مقاربات فنية وحضارية

"الرسم بالكلمات" وفن التشكيل الحروفي في لوحات علي الحساني

383 علي الحساني1هناك فرق كبير بين أن تكون مُجيداً للكتابة أو الخط العربي وأنواعه وبين أن تجعل من هذا الخط أو الكتابة لوحة بصرية أو تشكيل حروفي فيها الكثير من الإبهار والمُتعة الجمالية فضلاً عن بناء وعي جمالي يُضاف لمساحة الإبداع في الأنماط التشكيلية الأخرى من نحت وزخرفة وخزف، ولربما تتداخل هذه الأنماط في عمل حروفي عند فنان يعي أهمية اللون والفضاء الإبداعي المُتاح في فضاء تشكيلي (حروفي) مُعين كأن يكون لوحة أو عمل نحتي في تشكيل للحرف، أو عمل نحتي أو خزَف يُتقن رسم الحرف في آنية أو عمل فخاري له دلالة تراثة أو حداثية، وهُنا تظهر لنا مكامن الإبداع التشكيلي للفنان (الخطاط)، فلم يعد الخطاط اليوم هو من يرسم لك أسماً أو قولاً مأثوراً أو حديثاً أو آية قرانية كريمةً، على ما في هذا الحرفة من مهارة، ولكنها ستظل تدور في عالم (الصنعة) لا الإبداع، لأن الإبداع هو الذي يخترق محدودية عوالم الصنعة لينقلها من أطرها الضيقة إلى فضاءات إبهارية أكثر مُتعة للنظارين وتلفت أذهان المُحترفين الذين لا ينظرون فقط لجماليات التخطيط ورسم الخط بقدر ما ينظرون إلى الكامن خلف هذا التشكيل الحروفي بأبعاده التراثية أو الحداثية.

يرى الناقد ياسين النصير أن الحروفية ترتبط بالصوفية، بل هي كما يقول في مقال له بعنوان "الحروفية..الحداثة والتشكيل" أنها مذهب صوفي يُنادي بوحدة الوجود"، وهومُحق في قوله هذا إن قايسنا الحروفية تراثياً خارج تأثر بعض فنانيها بخروقات ما بعد الحداثة التشكيلية لافق اليقين في الفلسفة او التشكيل، فبعض مما يُميزُ فنانينا انهم يللمسون أفق التحول ويستلهمون الكثير من نتاجاتنا الحداثية حينما كانت الحداثة تشكيل وتصميم وبناء برهلني واستدلال عقلي من بناء عقلنا المُنفتح على فضاءات التنوع في عالمنا الإسلامي.

كان لكل أفق يقيني في عوالم تبنينا للعقل البرهاني الذي بقينا نستلهم أفق فضاء العقلانبة ومقبوليتها للآخر في البحث عن المُطلق او في تصدير معرفتنا له والذي تجد أصول لهذا التوجه في الحداثة التي كرس فنانوها وفلاسفتها رؤاهم للبحث عن اليقين سواء في الكشف عن وجوده عقلانياً، أو التوصل لمعرفته عبر نمو المعرفة العقلانية استدلالياً.

ولربما من أهم ما تميز به العرب والمسلمون في الفن هو تمكنهم من جعل الحرف لوحة بصرية لا مُجرد حرفة مهارية، بعد أن أدخلوا عليها عناصر من موروثهم في الزخرفة ومن تجاربهم الذاتية وشغفهم للكشف عن خفايا مطواعية الحرف العربي.

383 علي الحساني2

ما يُميز التشكيل الحروفي العربي وبُعده المتواشج مع فن الزخرفة هو التناسق والتناغم بين مقطع وآخر مع إختلاف الجهات وتنوع الخط وتماهييه مع جوهرية الإنتظام والنسق، أو المنظومة المعمارية للعقل الفلسفي واللغوي (النحوي) العربي، بل وحتى البلاغي في هيامه في بناء نثر وفق خط بياني مُرسل بطريقة يُحافظ فيها كاتب النص على معمارية المتن وجمالية القول من خلال الإبهار النُظمي وجمالية التلقي في تشكيل النص لغوياً عبر بناء قواعدي نحوي جمالي ونثر شعري أو قصيدة، كلاهما محكوم بموسقة الكلام وميزان الشعر وإلتزامه ببنيته المُقفاة، ولربما في كثير من الأحيان غلبت هذه البنية الخطابية (الجمالية) للنص على المعنى لا سيما في البيان والاستعارة والمجاز.

والأمر ذاته نجده في التشكيل الحروفي العربي الذي لم يتمكن أصحابه إلَا ما ندر من الخروج عن مُهيمنات إنتاج النص الأدبي.

ما يُزيد التشكيل الحروفي العربي بهاءً وألقاً هي الحركات، التي يقتضيها البناء النحوي للقول، ولكن الموهبة وجمالية هذا التشكيل عند خطاط (فنان) دون غيره من (الخطاطين) هو تجاوزه للمألوف ليس في ترسيمة الحرف، إنما هو في تشكيل الحركات وجعلها تشد من نسيج ألوان اللوحة الحروفية وتخطيطاتها الشكلية التي يرسمها الخطاط (الفنان) من وحي مُخيلته الثرَة، فمرة تجد هذه الحركات تخترق أفق لون اللوحة السائد ليشدنا ناسجها عبر ذكائه في تخليق سحري يُنبؤك عن مقدرة نادرة عند القليل من الخطاطين (الفنانين) من الذين أبدعوا في مقدرتهم على تطعيم الخط العربي بتكوينات تشكيلية مائزة. وهنا يختلط الخط بالتشكيل، فلربما تجد تشكيلياً يُتقن رسم الخط، فأصل اللوحة هو فضاء التشكيل، ولربما تجد خطاطاً هو من المُتيمين في جماليات التشكيل، فيكون الخط منطقته الإبداعية مع لمسات مُستعارة من إتاحات التشكيل البصري وإبهاره، بل وهُناك من يشتغل على الفضائين معاً بإبداع فني أخاذ، فتجد لوحته فيها من التشكيل اللوني بقدر ما فيها من وبناء نسقي الجمالي للخط العربي، وتلك منطقة إبداع نجد القليل من الخطاطين (التشكيليين)، أو التشكيليين الخطاطين قد تميزوا بها.

من التشكيليين الحروفيين الذي تمكنوا من جعل الخط العربي بمثابة لوحة بصرية وتشكيل لوني فيه الكثير من الإبهار والوعي بتاريخ رسم الحرف وتوظيفه بغدراك لمدارس التشكيل الحداثي والما بعد حداثي في نزوعه نحو التجريد، أو الدمج بين بين التعبيرية والتجريد هو التشكيلي (الخطاط) علي الحساني.

383 علي الحساني3

علي الحساني هو فنان خطاط تخرج من كلية الفنون الجميل بجامعة بابل عام 2014. هو الآن رئيس جمعية الخطاطين العراقيين/ فرع النجف. حصل على العديد من الجوائز العراقية والعربية والدولية، وشارك في الكثير من معارض التشكيلية في العراق والوطن العربي وخارجه. وأخُتير عضواً في أكثر من لجنة تحكيم.

لازم السيد صادق الحُسيني الخطاط النجفي الشهير لمدة سبعة عشر عاماً، الذي يُشار بالبنان بوصفه من أعلام الخط في النجف الأشرف والعراق. وقد أجازه للخط العربي حجي مهدي الجبوري أحد تلاميذ هاشم الخطاط، والأستاذ الخطاط علي الراوي الرفاعي وهو أيضاً من تلاميذ هاشم الخطاط، وكلاهما مٌجازان من خطاط القرن العشرين حامد الآمدي.

تأثر حديثاً في جليل رسولي الفنان التشكيلي الحروفي الإيراني، وقد وُصف رسولي بأنه يرسم بشغف روحي مُستلهماً تراث الشرق في الخط وقابلياته المرنة في بناء تشكيل حروفي إبداعي لا يهتم بالشكل فقط إنما هو يشتغل على المضمون، ولك في لوحات الفصول الأربعة التي أنتجها خير تعبير على قُدرته في التشكيل اللوني وتحطيم سكونية الحروف ليكسر بها قيود المألوف الدارج أو الساكن في تصوراتنا للفصول.

