مقاربات فنية وحضارية

فاخر محمد صيرورة التشكيل وبقاء الأصل

372 فاخر محمدفاخر محمد فنان تشكيلي بابلي يهوى التجريب ويخترق عوالمً وعوالمٌ في فضاء التشكيل ليجعل من لوحاته أيقونة للتعبير الوجداني الشاعري عن رؤيته بوصفه فنان حالم يخترق الأطر المتوارثة اجتماعياً وفنياً ليصنع لوحته هو.

درس الماجستير والدكتوراه في جامعة بغداد بكلية الفنون الجميلة.

أقام عدة معارض محلية ودولية فردية ومُشتركة، وشغل منصب عميد كُلية الفنون الجميلة لعدة أعوام.

حاز على عدة جوائز أهمها:

ـ جائزة الاستحقاق الخاصة بمهرجان كان سورمير في فرنسا.

ـ جائزة فائق حسن الفضية للشباب.

لا يعني ذلك أن فاخراً يُميت الأصل، بل أنه يجعل من للأصل حضور بهي بنزع جلبابه القديم ليُزينه بفضل عطايا الموهبة أو بفضل تمرده على الأصل للخلاص من سطوته لصناعة ذات مُستقلة عن قيمومة هذا الأصل.

من محاسن فاخر هيامه في التجريب، وفق قاعدة منهجية تعتمد على (المحاولة والخطأ)، وفي خضم تحولات الفن بين يقينية الحداثة وشموليتها وبين نزوع نقدي لها في تشكيلات فنانيين (ما بعد حداثيين) نجد فاخراً يفخر بنتاجه الذي لا ينتمي لمدرسة وإتجاه تشكيلي بعينه، إنما هو يختط له ويمشي على وهن مُدركاً لما يُلاقيه من نقد، لأنه ينحت تشكيلاته اللونية خارج مُهيمنات سلطة المدارس، لا لأنه يستخف بقيمتها المعرفية وبإضافاتها الجمالية، بل لأنه (واثق الخطوة يمشي ملكاً)، هضم كل عطايا الموروث الجمالي السومري والبابلي وحتى الآشوري، وتمكن من بناء وعي جمالي بناه وفق هضم لموروثه الفني ولمُنجزات الحداثة والحداثة البعدية، ولكنه لم يشأ ولم يرغب أن يُقال عن نتاجه الإبداعي الفني أنه تشكيل على غرار تصميم سبق.

ذاكرته هي ذاكرة أبناء جيله ممن حملوا بُندقية وبعضهم حمل قلم، وآخرون حملوهما معاً، وفاخرٌ يحمل البندقية قسراً ولكنه يحمل في جُعبته أقلام الرصاص، لا رصاص الحرب، بل رصاص زارع الجمال. هي أقلام يرسم بها ملامح جُندي بحرب ظالمة لا ناقة له بها ولا جمل.

51 فاخر محمد

فاخر يفخر تاريخ الأرض ليصنع منها بعد ألم ووجع حُلماً بفرح، ولأنه مُتقن للكيفية التي تُصاغ بها سردية الوجع أو الفرح داخل السطح التشكيلي، فأنك تجده يُصيغ أسئلة الوجود بنزوعها المُتشائم أو نزوعها نحو الفرح في خضم الصراع في الحرب ورسم أشلاء ضحايا أيديولوجيات شمولية عاهرة.

وكل لوحة عنده حتى وإن كان فيها تغليب للرؤية التجريدية إنما هي تعبير عن رفض للحرب ودعوة للسلام، لغة فاخر فيها هي الألوان وتشكيلاتها التعبيرية وتمكننا كمُتلقين من الكشف عن مضامين قوله الفني في الرفض للحرب والدعوة للسلام من خلال فهم تشكيلاته اللونية.

الرسم عنده مُمارسة يومية، ولكنه تجريب كما يقول ويفهم الحياة على أنها حياة مُتحولة، فقد رسم الملك البابلي بتاجه كمنتصر، ورسم الملك كدكتاتور سينهزمم.

