مقاربات فنية وحضارية

كاظم شمهود: الرموز والاشارات في الفن

الصرخة او الصيحة ليس من الضروري ان تكون معبرة عن الالم رغم انه من المعتاد ان تكون اشارة اليه. فربما تكون تعبيرا عن شيء مكبوت في داخل انفسنا منذ زمن طويل. او قد تكون تعبيرا عن شدة الفرح حيث تترك صدمة في اعماق مشاعرنا فننفجر بحركات عشوائية. ونجد ذلك ظاهرا في مدركات الطفل ودلالات صرخاته عن الجوع او الرفض او الالم او المنادات.3247 كوكان

و تدخل الصرخة في علم النفس فيذكر انها حاجة ملحة لتفريغ شحنة من الطاقة السلبية والغضب وذكروا بان الصراخ ممكن ان يعيد التوازن الداخلي ويجعل الانسان هادئا ومرتاحا بشرط ان لا يكون الصراخ موجها الى احد فيفسد العلاقات.. و يقترح البعض ان يذهب الشخص المكبوت الى مكان بعيد كالغابة وهناك يبدأ بالصراخ...   

ونحن نعلم بان العقل الباطني يختزن عددا لا يحصى من السجلات ومستودع لمعارف وصور وعلوم وقصص وخيلات واسعة مكبوتة منذ زمن. تظهر احيانا الى السطح بغير ارادة لاسباب كثيرة، ويمكن للفنان السريالي من استغلالها والشاعر من اقتناصها فيرسمانها على شكل صور محسوسة خيالية قادمة من عالم اللاوعي. وتبرز تلك الصور على شكل رموز واشارات خاضعة للتاويل والتامل.

والحياة العقلية توجد في شكلين الاول محدد ذو تفاصيل وشكل خارجي واضح. والثاني ربما هو الجانب الاكبر من الحياة مخفي غامض ولا وضوح فيه.. فالكائن البشري ينساب خلال الزمن كجبل ثلج لا يطفو منه الا جزء صغير فوق مستوى الوعي.

وعندما تظهر الصور المكبوتة تحول  الى رموز كما هو عند بول كلي حيث يطرح امامنا الطبيعة الخالصة النقية لهذا العالم الخفي الذي لا نشعر به الا اذا خرج الى السطح عن طريق العقل الابداعي. والاشارات والرموز هي نماذج متفق عليها تتطابق مع افكار مجردة مثل الحمامة تدل على السلام. والصليب يدل على المسيح-ع- كما يمكن القول بان الرمزية محددة مثلا تكون الدائرة رمزا للكمال والاكتمال بل رمزا للقواعد التي تحكم الكون، وان الهرم رمزا للثبات، وان الخط المتموج رمزا للرشاقة واللطف، وهكذا.

ونجد الكثير من الفن التكعيبي قائم على الرمزية وعادة ما تستخدم الرمزية صور محددة مشيدة اثناء ذلك خيالات عقلية وعناصر لتجارب عقلية ويمكن ان تتجمع باسلوب واعي.. ويمكن للرمزية ان تاخذ معاني مختلفة حسب ثقافة كل شعب وكل عصر.. وقد شاهدت بعض التقاليد القديمة في جنوب اسبانيا ان العريسة تلبس ثوبا اسود بدلا من الابيض المتعارف عليه اليوم..

3248 بول كلي

كما ان أعمال تابيس لها معاني فلسفية رمزية وعلى النقاد تأملها، مثلا نرى في اعماله ان حرف - T - يتكرر في معظم لوحاته ويرمز الى اسمه Tapies او اسم زوجته Teres، كما ان اسمه يعني الجدار Tapique ولهذا نجد الاعمال التي تظهر آثار الجدران وشقوقها نجد عليها مرسوم حرف - T - وكذلك  نرى ان رسم الصليب يتكرر في اعماله، وحسب تفسيره ان الخط الافقي يرمز الى الحياة المادية  والخط العمودي الى العلو او السمو الروحاني وليس من الضروري ان يرمز الى المسيحية. علما ان تابيس رجل علماني. اما حرف - X - والذي يستخدمه بكثرة في لوحاته فهو غامض ايضا وربما يرمز الى رفض الشيء او الغائه Tachar.

وفي اعمال شاجال نجد ايضا نوع من الرمزية حيث ياتي التناغم من الالوان المتالقة كالوان قوس القزح، وهي الوان لا تنتمي الى مشهد من مشاهد الطبيعة ولكنها ترمز الى عالم من الخيالات اللاواعية. ويظهر لنا شاجال عالم من الصور قادر ان يرمز الى خصوبة روؤيا الفنان وثرائها.

3250 شاجال

في عام 1888 التقى كوكان مع الشاعر والمفكر بول سيروسيه في باريس فعكف الاخير على دراسة اعمال كوكان وشرحها بتامل بعد ذلك اطلق عليها اسم- الرمزية – وقد ادخلنا هذا الراي في ثورة عارمة اجتاحت كل التراث القديم طوال خمسة قرون متعاقبة ومدرسة جديدة تبناها كوكان.. وقد ساق لنا هذا الرجل العصامي المثقف رأيا ثاقبا وجريئا لتلك المرحلة حيث قال (في الرسم يجب على المرأ ان يطلب الايحاء اكثر من الوصف كما في الموسيقى). وكانت اعماله تتمثل فيها العودة الى البدائية والفطرة. وقد اسس له مذهبا جديدا – هو مذهب الرمزية - كما ذكرنا ذلك سابقا والذي ولدت من رحمه المدرسة الوحشية.

3249 دالي

وكان كوكان 1848 ولد من اب صحفي فرنسي وام من امريكا الجنوبية من بيرو وقد عاش معظم طفولته في ليما عاصمة بيرو. ثم انتقل الى باريس وعمل في بداية حياته كسمسار لتحويل العملات ثم اخذ يتعلم الرسم نفسه بنفسه ومع صديقه بيسارو.. ثم اخذته عاطفة الام والحنين ان يترك الحضارة الاوربية وباريس وزوجته واولاده ويهرب الى البحار الجنوبية فاخذ يتجول فيها ثم استقر في جزيرة هايتي، ومات هناك في جزر الماركيز عام 1903.

و عند كوكان يعني الرمز ذلك الجوهر الذي تنطوي عليه الاشياء والاشكال دون ذلك الظاهر السطحي الذي هو اساس التصوير الواقعي. وقد اشار كوكان الى هذه الرمزية عن احد تخطيطاته يمثل صليبا تشتعل فيه النار قائلا (ذلكم هو شعار الرمزية).

***

د. كاظم شمهود

في المثقف اليوم