روافد أدبية

ماما غولة / يوسف يافين

و لعله يسخر من حركاتي العصبية و أنا أمزق الأوراق بعد أول جملة... تدخل طفلة محجبة ، تبدو كأنها خرجت لتوها من ثنايا مسرحية ميلودرامية ، تلك النظرات المنكسرة تبعث على الشفقة . خطرت لي فكرة ماكرة ، سأنفحها درهما و من يدري ، ربما تأتيني الملائكة بفكرة جديدة كمكافأة .. دست الدرهم في جلبابها الذابل ، و دعت لي بالنجاة من عذاب يوم القيامة ، فكأنها ألقت بحجر ثقيل في المياه الراكدة ، و أيقظتْ "ماما غولة" من كهفها المظلم في هذا الصباح المشؤوم . أخذتُ رشفة طويلة ، و تركت الذكريات تتداعى لتنقلني إلى زمن كان . تداهمني شهوة الكتابة ، أريد أن ألتهم الورق ، أترك العنان لشيطاني :

قال الراوي :

بعض الذكريات تحفر فينا عميقا ، و تستقر كصخرة ثقيلة لا تتزحزح ، ذكريات تظل منغرسة في قلب السؤال ، لا نستطيع فكاكا من سطوتها ، مهما حاولنا ، تبقى كندبة غائرة لا تمحوها الأيام . لم أكن أعرف من الأيام إلا الجمعة ، كنت أعرفه من خلال الطقوس ، صوت عبد الباسط الذي يصدح في أرجاء البيت ، رائحة الكسكس* , رؤية أبي يتأبط هَيْدورة** الصلاة ، ثم يرجع حاملا كيس البرتقال . كان كيس البرتقال هو الأهم بالنسبة لي من بين كل تلك الطقوس الأسبوعية .

 

ربما كنت في الخامسة ، في الحقيقة لا أدري متى بالضبط . كنت ألعب مع الأولاد قرب المزبلة المجاورة للمقبرة القديمة . لم نكن ندري شيئا عن أي شيء ، كنا نتراشق بالقناني ، و بقشور البرتقال . قهقهاتنا كانت بلا خبث ، و عداوتنا كانت مكسوة بالثلج . أذكر أني عدت إلى البيت متلهفا و صراخي يسبقني : " أين كيس البرتقال ؟ " لكن الخيبة تربصت بلهفتي الطفولية ، بدل البرتقال اشترى أبي كتابا على غلافه امرأة لم أشاهد مثلها حتى في كوابيسي ، تملكني هلع كاد أن يجعلني أتبول ، تلك العيون الجاحظة ، تلك المرأة العارية إلا من حمرة اللهب ، تساءلت عن الضيفة الثقيلة ، فقيل لي :

-     " إنها امرأة شقية يعذبها الله يوم القيامة "

-     " هل أنا شقي ؟ "

-     " تكون أحيانا ..."

أتوقف عن الكتابة و استنشق نفسا عميقا من السيجارة ، كأني أتحسر على شيء ضاع . يدخل طفل صغير يرتدي ثيابا لم تعد مألوفة ، في عيونه تبدو غيوم الخوف ، و يكاد الدمع ينهمر على خديه ، يقترب مني و يخفض جبهته على ركبتي و يمسك بيدي ، أسأله :

-     " ما بك ؟"

يجيب بصوت مهموس كأنه يخشى أن يسمعه أحد :

-     "ماما غولة "

ثم يدخل في نوبة من البكاء الصاخب ، لا أجد مفرا من ضمه إلى صدري محاولا تهدئته :" لا تخف يا صغيري .. أنت في أمان.." أهمس في أذنيه ببعض الكلمات ، فيستعيد ضحكته و يعانقني بحرارة ، أرفع رأسي فلا أجده. النادل ابن الكلب يرمقني بنظرات ساخرة .

أعصر مخيلتي التي بدأت في النضوب و أترك الكلمة للراوي :

 

تلك النظرات الجاحظة جعلتني أفقد شيئا من براءتي ، الخوف يدفعنا إلى الشر أو الدروشة ، قرفصت في ركن الغرفة منكمشا على نفسي ، محاولا أن أتخلص من فكرة احتراقي وسط النيران ... غرق البيت في غفوة صامتة بعد التهام الكسكس بخضاره السبعة ، و انفردت بتلك الحيزبون المستلقية على الطاولة ، أنا و هي و الحقد ثالثنا . سيدي ربي ! جسدها يفارق الغلاف ، حجمها يتضخم ، رأسها يلامس السقف أو يكاد ، أظافرها الطويلة المتسخة تتجه نحوي ، أركض إلى الزنقة ، أصرخ و لا أحد يسمعني ، بنت القبيحة تتبعني ، و الله العظيم تتبعني ! أتغلغل وسط المزبلة ، أجد أمامي ركاما من العجلات تحترق ، ألتفت متقهقرا ، تمد أظافرها الوسخة و تحاول خنقي ، أتراجع مذعورا وسط الدخان ، أسقط في النار ، آآآه ! ...انتبهت من كوابيس اليقظة و أنا أتفصد عرقا باردا ، ثم قررت أن أتغذى ببنت القبيحة .

     أخفيت الكتاب تحت ثيابي خلسة ، و قادتني قدماي إلى المزبلة . الدخان الكثيف يحجب الرؤية و ينشر تلك الرائحة الكريهة ، اقتربت من النيران ، تأملت "ماما غولة" طويلا بنظرات سادية . سأقذف بها في الجحيم كي أتخلص من سحنتها التي حرمتني من حلاوة البرتقال ، سأستمتع بمراقبة وجهها الحيزبوني و هو يذبل وسط اللهب المتقد . تملكني شعور مبهم ، نظرت جهة البيت ، عدت لأستدير جهة النار ...

     أرشف ما بقي في الفنجان ، أشعر كأن أصابعي أصيبت بتكلس مؤقت ، حتى مخيلتي أصابها القحط ، ربما أتصدق بدرهم آخر ...

 

     

*الكُسْكُس : أكلة مغربية تقليدية.

**هَيْدورة : سجادة صلاة مصنوعة من فرو خروف.

كازابلانكا - المغرب

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2114 الثلاثاء  8 / 05 / 2012)

 

في نصوص اليوم