مقاربات فنية وحضارية

كاظم شمهود: من رواد الفن العراقي المعاصر.. خالد الرحال

ولد خالد في بغداد عام 1926و يعتبر من ابرز النحاتين العراقيين الذين لازالت اعمالهم شاخصة في كثير ميادين بغداد وروما.

نشأ خالد في بيئة عائلة فقيرة وترعرع وتربى في ازقة بغداد القديمة، ومع شبابها الطليق المتمرد، وتذكر زوجته المغربية مليكة بان والديه كانا يتعاملان معه بقسوة وشدة حد الضرب، ولهذا كان يلتجأ الى الشارع لحماية نفسه ويعيش اشبه شئ بالمشرد. هذه البيئة الفقيرة والقاسية تركت بصماتها على نفسية خالد وسلوكه طيلة حياته. وتذكر مليكة انه كان حاد المزاج وعصبي جدا، فاذا ثار يحطم ويكسر كل شئ امامه، وكأن قساوة والديه وسوء تعاملهم معه، تظهر عليه بين الحين والاخر، ثم يهدئ ويعود الى وعيه ورشده الطبيعي.3706 خالد الرحال

في احد الايام زار الناقد والكاتب الالمعي جبرا ابراهيم جبرا ورشة خالد وكانت تقع في الحي التجاري في بغداد وكان يصنع فيها تماثيل يكلف بها من جهات رسمية وغير رسمية. فقال جبرا " (لن انسى ابدا كيف في احدى الامسيات في عام 1948، كان يبلغ من العمر 22 سنة وغير معروف اخذني الى غرفة صغيرة رثة في منزل صغير رث في احدى اقدم احياء بغداد، حيث جلسنا على عجل من امرنا على حصيرة، ثم اخرج مثل الساحر كومة من اجمل الرسومات، وكثير منها كانت دراسات نحتية. كانت في الغالب رسومات لنساء في الحمامات او الرقص الشرقي او ممارسة الحب (... ) كلها سمينة مليئة الجسد تهتز بقوة الحياة).

كان خالد قد درس في معهد الفنون الجميلة على يد جواد سليم وكان من احب التلاميذ اليه. وتخرج منه عام 1947. وكان قد عمل في المتحف العراقي لاستنساخ القطع الاثرية القديمة كغيره من الفنانين الرواد الذين اشتغلوا تحت اشراف مدير الاثار العامة ساطع الحصري في بداية النظام الملكي، وكان صاطع مؤسس الفكر القومي في العراق. ثم تغير وجاء من بعده مديرا للاثار ناجي الاصيل وكان خالد يعمل تحت اشرافه.. بعد ذلك حصل خالد على منحة دراسية في مطلع الستينات لدراسة النحت في اكاديمية روما، وحصل من هناك على الماجستير في النحت عام 1964.3707 خالد الرحال

حكى لي صديق (فنان سوري اسمه ممدوح قشلان ـ 1929 دمشق) قصة طريفة عن خالد، وكان قد درس الفن مع خالد وفي نفس الصف. فذكر لي انه في يوم من الايام كان عندهم درس نحت لموديل عاري وكانت المرأة تقف امام الطلبة عارية ويشكل الطلبه حولها نصف دائرة ويبدؤن بتجسيدها على مادة الطين او غيرها. وذكر انه في اثناء الدرس كان خالد بين فترة واخرى يذهب الى الموديل ويلمس صدرها ونهديها ليتحسس الحجم والطراوة.. فكان ذلك يثير الضحك واستغراب الجميع..حتى قال له الاستاذ، هذا العمل غير جائز تمسك صدرها ومؤخرتها. فنهاه وامتنع.

كان خالد رجل عملي (شعبي..) وكان كل شئ يقع في يده من مادة خام يطوعها وينحتها، وقد كلف بتنفيذ كثير من الاعمال النحتية في روما. ولكنه لم يتقن اللغة الايطالية كما ينبغي.. ويذكر انه في يوم من الايام كان مسافرا في قطار وكانت الى جانبه امرأة عجوز، فعندما وصلوا الى احد المحطات سألته المرأة العجوز، في اي محطة الان هم ؟ فاخرج خالد رأسه من النافذة ورأى قطعة مكتوب عليها عبارة، فقراها الى السيدة. فتعجبت ونظرت اليه باستنكار ثم اخذت حقيبتها وانتقلت الى مكان اخر؟ فادرك خالد ان هناك شئ غريب حدث؟، فالتفت الى احد الركاب وطلب منه قراءة الكتاب التي في تلك القطعة فقال له مكتوب عليها (ممنوع التدخين). فضحك خالد وعرف السبب من هروب السيدة الى مكان اخر..

وتذكر المصادر التاريخية بانه اثناء الحرب العالمية الثانية كان قد تواجد في بغداد ثلاثة من الفنانين البولونيين وكان لهم الاثر الكبير على الفن والفنانين العراقيين حيث غيروا دفت مسيرة الفن العراقي نحو المدارس الاوربية. وكان خالد واحد من الذين استقبلوا هؤلاء الفنانين وتأثر بهم.3708 خالد الرحال

اعمال خالد

عندما كان خالد يعمل في مديرية الاثار كان قد استنسخ رأس الملكة السومرية شبعاد وزينها بجواهر حلي الملكة التي عثر عليها في مقبرة اور. مما اتاح له هذا العمل دراسة الوجوه السومرية ومقارنتها بوجوه نساء الجنوب. فيقول خالد : ان بائعات اللبن هن استمرار لحياة الشعب السومري خاصة الحواجب الملتقية والعيون المفتوحة الحادة البصر. وكانت اغلب اعمال خالد مستوحات من تماثيل بابل واشور وكذلك الفن الاسلامي.

و بعد عودته من روما كان في زمن سقوط الملكية وقيام الجمهورية 1958 حيث قام بعمل تمثال الامومة في زمن عبد الكريم قاسم عام 1961. وفي زمن صدام كلف بعدد من الاعمال العملاقة ضمن الخطة التي وضعتها الحكومة لتزيين العاصمة بغداد والتي تتماشى مع الفكر القومي. ففي عام 1973 قام بعمل نصب المسيرة وتمثال المنصور عام 1976 وقوس النصر عام 1986 ونصب الجند المجهول عام 1979. وتقول مليكة زوجة خالد ان اكثر الاعمال التي اخذت منه وقتا طويلا هو الجندي المجهول حيث استعان بمعماريين ومصممين بعضهم اجانب. والنصب يمثل درع محارب ساقط. وترك خالد وصية ان يدفن قرب نصب الجندي المجهول، وفعلا نفذت الوصية ولازال القبر في ارض خضراء بسيطة محاط بسياج ارتفاعه 15 سم وهو مهمل..3709 خالد الرحال

وكان لخالد ولدا اسمه محمد وكان نحاتا ورساما، وحسب قول مليكة انه متقد الذكاء والمهارة اكثر من ابوه؟. ولكنه لم يعش طويلا فمات بعد ذلك..و انظم خالد الى جماعة بغداد عام 1953 وكان احد ابرز افرادها وصديقا حميما لجواد. وعندما سمع بموت استاذه وصديقه جواد حضر الجنازة قبل تشييعها واجهش بالبكاء، ثم اخرج مادة (خاصة جلبها من روما وقيل جبس) وغطى بها وجه جواد بهدوء واعتناء واخرج قالبا اصليا لشكل وجه جواد، اصبح اليوم مرجعا لجميع الفنانين والباحثين.

***

د. كاظم شمهود

في المثقف اليوم