في لوحته الكرسي رسم لملامح السطة وزخارف عيشتها الخادعة، وهو يشتغل على أعمال تعبيرية ضد الحرب وضد هيمنة الطاغوت.

لا يقبل بتصنيفه كتعبيري أو تجريدي، ولكنه يقبل بوصفه كتجريبي، لأن في التجريب سعيٌ لتشكيلاته في السطح التصويري بوصفه ينتمي لجيل ينتمي للحرب.

الطير عنده رمز للحرب وتحت هذا الطير وجه ملك وفوقه طيارة سمتية، والطير رمز سلام، فكانت رغبة فاخر هي أن لا يكون الطير رمز السلام يلبس لباس الحرب، فيكوناً نسراً لا حمامة.

جُلَ هم فاخر أن يكون زراعاً للورد بكل ما في الورد من بهاء وتعددية لونية فيها دفق لحُب الجمال.

في كل أعماله التعبيرية أو التجريبية والتجريدية تنحو منحاً إنسانياً.

الطيور من مرموزاته التعبيرية وحتى التجريدية، منها بوجه إنساني ومنها بتشكيل يشي عن تعبير لوني ينتمي لما أسماه "التعبيرية التجريدية"، فالمعنى يُشكل عنده وعند مُتلقيه جسد اللوحة لمن تمكن م إدارك مضامين ومفاهيم فاخر في التعبير أو التجريد.

للوحات بيكاسو حضورها في بدايات وعيه الأكاديمي، ولكنه عاشق للانطباعية، وحتى (بول كلير)، ولم يعشق (مونتريان) رغم أنه يُحطم الأشكال التقليدية.

فائق حسن أستاذه، وجواد سليم مدرسة تأثر بها، وكاظم حيدر ومحمد مهر الدين ورافع الناصري وشاكر حسن آل سعيد من خلال أطروحاته النظرية وتشكيلاته اللونية الإبداعية مدارس يقتدي ويحتفي بها.

52 فاخر محمد

شكل د.فاخر محمد ود.عاصم عبدالأمير والمُبدع حسن عبود ومحمد صبري "مجموعة الأربعة" عام 1980، وهم فنانون تأثروا بأساليب أستاذهم فائق حسن.

لقد حاول د.فاخر ود.بلاسم وشاركهم قاسم سبتي استذكار محمد صبري، وقد أكمل د.كاظم نوير مسيرة هؤلاء، كييكونوا أربع، ولكن وجود نوير لم يُعوض فقدان محمد صبري.

يُحيك فاخر محمد لوحته كما يُحيك فنانوا الفطرة في الجنوب سجَادتهم، فينسج ألوانه وكأنها بساط سحري نسجته أيدي السحرة والجنيات في ألف ليلة وليلة. في لوحته تعدد وبهاء لوني ساحر ولكنه تعدد يكشف لنا سرَ الحكاية. حكاية الألم والحرب في بلاد الرافدين منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا.

لوحة فاخر محمد بساط منسوج من طيف الألوان ليحكي به قصة الموت والحياة، بل وقصة التراث والحداثة، تراث بهي هو الأصل، وحداثة مرجوة ببهاء ما فيها من تعددية مناهجية، ولكن هذه التعددية المناهجية بكل ما فيها من مساحة للتعبير في فضاء من الحُرية إنما هي حداثة تحمل بين طياتها عوامل زوالها وكُرهها لفرط ما فيها من قسوة وحمولة تقنية مادية تُقصي كل نتاجها الجمالي باطلاقة من بُندقية، تلك البُندقية التي حملها فاخر وأبناء جيله عنوةً ليكفوا الشر عنهم، شر سلطة مقيتة جاء تعبير فاخر عنها بتاج ملك كرمز لكل إقصاء لعناصر الجمال، وبنادق محمولة لمُحاربة عدو صيرته أيديولوجيا (الحزب القائد) والأيديولوجيا المُضادة لها، ألا وهي أيديولوجيا العدو، ورغم أنهما طرفان مُتحاربان، ولكنهما في مُعادلة الحرب والقتل مُتساويان.

كُرسي السلطة الذي رسمه فاخر لا زال كُرسياً بهياً بألوانه، ولكن ابن العراق شقيُ، وسيبقى شقياً لأن الصراع على هذا الكُرسي لا زال مُستمراً.

لم تكن لوحة فاخر محمد كلوحة (فان كوخ) حينما رسم كُرسيه البسيط، أو لوحة (غوغان)، فكلاهما يرسمان بؤس حياتهما، وفي المُقابل نجد فاخراً يرسم بؤسنا الذي لا أدلَ عليه سوى كُرسي الحاكم (المُتسلط)!، فكُرسي (فان كوخ) مُتهرء بسيط، هو كرسي من لا سُلطة له، وكُرسينا الذي رسمه فاخر، كرسي فاره، كُرسي من لا كُرسي له. هو كُرسي (الحاكم بأمر الله) واحد أوحد يُميت البشر ويُحييهم. إنه كُرسي السطلة الغاشمة.

يُدرك فاخر محمد قيمة المفاهيم وبُعدها التأثيري في لوحته التعبيرية أو التجريدية، لكن الأهم عنده هو سطح اللوحة التصويري بوصفها ترسيمة جمالية تنبض بالحياة وإن كان في كثير أو بعض منها تعبير أو تجريد لمسكوت عنه يُخبرنا به عن مكمن الجمال الغائر خلف المُعاناة، لأن الحقيقة عنده كما يقول في حوار له مع خضير الزيدي: "ليست في المرئي فقط، بل في اللامرئي على حد تعبير كاندنسكي" مُمهد الطريق لـ "التعبيرية ـ التجريدية)، ليُكمل فاخر رأيه بالقول: "أنا واقعي بالتأكيد، إلَا أن واقعيتي لا تكمن برسمي للخيول والطبيعة الجامدة، إنما أعمل على رسم الحقيقة المُستترة خلف حجاب البصر، فالعين لا ترى الحقيقة فهي في مكان آخر ورؤية بصيرة القلب أشد سطوعاً"، ولو أخذنا نماذجاً من رسومات (كاندنسكي) وقارناها برسومات فاخر لوجدنا كبير صلة لفاخر معه من حيث التشكيل اللوني ونسجهما الفائق لـ "اللون".

كأن فاخراً يُعيد لنا إنتاج رؤى (برجسون) الفلسفية بترسيمات وتشكيل لا يُخبرك عن الظاهر (المُعاش) بقدر ما يُحاول الكشف عن الكامن خلف الظواهر بلغة (هوسيرل) كما فهمها (موريس ميرلو بونتي) في كتابه (المرئي واللامرئي).

ولا أروم الخوض في رؤى هؤلاء الفلاسفة رغم أهميتها في فهم مقاصد فاخر محمد، ولكنني أبحث عن المعنى في رسومات فاخر محمد بلغة مُبسطة من دون تحذلق إصطلاحي أو فلسفي خارج نمط التداول المُجتمعي.

في لوحات فاخر محمد طيور مُهاجرة ونخيل لا تمر فيه ولا عثق، بل سعف هزيل يُحاول فاخر فيه الإبقاء على بعض من تمسكنا برمز عراقي من بقايا تراثنا المجيد، ولكنه رمز في طور الإفول.

لوحة نخلة فيها جمال مُتوارث دلالته بقاء سعفها وعنادها في البقاء رغم أنف كارهي جمال سموها ورمزيتها.

سيبقى فاخر محمد أيقونة جمالية وسط كل هذا الخراب الذي نعيشه، حاملاً مشعله أو مصباحه كما حمل (علاء الدين) من قبل مصباحه السحري ليحلم بخروج مارده من قُمقم لوحاته ليملأ الأرض جمالاً كي يتخلص من قهر من يروم بالعراق شراً ليصبح غنياً بالجمال بعد الخلاص من قُبح ما صنعه كل طُغاة الأرض في أرض الخضرة والسواد.

 

د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم