مقاربات فنية وحضارية

معاني وجمالية الفن الاسلامي

كانت بداية نشأت الفن الاسلامي معتمدة على التراث الحضاري للامم القديمة التي شملها الاسلام كالحضارة الرافدية والفارسية والمصرية والبيزنطية والهندية والصينية . وبالتالي كانت هناك بواعث ودوافع وارضية خصبة لاحداث تحول وتطور على  صعيد التفتح العقلي والنمو الوجداني وقد تمثلت هذه الارضية بوجود الزقورات وقصور الآشوريين وطاق كسرى والقصور الساسانية التي كانت تعج بمحاسن الرسوم وجمال العمارة، وهناك الاهرامات والكنائس البيزنطية المنتشرة في الجزيرة العربية والتي كانت مزينة بانواع الرسوم والمنحوتات الدينية. وكذلك المعابد الهندية والمخطوطات المزينة بانواع الرسوم مثل مخطوطات ماني التي ظهرت في القرن الثالث ميلادي.. ثم وفد عدد من المصورين المانيين الى العراق في القرن الثالث الهجري للعمل في تزويق المخطوطات. وكان ماني مصلحا اجتماعيا ومصورا ماهرا من الطراز الاول. ويذكر بان مصطلح منمنمات جاء من اسم ماني.. وكانت صناعة الخزف والتزجيج اول ماظهرت في وادي الرافدين، حيث الالوان الساحرة المتلئلئة والتي نشاهدها تزين باب عشتار والقصور الآشورية و بنغمة اسطورية حضارية جميلة . كما كانت مادة الفسيفيساء مستخدمة بكثرة خاصة في جداريات الكنائس الشرقية وهو ما استفاد منه الفنانون المسلمون في تزيين مساجدهم مثل قبة الصخرة.4859 ابو علي

غير ان الفنانين المسلمين استطاعوا بعد ذلك من ان يبتدعوا سواء في فنونهم المعمارية او الزخرفية اوالتشكيلية ذلك الطابع المميز النابع من وجدانهم العقائدي. وقد شارك في انبعاث هذا الفن وازدهاره خلال مسيرته الكبرى التي استمرت اكثر من عشرة قرون عددا كبيرا من كبار الفنانين المسلمين منهم هذه الكوكبة الطلائعية وهم :

1 – ابن الرزاز الجزري -1206 م – مصور كتاب الحيل الميكانيكية.

2 – عبد الله بن الفضل – 1222 م- مصور كتاب خواص العقاقير.

3 – علي بن حسن بن هبة الله – 1209 م – مصور كتاب البيطرة.

4 – يحيى بن محمود الواسطي – 1237 م – مصور كتاب مقامات الحريري وصاحب مدرسة بغداد.

5 – كمال الدين بهزاد – الذي اشتهر في اواخر القرن الخامس عشر - 1450 م- حيث يعتبره بعض النقاد من اعظم الفنانين المسلمين.وهو مزوق كتاب – البستان- للشاعر سعدي وبعض من كتاب - المنظومات الخمسة- للشاعر نظامي. وشارك في تزويق الشهنامة للفردوسي. ويعتبر بهزاد مؤسس المدرسة الصفوية للفن.

6 – رضا عباس 1565-1635 الذي برز واشتهر في النصف الثاني من القرن السادس عشر ويعتبر رائد المدرسة الاصفهانية في زمن الاسرة الصفوية.

7 - عبد الجبار بن علي –الذي ظهر توقيعه على المخطوطات التي ترجع الى عام 1229 م لديوسقوريدس والتي انجزت في سوريا.

8 – ابن عزيز العراقي وقصير المصري– في اواسط القرن الحادي عشر– وقد اشتركا الاثنان في مسابقة للرسم امام الوزير الفاطمي اليازودي الذي كان مولعا بجمع الصور. والقصة مشهورة ينقلها معظم المؤرخين العرب.

9 – احمد الخراط البصري وهو من اقدم المصورين المسلمين حيث ظهر في النصف الاخير من القرن الثاني الهجري / الثامن الميلادي – سبق الواسطي باحوالي اكثر من خمسة قرون. وقد اشتهر برسم الاشخاص وكذلك رسم الكاريكاتير. وقد كلفه الشاعر بشار بن برد – 96-168هجرية - ان يرسم له على الزجاج طيرا فرسمه ولكن بشار لم يعجبه ذلك فهدد البصري بالهجاء.. فرد عليه البصري( ساصورك على باب داري بهيئتك هذه وعلى عاتقك قرد آخذ بلحينك فيراك الصادر والوارد.. فقال بشار اللهم اخزه انا امازحه وهو يأبى الا الجد ).4860 بوكلي

وقد ذكر المؤرخ المقريزي -1364-1442 نقلا عن كتاب – ضوء النبراس وانس الجلاس في اخبار المزوقين من الناس –للمؤلف ابو عبد الله القضاعي القرن الخامس الهجري -الالحادي عشر ميلادي – ذكر ان هناك مئات المصورين العرب والمسلمين كانوا يزوقون ويزخرفون المخطوطات وكذلك رسم الجداريات.. ولكن هذا المخطوط قد اختفي مع الاسف، ولم يبقى الا العنوان، مثله كمثل آلاف المخطوطات العربية والاسلامية التي نهبها المستعمرون الاجانب، كما حدث ويحدث للعراق اليوم عندما دخلته القوات الاجنبية حيث نهبت معظم تراثه العظيم ونقلته الى الخارج على مرآ ومسمع من الناس والمسؤلين. ؟ في عام 1845 بدأت التنقيبات من قبل البعثات الاجنبية في ارض العراق وبدأ من ذلك الوقت النهب والسرقة لتراث العراق مقابل دفع اموالا للسلطات العثمانية التي لا يهمها او يقلقها تاريخ وحضارة العراق..؟

وقد دخل الفن الاسلامي جميع مرافق الحياة. و نشط بعد حركة الترجمة والتأليف. حيث كانت المخطوطات تزين بالزخارف والخطوط والصور التوضيحية، كما نشط بعد النهضة العمرانية كبناء القصور والمنازل والمساجد والقباب والمآذن وزخرفتها بالنقوش العربية. كذلك زينت الاواني والملابس حتى وصلت الزخرفة الى قباقيب الحمامات.4861 مايس

لقد انفرد الفن الاسلامي من بين فنون العالم بالخط الزخرفي الذي استعمل في اوسع نطاق وفي جميع المنتجات الفنية. فقد حل الخط العربي بجماليته ومعانيه الروحية محل الصور التي نراها في الكنائس. فادرك الفنانون المسلمون الاوائل اهمية هذا الخط فجعلوا منه عنصرا تشكيليا طيعا في الزخرفة. فابدعوا في تشكيلاته وتنويعاته وجعلوا نهاياته احيانا تنتهي بالازهار او الاوراق. وكان القرآن الكريم هو الميدان الاول الذي اهتم به الخطاطون، حيث ذهبوا وزخرفوا عناوين السور ووضعوها داخل اطارات مزخرفة بانواع الزخارف النباتية والهندسية.

كما انفردت العمارة الاسلامية بطابعها المميز والذي لا نضير له في الحضارات الاخرى، وكان المسجد الميدان الثاني بعد القرآن الذي نال اهتمام المهندسين والفنانين حيث فاضت فيه ابداعاتهم وعبقرياتهم، فاصبح المسجد بمثابة المتحف الذي يرى الزائر من خلاله جمال وروح الفن الاسلامي. وقد ابدع هؤلاء الفنانين في جعل المساجد تتجه الى السماء في قبابها الزرقاء ومنائرها العالية وكأنها في صلاة دائمة.

فجاءت اشكال المباني الدينية راسية ضخمة عالية. وقد ظهر ذلك واضحا في اعمال المهندس التركي سنان الذي صمم جامع السليمانية سنة 1550 وجامع السلطان سليم. وتمتاز هذه المساجد بقبابها المتعددة ومنائرها العالية المضلعة والممشوقة والتي تنتهي بمخروط. اما في الاندلس فقد وصلت العمارة الاسلامية الى مستوى رفيعا من المعرفة وذلك لان الاندلس اصبحت مركزا تنتهي

عنده الحضارة الاسلامية. وقام عبد الرحمن الناصر في بناء مدينة الزهراء حيث كانت مبانيها افخر ما عرفه ذلك العصر. كذلك ما عمله بني نصر من عمارة قصر الحمراء الذي يعد آية في الجمال والرونق . اما مسجد قرطبة والذي بناه عبد الرحمن الداخل سنة 784 فقد ذكر بان العمل استغرق فيه قرنين من الزمان. فهو اكبر اثر تركه العرب في اسبانيا يحكي قصة امجاد وعظمة

الهندسة المعمارية الاسلامية الى حد هذا اليوم. ورغم ذهاب اكثر من اربعة عشر قرنا على نشأة الفن الاسلامي الا انه لم يتغير بتغير العصور والانظمة فقد ذهب الخلفاء والسلاطين والحكام واحترقت مدنهم الخيالية التي بنوها.... ولكن الفن الاسلامي بقى حي لايهتز انيقا يزين المساجد والمصاحف والسجاجيد والاواني وغيرها. ان سر هذه الديمومة هو ان الفن الاسلامي يتجاوز الافكار الوضعية والاشكال الظاهرية وانه لم لم ينحاز الى عصبة او حزب او قوم...... فبقاءه قائم مع وجود المساجد واماكن العبادة مدى الحياة..

لقد ولد الفن الاسلامي في المسجد ورغم ان وظيفة المسجد هي العبادة الا انه يبقى المكان الذي تتجلى فيه معاني وروح الفن الاسلامي وفلسفته المحكمة. وهذا يدلنا على العلاقة الوثيقة بين العقيدة والفن وان هذه العلاقة تسري كالدم في عروق الفن الاسلامي. فنجد هذا الفن يزين المصحف الكريم والسجاجيد واواني الوضوء والمنابر والقباب والمصابيح التي تتدلى من سقوف المساجد وغيرها. غير ان هذا التلاحم والترابط لا يفسر بان الفن الاسلامي عامل مساعد في شرح تعاليم الدين كما هو عند الاديان الاخرى. وانما دوره هنا يشير الى فلسفة الفن الجمالية النابعة من قوله تعالى :

( يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد )4862 قصر الحمراء

لهذا نرى ان القرآن يؤكد على تمتع الانسان بمظاهر الزينة والجمال وان احساس الانسان بالجمال واندفاعه نحوه انما هو شعور فطري ينبع من احساس النفس وتوجهها الفطري نحو الكمال وهذا الاندفاع لا يقف عند الاحساس المادي والصور الظاهرة وانما يتعدى ذلك الى الغور في العمق ليوقض في النفس الاشراق الروحي والاحساس الوجداني ورفعها من ركودها المادي الى عالمها

العلوي وتوجهها الاخلاقي. فعندما يمارس الانسان المظاهر الجمالية من اناقة وملبس وزينة وغيرها، وعندما تنعكس هذه الامور على ذاته الباطنية وتتفاعل معها لتكون بالتالي صورة حية للحس والذوق الجميل فيصبح سلوكا ومواقف انسانية تبتعد عن الممارسات الشريرة والقبيحة.

(ان الله جميل يحب الجمال)

*** 

د. كاظم شمهود

في المثقف اليوم