مقاربات فنية وحضارية

علاء اللامي: العراق كله في وادي الرافدين ولكنَّ وادي الرافدين ليس كله في العراق!

سأبدأ هذه المقالة الخفيفة بهذا التوضيح ذي الطابع الشخصي لعلاقته بما سوف يرد في هذا النص  وبنصوص أخرى شبيهة به نُشرت أو ستنشر مستقبلا: لا أزعم، ولم أزعم يوما في جميع كتاباتي أنني باحث أنثروبولوجي "إناسي" أو أركيولوجي "آثاري" أو متخصص في علوم الأديان واللغات والحضارات القديمة بل مجرد كاتب وإعلامي يهتم بهذه المجالات العلمية في إطار "الإعلام التخصصي" الشائع في الثقافات الأجنبية، حيث نجد العديد من الإعلاميين المتخصصين بالعلوم التخصصية التجريبية والإنسانية وبالرياضات البدنية او الذهنية من دون أن يكونوا باحثين متخصصين أو رياضيين بل هم بكل تواضع إعلاميون ومحللون يناقشون أبحاث ودراسات الباحثين. هذا النوع من الإعلام العلمي التخصصي ليس له وجود واضح في الثقافة العربية وهو ما جعل كل من هبَّ ودب وقرأ كتابا أو كتابين في التاريخ القديم يفتي ويفصل ويقرر ويؤلف الكشاكيل تلو الكشاكيل في هذه العلوم المعقدة والدقيقة!

إنني لا أنفي كوني باحثاً متخصصاً من باب التواضع الزائف أو خوفاً من نقد علمي رصين متوقع أرحب به أشد الترحيب، بل لسبب موضوعي هو أن صفة الباحث الأكاديمي المتخصص في الأنثروبولوجيا "الإناسة" أو الإركيولوجيا "علم الآثار" أو في علوم الأديان والأساطير واللغات والحضارات القديمة أو أحدها تتطلب عددا من المؤهلات من أهمها:

1- معرفة لغة أو لغتين قديمتين وخصوصاً الأكادية القديمة والسومرية على الأقل.

2- تجربة فعلية في التنقيب الآثاري الفعلي لعدة سنوات معززة بإنجازات حقلية موثقة.

3- دراسة أكاديمية تخصصية معززة بشهادة من جامعة معترف بها في الميدان المعني.

إضافة إلى شروط لازمة أخرى منها حيازة الباحث لثقافة عامة واسعة، ولغة تأليف سليمة نحوا وصرفا وأسلوبا، والأمانة والدقة في النقل والاقتباس عن الآخرين، والتواضع والصرامة في البحث والتحقيق والتحليل، الصبر والتأني والحذر البحثي والإخلاص للحقيقة وللحقيقة فقط.

ولهذا لا أريد أن أدرج نفسي أو يدرجني محب متسرع أو كارهٍ متربص في خانة الباحثين أو الأكاديميين المتخصصين إنما يشرفني أن أكون كاتباً وإعلامياً مهتماً بهذه العلوم، أعتز بمساهمتي المتواضعة - ذات المنحى التعريفي والتوضيحي التثقيفي لجيل الشباب والقراء غير المتخصصين - التي أنجزتها، متتلمذاً دائماً على تراث وإنجازات كبار المعلمين من أمثال طه باقر وفؤاد سفر وبهنام أبو الصوف وراجحة النعيمي وفاضل عبد الواحد ونائل حنون وخالد إسماعيل وغيرهم، إضافة إلى الباحثين والمستشرقين الأجانب المنصفين الموضوعيين المخلصين للعلم واشتراطاته، ويبقى الحكم على ما كتبتُ في الدراسات والكتب القليلة الصادرة للمنهج العلمي وحده وليس لأمزجة الكُتاب أيا كانوا فليرد علي من تناولت كتاباتهم بنقدي وليحاولوا تفنيد ودحض ما كتبتُ ولا يكتفون بممارسة سياسة النعامة التي تدفن رأسها في الرمال حتى لا ترى الخطر الذي يتهددها!

عوداً إلى عنوان موضوعنا فأقول؛ إن بلاد الرافدين أو بالاسم الأكدي "ما بين النهرين/ أرض الما بين – مات بريتم" أو بالاسم اليوناني الذي ظهر بعد أكثر من ألف عام (ميزوبوتاميا/ مترجمة عن التوراتية: آرام نهارايم) لا تعني العراق فقط! إنَّ العراق الحالي بحدوده السياسية الراهنة هو جزء من وداي الرافدين، وهو قلب هذا الوادي ولكنه ليس كل وادي الرافدين، ولأنه يمثل قلب الوادي فقد دأب الناس قديما وحديثا على أن يخصوا العراق باسم بلاد الرافدين المرادفة لبلاد ما بين النهرين والتي ترجمت لاحقا الى اليونانية وشاعت في الغرب بلفظ "ميزوبوتاميا".

إن هذا الوادي والإقليم الجغرافي الحضاري، يمتد كما هو معروف من منابع دجلة والفرات شمالا وحتى مصبهما عبر شط العرب في الخليج العربي جنوبا (بل ويمتد حتى سلطنة عمان كما تؤكد المكتشفات الآثارية الجديدة التي تحدث عنها الباحث العراقي نائل حنون مؤخرا). أما هل تشكل حضارة وادي الرافدين حضارة واحدة منسجمة أو عدة حضارات متداخلة، فهذا أمر آخر ينطوي على سؤال مهم ومنتج سنؤجل البحث التفصيلي فيه إلى مناسبة أخرى.

وعلى ذلك، فمواقع الحضارة الرافدانية ومدنها القديمة لا توجد في العراق الحالي فقط، بل أينما وجدت هذه المواقع والمدن والآثار والمدونات باللغات الرافدانية القديمة بالخط والعلامات المسمارية على امتداد ضفاف النهرين الكبيرين وروافدهما في هذا الوادي، أما حدود سايكس بيكو التي رسمها الغرب لدول المنطقة المعاصرة تقع أجزاء منها في وادي الرافدين ولا علاقة لهذه الحدود بعلوم الإناسة والآثار وعلوم التاريخ القديم بل هي حدود سياسية رسمية وليست حدود بين حضارات منفصلة ومستقلة. وسيكون من المضحك أن يتعارك رواد الفيسبوك - كما حدث قبل أيام على إحدى الصفحات حول تبعية مدن مثل ماري وكركميش وشُباط إنليل القديمة وهل هي سورية أم عراقية أم تركية! ومثل ذلك يقال عن الاتهامات التي وجهت الى الباحث حنون لأنه قال إن الأدلة الإركيولوجية تؤكد أن الكتابة التصويرية (السابقة للكتابة بالعلامات المسمارية) ولدت في منطقة الجرف الأحمر على نهر الفرات ضمن حدود الدولة السورية المعاصرة فسارع بعض الجهلة بديالكتيك العلاقات بين الكيانات الجغرافية والأخرى الحضارية إلى اتهام الرجل بأنه "قومجي" يريد التضحية بعراقية ابتكار الكتابة لمصلحة دولة عربية هي سوريا التي يقع فيها موقع الجرف الأحمر الأثري! والحقيقة هي أن الجرف الأحمر ومدينة ماري الأثرية صعودا حتى آثار مدينتي كركميش وكورح التي عثر فيها على مسلة المسلك الآشوري شلمانصر الثالث ونزولا حتى أور ولجش جنوبا تقع كلها في وادي الرافدين، ولكن في أكثر من دولة حديثة، وإن عمرَ هذه المواقع سابق لأسماء وكيانات وحدود تركيا وسوريا والعراق بآلاف السنوات!

أعتقد أن الدقيق علمياً هو القول إنها مدن رافدانية تقع في هذه الدول المعاصرة رغم أن العراق يمثل قلب هذا الوادي، فنقول مثلا (كركميش وكورح مدينتان رافدانيتان تقعان في تركيا الحالية، وماري وشُباط إنليل مدينتان رافدانيتان تقعان في سوريا الحالية وبابل وأور مدينتان رافدانيتان تقعان في العراق الحالي). بلاد الرافدين تستمد اسمها من الواقع الجغرافي "الكيانية الجغرافية"، التي صارت لاحقا كيانية حضارية اسمها حضارة بلاد الرافدين، وهي حضارة منقرضة وموضوع للدراسات والبحوث العلمية، ولكنها لم تكن قط كيانية قومية لغوية ثابتة وصافية. ثم إنها بدأت كيانية جغرافية صغيرة وتعني الأرض الواقعة بين نهري البليخ والفرات أو الخابور والفرات أو بين الفرات وهذين الرافدين الصّابين فيه.

 هذه هي نواة مشروع كتابي القادم والذي سأحاول فيه تفكيك هذه النزعات والعصبويات القطرية الفارغة والمتشنجة والناتجة عن الأوهام التي زرعها وغذّاها المستشرقون الغربيون وتلامذتهم الببغاوات العرب!

***

علاء اللامي

في المثقف اليوم