ولرسول مرداي الرسام الحروفي الذي رسم كثيراً من رسومات العُملة الإيرانية تأثيره الأكبر في تشكيلات الحساني الحروفية وإن كانت خارج التشكيل بأبعاده التعبيرية أو التجريدية، ولكنه تأثر بها لفرط ما فيها من إبداع في تشكيل الخط وترسيمه.

كان لدكتور محمد الطائي فعل تأثير إيجابي في تنمية وعي علي الحساني في تاريخ الفن وفلسفته، فضلاً عن حضور د. ماهر الناصري في النقد الفني.

أما علي شاكر وعمه زيدان النعمه ود.صفاء السعدون ود. محمد علي جحالي، فكان لسحر توظيفهم لـ "اللون" في ترسيمات الحساني الحروفية تأثير يشهد لها كبار الفنانين ومن أهمهم د. فاخر محمد.

تأثر بالفنان التشكيلي الحروفي العراقي (حاكم غنام) الذي يقطن الأمارات والشغوف بالخط العربي بتشكيلاته الفارسية والتركية، فكان لمحمد أوزجاي من تركيا وهو من من الذين أفادوا من ترسيمات فؤاد باشار في رسم الخط، وفؤاد هذا من تلاميذ محمد الآمدي الخطاط الشهير ورسول مرداي من إيران تأثيرهما البيَن في رسوماته وتشكيلاته الحروفية.

وكان لهاشم الخطاط البغدادي حضوره في كراسته المعروفة بقواعد الخط العربي.

يرسم الحساني بالكلمات قضية، و يصدق ما قال النصير عن فنه بـ"أنه فن ذا مرجعية دينية" والنصير مُحق بذلك، فالحساني إبن مدينة علي (ع) النجف الأشرف، وربيب مدرسة الكوفة، لذلك هو يرسم تجليات الواقع بتشكيل حروفي تعبيري عن قضية لها جذورها التراثية في ماضينا لينسج لنا حروفاً في فضاء تعبيري فيه بعض من توليف لتأثره بمدارس التشكيل المعاصرة ليمزج بين قضية مجتمع يبحث عن خلاص برسم للكلمات بتشكيل حروفي شغوف بتحولات ترسيمات ما بعد الحداثة في محاولته الخروج عما ذكرناه سابقاً وكسر قيود مُهيمنات البناء المعماري لـ (اللوحة) ونسقية المألوف الدارج في تشكيل الحروف على غرار تصميم زُخرفي لا يخرج عن رياضيات وحساب الوحدات داخل فضاء اللوحة في تشكيلها العربي المعهود.

فلم يكن الحساني مشغولاً في ترتيب وحدات اللوحة بحيث تتساوى أنساقها ذات اليمين وذات اليسار، أو الأعلى (الفوق) مع أسفل اللوحة أو أدناه للناظر.

رغم أن التناظر من جماليات اللوحة الحروفية التي اشتغل عليها علي الحساني، إلَا أنها لم تكن من من ثوابت فضاء اللوحة التصويري عنده، فهناك فضاء في اللوحة مليء برسومات حروفية وفضاء آخر لوني يُفسر لنا فضاء حروفية اللوحة ومعناها اللذي خطته أنامال التشكيلي الخطاط في إحدى زواياه، فإن كان في القول بعض من فرح ستجد مُقابلاً له تعبير لوني تزدهي ألوانه يميناً ويساراً، وإن كان في رسم الخط إخباراً أو ترميزاً يحتمله القول في ترسيمته الإبداعية خطاً للإيحاء برمزية وإعلان عن حزن ستجد في حروفية التشكيل مُقابلاً لونياً لها يكفيك عن فيض من تعبير عن ألم مُكتنز في ألوان اللوحة.

 

د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم