مقاربات فنية وحضارية

كريم الوالي وخرق ثنائية "الأنا و"الآخر" في التشكيل

68 كريم الوالي 1عرفت كريم الوالي في أواسط تسعينيات القرن المُنصرم، كان يرسم لوحاته مُتنقلاً بين البروتريه والتعبيرية والواقعية، ولكنه اختط لنفسه رؤية في التشكيل فيها ابهار لوني يخترق أفق المألوف في التلقي البصري، فكنت أقف أمام لوحاته مُنبهراً كيف بمقدوره تشكيل اللون ليجعل منه تعبيراً عن الأمل المكنون في مُخيلة الألم التي تشي بها أعماله.

إنه يرسم ويُشكل لا وفق معيارية سبقت، إنما هو من يُعطي للرسم معيارية مُفارقة.

في استعاراته اللونية شغف بالحياة فتجده يكشف عن نقاء ضامر في حُزن الألون ليكشف عن بهاء الألوان في تعالقها مع البياض.

في مزاح ليَ معه له وبدعوة منه لحضور معرضه الشخصي في قاعة (حوار) قال ليَ ما رأيك بأعمالي، فأجبته على جهلي في ذلك الحين "أنها أعمال تتميز بـ "البهاق اللوني"، فكانت اجابتي مُفاجئة له، فضحك بعلو صوت شفيف، فبادرني بالقول "ولك علي هاي منين جبته" وبتلقائيتي التي يعرفها جميع من عرفني أجبته "خويه كريم الأزرق في لوحاتك يخترقه اللون الأبيض والأحمر كذلك، بل كل الألوان الغامقة يخترقها اللون الأبيض ويصطف معها" فأجابني وأنا قلت ما شعرت به "والله علي شو انت كاعد تتفلسف"، ولا أطيل الحديث في مساجلتنا معاً، لكنني بعد مرور الزمن وبعد قراءات في فن التشكيل ومناقشة لرسائءل وأطاريح في كليتي الفنون الجميلة بجامعتي بغداد وبابل تأملت كثيراً بلوحات كريم الوالي القديمة في "بهاقها اللوني" والجديدة في بهائها التشكيلي وتراكم خبرة كريم ودراية الفائقة بمدارس الرسم وجدَت أنه يرسم بروحه لا بريشته، وكل ما ذكرته بسذاجة مني حول "البهاق اللوني" إنما هو ضامر في مُخيلته التي تشف محبة ونقاء، وبياض الروح ينعكس على ترسيماته اللونية رغبة منه في الكشف عن نقاء سريرة الإنسان.

68 كريم الوالي 2

كريم الوالي علمني وإن لم يعلم أن المحبة تغلب التعقل، فكان من قبل وبعد زمن هو هو ولو تغيرت تقنياته وأحسن التعبير في تمكنه من أدواته.

كريم الوالي تجريد ذات وتنقية وتنقية للرؤية البصرية في تحديه للمتن التشكيلي الشائع في الرسم العراقي، ليضع نفسه بمصاف التشكيليين المابعد حداثيين الذين يهيمون بكسر كل الأطر "الدوغمائية" و "النسقية" ليكشف لنا عن الهامشي والمُغيَب، ولم يكن لون البياض الذي تعشقه ريشته سوى نزوعه الروحي للزهد والعيش بعوالم التصوف وعشق حياتهم بكل ما فيها من زهد وتقشف.

68 كريم الوالي 3

رغم أن بعض من النُقاد يُحاولون ربط تجربته بفنانين عراقيين روَاد، إلَا أنني أميل للقول بأن لكريم الوالي تجربته الخاصة رغم اتقانه لأساليب من سبقوه من أساتذته، بل ودرايته بتاريخ التشكيل العراقي حضارياً، لكنه بوعي ضامر أو بوعي قصدي تمكن من أن يجعل من رسوماته تمثيلاً حقيقياً لحياته وطريقة عيشه كفنان مُدرك ومتابع لتحولات التشكيل، لكنه ليس نسخة ولا تجديد لتشكيل سبق.

كريم الوالي ابن النجف الأشرف بكل روحانيتها فانعكست تلك الروحنية بلوحاته، وكريم الوالي نتاج حرب ضروس أكلت الأخضر واليابس، ولكنه لم يقف عند عتباتها يائساً بقدر ما سعى ولا زال يسعى لترسيم حدوده المُلتهبة لا بتلوين لوحته بالسواد ولون الدم، بل بتصيير بقايا الألم وذاكرة الشجن أو الحُزن الراكس في نفوسنا ليُعيد انتاجه بريشة الأمل ليصنع حياة أفضل.

68 كريم الوالي 4

كريم الوالي تشكيل ليس على غرار تصميم، إنما هو يعمل تشكيل يُعيد للآخرين تصميم تشكيلهم، شغوف بالحياة ببعدها الأرحب في الحُب، وهذا ليس كلام إنشاء، إنما هو تمحيص بعد فحص للوحاته، فلك أن تتأمل فيها لتكشف مقدار خساراته، ولكنها لم تستطع أن تكسر ريشته لأنه يعي بروحه قبل تعقله لمتغيرات الألم والأمل أن للفنان دور رئيس في صناعة حياة أبهى وأجمل.

كريم الوالي صاحب جيل مُبدع منه فاخر محمد ومنه عاصم عبدالأمير ومنه بلاسم محمد ومنه محمد الكناني ومنه كاظم نوير ومنه محمود شاكر ومنه شوقي الموسوي ومنه ستار كاووش، وعدد ماشئت إن كان لك دراية وهواية وغواية بعوالم التشكيل العرقي الأبهى.

68 كريم الوالي 5

بعد هجرته تمكن الوالي من تحقيق نجاحات كبيرة، ففي ولاية كاليفورنيا بأمريكا كان لمعرضه الشخصي "شيفرة الحضارة" تميزُ وحضور بهي.

قرأت لكثي من النُقاد من الذي يهيمون بربط الماضي بالحاضر، فوجدَت الكثيرين منهم يُحاولون ردَ نتاج الوالي التشكيلي ماض تشكيلي رافديني عبر قراءتهم لمعرضه "شيفرة الحضارة" الذي أقامه في متحف "ترينون"، ولكنني أختلف معهم فرغم أن الوالي ربيب سلالة يمتد تاريخاً لستة آلاف سنة قبل الميلاد ورغم أنه يصف نفسه بـ "المُنقب الآثاري" ومحاولته ربط الخط المسماري بنتاج مدرسة الكوفة في التشكيل الحروفي، إلَا أنني أُصر على أن للوالي تجربته الخاصة التي لا يُمكن لنا أن نعدها نتاج "التراث" = "الأنا" فقط، ولا نتاج "الآخر" بقدر ما هي تشكيل ليست على غرار أنموذج من مُعطيات "الأنا" أو "الآخر" بقدر ما هي نتاج فنان تمكن من أدواته وتمعن في النتاج التشكيلي الذي سبق للـ "ألأنا" أو للـ "الآخر" ولكنه ينطبق عليه قول الشاعر الإيطالي (فاليري) "الذئب مجموعة خراف مهضومة" ولا يُمكن لنا بأي حال من الأحوال أن نردَ تجربة الوالي التشكيلي للتراث أو للحداثة بكل مُعطياتهما، ولكنها تجربة فردية مُستمدة من تفرد الذات ومن هذا وذاك، أي من التراث والحداثة.

 

د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم