدي من المنجز البصري ومن ثم العودة بهذا الجهاز ألمفاهيمي لإنتاج متحقق بصري (يتكئ) على ذلك الجهاز ألمفاهيمي، بينما كان الآخران يحاولان إيجاد تطبيقات بصرية من جهاز مفاهيمي سابق لوجود اللوحة أولا، ونابع من مصادر غير بصرية بعد ان جرى ترحيله من مصادر سوسيولوجية لا علاقة لها بالواقعة الشيئية للوحة؛ إلا أن ما يجمع التجارب الثلاث هو وجود جهاز مفاهيمي يقابله منجز متحقق، على خلاف عشرات من التجارب التشكيلية الأخرى.

 

فبينما كانت محاولة الأكاديمية والرسامة والناقدة العراقية هناء مال الله،في بحثها الموسوم (النظم المنطقية في الفن) الذي نالت به شهادة الدكتوراه في فلسفة الفنون التشكيلة (الرسم) من جامعة بغداد، قد انطلقت من "افتراض وجود بنى منطقية تتخلل المستويات الصياغية في الرسم" ولذلك فهي عمدت إلى محاولة  "اختيار المنطق Logic الذي ينتمي إلى مجموعة العلوم البرهانية.. ذات النسق الاستنباطي كأداة للتحليل" أي كبديل للغة النقدية والأدبية، حيث تعتقد الباحثة  "إن اللغة النقدية، والأدبية، لم تمارس التحليل في قيم الصياغات البَصَرية، والرمزية للرسم، إلا بالحد الأدنى من الدقة، والوضوح بحكم طبيعتها ذات السمة التأويلية والإيحائية ".

وفي بحثها عن جذر الكتابة المسمارية، كانت هناء مال الله تعتقد أن مفتاح (اللغة) الكتابية نبع من نماذج فخارية تعود إلى الألف الخامس قبل الميلاد إلى الألف الثاني قبل الميلاد، وهو ما يتفق فيه معها الراحل شاكر حسن آل سعيد في كتابه (البحث في جوهرة  التفاني ، ط1،ص53 الشارقة  ، 2003)، حينما يؤكد انه "في حدود الألف الثالث ق.م ظهرت سلسلة من الرسوم على الفخاريات تضمنت على نظام تدويني (تصويري) ما قبل  لغوي كان من أهم عناصره الشكل الهندسي (الواسطة – التدوينة) الذي ابتدأ من (نظام التربيع) واعني بذلك ما حفلت به فخاريات سامراء من رسوم".

وقد اتخذت ذلك النظام التدويني القبل- كتابي نظاما تدوينيا تقيم عليه تجربتها الفنية في معارضها المتتابعة قبل عام 2008.

على العكس من محاولة هناء  مال الله في استنباط جهاز مفاهيمي ومدونة لغوية من التجربة البصرية، جرت تجربتا آل سعيد ومحمود صبري وجهة واحدة معاكسة من ناحية قيامهما بمحاولة اشتقاق التجربة البصرية، أو اتكاءها على جهاز مفاهيمي نظري، وقد كان هذا الجهاز المفاهيمي ينتمي إلى مفاهيم واقعية اجتماعية خارج بصرية،  كما تتفقان بطريقة حل أهم المشكلات التي واجهتهما، فحين اتجه الرسام العراقي الراحل شاكر حسن آل سعيد متجَها (كارثيا) من وجهة نظر قيم الشكل في لوحته عندما تخلى عن (المشخصات)، ومن ثم عن قيم جماعة بغداد للفن الحديث فيما يخص الاشتراطات المقبولة للشكل، فانه ترك الباب مواربا لإدامة الصلة مع قيمها النظرية المفهومة، والمقبولة من قبل المتلقي، فقام بنقل جهازه ألمفاهيمي ألتنظيري ليقيمه على معطيات مستمدة من الصوفية بصفتها جزءا من التراث، وما يخص على وجه التحديد رؤيتها حول النقطة باعتبارها "أزل كل شيء" كما يقول الحلاج، عندما مازج ال سعيد معها معطيات مستمدة من فهم النقطة في الخط العربي التي هي أزل الحروف والكلمات ومقياسها، أو نظامها التشريحي، ومن فهم النقطة في الهندسة العربية حيث تكون النقطة المتحركة أزل الخط الذي هو أزل السطح والذي هو بدوره أزل الحجم، ومن خلال ترحيل المفاهيم، هذا الذي مارسه آل سعيد، غدت النقطة أزل الأبعاد (dimension)؛ وصار الخط بفعل اندماج هذه التعريفات العنصر البنائي للبعد الواحد، الذي تم تعزيزه بعد سنوات من خلال دراسة الأنظمة الرياضية الصارمة للاوفاق فتم تأسيس المرتكز الأقوى للصلة مع المتلقي الذي تشبع بقيم جماعة بغداد وأطروحاتها، أي إبقاء الجهاز المفاهيمي القديم  بعد تطويعه ليسع التحول الجديد نحو التجريد اللاتشخيصي.

إن ما فعله الرسام محمود صبري ليس بعيدا عما فعله آل سعيد قبله بسنوات، يمكن إذن تقسيم مراحل تحولات الرسام محمود صبري، من وجهة نظرنا، إلى مرحلتين هما: المرحلة المشخصة كان فيها رساما خاضعا لاشتراطات جماعة بغداد للفن الحديث في منجزه المتحقق فكان مقتصدا باللون وباذخا في الأشكال وتوزيعها على مساحة اللوحة، ومغرما بالموضوع وبالإنسان وبالجانب الأيديولوجي في موضوع اللوحة، بينما صار في مرحلته التجريدية الأخيرة التي سميت واقعية الكم خاضعا للاشتراطات التنظيرية لجماعة بغداد للفن الحديث؛ وباذخا باللون، على حساب الأشكال التي اختفت سوى ما تخلقه المحيطات الكفافية من خطوط وهمية ناتجة عن المساحات اللونية.

فبعد ان قضى محمود صبري سنوات  "شغوفاً بالرسم فأنجرف مع جماعة البدائيين التي تأسست عام 1950م ، وهنا أبت أفكاره إلا أن تلقي بظلها على قماشة لوحته فأبتعد عن رسم المناظر الخلوية وأختار كبديل لهذا الاتجاه تصوير الشرائح الاجتماعية في محاولة لتعرية الوضع الطبقي القائم والذي طالما كان يصيب الفنان بالغثيان ، ولعل لوحته الرائعة المنفذة بألوان (الكواش) نساء في المبغى أو (نساء في الانتظار 1952م) لا تكشف عن رجل سياسي محنك أو داعية للعدالة قدر ما تكشف عن فنان متمرس ومتمكن من صنعته" كما يقول عامر فتوحي،

فجاء تحول محمود صبري إلى التجريد تحولا (كارثيا) من وجهة نظر المتحققات الشكلية الواقعية على اللوحة، إلا أن هذا الرسام كان يقدس، كشاكر حسن آل سعيد، قيمة الصلة مع المتلقين لذا ترك الباب مواربا، حاله في ذلك حال آل سعيد، لإدامة الصلة مع القيم السائدة في سوق المتلقين ونعني به الواقع، والواقعية، ومحاكاة الطبيعة، لذلك، فهو لم يطرح نفسه إلا باعتباره مجددا للواقعية القديمة ليس إلا، فكانت صلته بتلك الواقعية، وبقيم التعبير الاجتماعي، كما هي صلة آل سعيد بتلك القيم قد انتقلت من المنجز المتحقق إلى النص المكتوب، وبذلك تم تأسيس جهاز مفاهيمي نظري، وهو جهاز ينتمي إلى مفاهيم واقعية اجتماعية خارج بصرية يسبق في وجوده وجود اللوحة، وهو حال أهم التجارب المماثلة الأخرى حيث تم تأسيس:  نظام منطقي واوفاقي عند آل سعيد؛ وهو نظام استخرجته هناء مال الله من الرسم ومن ثم أعادته إليه، ونظام شكلي عند محمد مهر الدين وهاشم حنون، وعلمي عند محمود صبري، وكلها أنظمة يسبق وجودُها وجودَ اللوحة التي ترتكز عليه؛ فحينما غادر الفنانان آل سعيد ومحمود صبري مرحلتهما الاجتماعية الواقعية إلى المرحلة التجريدية بشكل بدا وكأنه ارتداد لا سابقة له في طيات منجزهما السابق، قاما بترحيل جهازهما ألمفاهيمي الذي ظل منكفئا على ذات الثيمات الارتكازية الأولى: (محاكاة الطبيعة) عند محمود صبري، والتعبير (عن الروح المحلية) عند آل سعيد رغم ان انتقالهما إلى حقل جديد وعسير كان يحتم إجراء تغيير ضخم في الجهاز ألمفاهيمي، إلا ان ما حدث لم يكن كذلك فقد تمت إعادة صياغات لم تؤثر في جوهر جهازهما المفاهيمي فقد ظل الفن من وجهة نظر محمود صبري ذاته "محاكاة للطبيعة ولكن ينبغي تحديد معنى (محاكاة الطبيعة)، إنها ليست كمية ساكنة ثابتة، بل متغيرة، متطورة على الدوام، إنها محددة بمستوى معرفة الإنسان... وان واقعية الكم: أولا، تتفق مع (الواقعية التقليدية) في أن الفن (محاكاة) لأشكال الطبيعة غير أنها تختلف عنها في أنها تنقل (محاكاة الطبيعة) من مستوى المظهر إلى مستوى الجوهر، إلى عمليات الطاقة، وثانيا، رفضها مظهر الطبيعة في الفن، غير أنها لا تتفق معها في تعميم هذا الرفض بشكل مطلق ليتناول كامل الطبيعة، أي بما في ذلك جوهرها العميق... أي أن أبعاد الاختلاف الجوهري بين واقعية الكم والمدارس الفنية الأخرى هي في العلاقة مع الطبيعة، ففي واقعية الكم... تغلغل الإنسان إلى عمق جديد، جوهري، من المادة، وبالتالي لمستوى جديد (خلاق) مع التعامل مع الطبيعة كعمليات من الطاقة"، هذا ما يخص العلاقة بين واقعية الكم ومحاكاة الطبيعة، أما ما يخص سوسيولوجيا الفن فان "الفن التشكيلي يخلق صورا تستهدف (كوظيفة تطبيقية اجتماعية) تغيير المجتمع عبر تغيير الوعي الإنساني".

 

ردود أفعال شديدة التباين

لقد كانت ردود الأفعال تجاه واقعية الكم شديدة التباين؛ إلا ان كل تلك الاعتراضات كانت تنصب على المدونة النظرية لواقعية الكم دون التعرض للمنجز المتحقق، فقد اعترض الدكتور عدنان الظاهر، المتخصص بالفيزياء، على المعطيات العلمية والرياضية في واقعية الكم إلا انه أشاد بطرافتها "كنت شديد الدفاع عن نظرية الكم، رغم ما فيها من ثغرات علمية، نظرا لطرافتها ولكونها طريقا جديدا في الرسم غير مسبوقة".

بينما كان إطراء الرسام ساطع هاشم نابعا من استعداده لقبول درجة مقبولة من (الأخطاء) في تطبيقات علوم تدخل في عالم الرسم مستندا في ذلك على علم التشريح حينما يتم وضعه في التطبيق على اللوحة باعتبار إن بعض حقائقه خارج الموضوع، فبينما كان محمود صبري يحاول وضع قواعد صارمة تماثل علامات اللغة ولكنها هنا ليست اعتباطية بل صارمة يقترح ساطع هاشم قبول درجة من (الأخطاء) كحد مقبول، فهو يقول "إن الفنان غير معني بمعرفة أين تقع الأوعية الدموية فهذه أمور من اختصاص الأطباء. إن واقعية الكم مثل كتاب التشريح للفنانين، فهل نريد من واقعية الكم أن تتحول إلى ما يشبه كتاب في التشريح وهذا مستحيل"، ويبدو هذا المنطق مناقضا للروح التي بنيت عليها واقعية الكم حيث صرامة العلم التي يثق بها محمود صبري ثقة مطلقة، رغم أنها أنتجت ، مثلما انتج التفكير (العلمي) للعصور الوسطى، كما يقرر غاستون باشلار في كتابه (تكوين العقل العلمي) مزيدا من الخرافات التي الصقها العلم بفهمنا للحياة والتي كانت من الضخامة حتى أنها شكلت (عقبات ابستمولوجية) أعاقت تقدم العلم والحياة معا.

ويؤكد فيصل لعيبي "كانت مشكلة واقعية الكم هي أنها تناست المشاعر والأحاسيس البشرية وكذلك الرؤى والأفكار التي لا يمكن ترجمتها على أساس ذري مادي خالص، أين الحزن والفرح والحب والحقد، أين موقف الفنان من الظلم والاستبداد".

ويقول صادق الصائغ "قد نختلف في تقييم واقعية الكم ولكن لا نختلف إطلاقا في أنها محاولة صعبة جدا ومعقدة جدا، إلا أنها تشير إلى استمرارية تفاعل محمود صبري المؤثر"

ويؤكد مؤرخ الفن الجيكوسلوفاكي د. رودولف خدربا إن "الإنسان يعثر، في رسوم محمود صبري، على نفسه كانسان زمننا الراهن، زمن بداية الطريق نحو العصر النووي".

 

السؤال الجوهري

ننتهي إلى السؤال الجوهري الذي أردت أن اطرحه أكثر مما أجيب عليه: ما هي واقعية الكم؟ هل هي المدونة التي كتبها محمود صبري والمدونات التي شكلت هوامش لها، أم هي المنجز المتحقق في لوحات محمود صبري؟. وبذلك يثور تساؤل مهم: هل أن القيم الفنية أو البصرية كامنة في الأنظمة الرياضية الصارمة، أي في (المخططات الأولية) أم في المتحقق الشكلي الذي هو شيئية اللوحة وجوهرها، وهل بالضرورة يجب أن يتطابق الجهاز ألمفاهيمي للرسام مع المنجز المتحقق على سطح اللوحة، أليس من الأجدى تلقي الجهاز ألمفاهيمي باعتباره نصوصا مستقلة على (او) تتضمن (نصوصا) بصرية، وهل يمكن تلقي المنجز البصري بمعزل عن الجهاز ألمفاهيمي المدون لغويا؟.

مهما يكن شكل جوابنا فنحن نعتقد أن الانشغال بالمدونات قد افسد متعة كان يمكن أن تتحقق لو أننا تلقينا إعمال محمود صبري باعتبارها نمطا من الرسم التجريدي الهندسي أو الفن البصري، فلم تكن " العناصر التشكيلية (الأشكال والتراكيب والألوان) التي تستخدمها واقعية الكم مستمدة من عمليات الطاقة، تبدو وكأنها تجريدية" كما يقول محمود صبري نفسه، بل أنها فعلا تجريدية.

 

خالد خضير ألصالحي

البصــــــــــــــــــــرة

 

خاص بالمثقف

.................................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (عدد خاص لمناسبة تكريم الفنان التشكيلي الراحل محمود صبري اعتبارا من 20 / 4 / 2012)

في المثقف اليوم