روافد أدبية

طائر الفينيق / ميسون يوسف

متخذة نهاية الشارع وبدايته من الطرف الاخر لتكون المستقبله والمودعه لتلك المركبات المتلاصقه كدودة قز والمتسابقه مع بعضها لتنطلق ابتعاداً عن مجهول يتواجد يومياً في شوارع فقدت الأمان والقانون الذي يحكمها .

ارتمت الى جانبها عكازتان متسختان باتت لا تستطيع الاستغناء عنها فهما المعينتان لها بالسير والوقوف.   كدسُ من الصحف اليوميه بأسماء عدة وافكار متضاربه   .

وضعت يدها على الصحف التي بجانبها وسحبت البعض منها فقد توقفت حركة المركبات

نادته ذاك الصبي الذي يبيع العلكه ويساعدها في بيع الصحف , انطلق بما يحمل بيده يتقافز كطائرفقد قدرته على الطيران واجتاز طوابير عدّ’ بسرعه كي يصيح :

ــ جرايد........جرايد............علج جرايد .......علج

ما ان تبدأ الحركه يعود اليها....

ــ خاله هاي فلوسج

ــ اشكرك فدوه العينك والله ما اعرف شسوي بلياك

ــ تأمرين خاله

ارتشفت قليلاً من قدح الشاي الذي إعتاد الشاب عبر الشارع صاحب الموقد وابريق الشاي الكبير والاقدح النظيفه بتقديمه لها كل صباح رافضاً في كل مره استيفاء ثمنه منها .

ارتفعت صرخة الالم في داخلها والتي لم تكبُو وانتزعت آه......فآه .. ثم غارت في اعماقها لتنتزع دمعتين احرقت جفنيها وأنسابت في اخاديد وجهها الذي احرقته الشمس واتعبته اوجاع الازمنه الصعبة.

تداعت الصور الموحشة لزمنها القريب في ذاك اليوم المشؤوم حين أحسّت بألم شديد في ظهرها وأصرّ هو على ان يأخذها الى المستشفى العام الذي يرتاده معظم ابناء منطقتهم وفي المركبة التي كانت تقلّهم كان يميل اليها مازحا و مناكداً...

ــــ صرتي عجيزه يا مره....شدكولين راح اتزوج وأجيبلج ضره....

تتذكر انها ضربته على ساقه بحب اذ انها تعلم ان قلبه لا يتسع الاّ لها ولأولاده.

ثم صاح....

ــ يابه نازل يم المستشفى .

سارا معاً بالطريق المؤدي الى الباب الرئيسي , ومن حولهم العديد من الناس الذين تتسارع خطواتهم وقلوبهم لا تعرف سوى العون والأتكال بعضهم على بعض .. اناس يلجأون للمستشفى العام لمجانية العلاج.

وفجأة دوّى صوتٌ قوي هزّ اركان المكان برمّته وأعقبته غيمة سوداء احاطت بهم ثم تناثرت اشلاء اجساد وتساقطت كمطر على اسفلت الشارع وإتسعت برك الدم .

ثم راحت في غيبوبة..... ورأته واقفاً بجانب رأسها يعيد ترتيب وشاحها ويغطي اجزاء جسدها المكشوف ..ثم نزل وقبلها من جبينها ..

ــ الاولاد ..صيري امهم وابوهم ... صيري بيتهم ووطنهم.. وديري بالج عله نفسج .

لم تجبه لقد تشوشت الرؤيا في ذاكرتها....

(ماذا يقول ؟ عن اي اولاد يتكلم؟...انه يوم عرسي لقد رفع وشاحي وقبلني ..رأيت اصدقائه...اهله...اقربائه...أهل محلتنا...انهم كثيرون .. من هم ؟ ولماذا يلبسون البياض؟)

نظرت اليه متسائلة , وبدأ ضياءاً مشعاً يحيط به ومن معه كقديسين منحهم الرب نوراً .. ثمّ إختفى ..

الضوء ملأ عينيها .. لقد ميّزته انه مصباح فحص صغير وبجانبها شخص لم يكن زوجها كان يلبس البياض ملطخاً بدماء نقيه. وأخذ يتكلّم مع شخص يقف بجانبه , لم تفهم ما يحدث , فاصوات الصراخ والنحيب قد أمتدّ حتى لجين السماء.

(الله لا ينطيهم ...شمسويلهم؟....ظلاّم .. لادين ولا ديانه ....ولا رحمه ...بيا وجه تلاكون ربكم ؟ هاي اذا اتعرفون الله يا كفره) .

كانت تفتح عينيها بصعوبه بالغه علّها تجده اين هو ؟ اين ذهب ؟.

جالت بنظرها في الصاله ..ماذا حدث ؟ الاجساد مغطات بالدماء , ومرمّية على الاسره والمسعفون يملاؤن المكان وصراخ النسوه والرجال جعلها تستوضح ما جرى , ضربت بكفّيها على وجهها وغرست اضافرها في وجنتيها الشاحبتين وانتزعت وشاحها وصرخت بهلع لكنّ صوتها ضاع وسط الصراخ الجماعي الذي عصف بالمكان ..

(انقلوها لغرفة العمليات حالا).

صعقت وصرخت ..تأريخها مع زوجها انتهى هناك امام الباب الرئيسي للمستشفى بلحظات فقدته وفقدت ساقا من ساقيها .

واكملت تأوهاتها هنا حيث تجلس في هذا الشارع الذي آواها واستطاعت ان تحمي اولادها من التشرد والجوع وتسعي بأن يكملوا مشوارهم الدراسي . صحيح انها انتقلت بالمعيشه للسكن بغرفة لعدم استطاعتها دفع ايجار المسكن الا انها سعيده بمنطقتها الجديده وسط اناس لمست عندهم الطيبه والاهتمام فقد وجدت الالفه والمحبه والأمان ورعاية الاولاد بغيابها لدى (مادلين) جارتها في الحجرة وسط الدار المستأجرة غرفه .. ارمله في نهاية الستينيات من عمرها يتوسط غرفتها تمثالا للسيده العذراء وصور لشابين فقدتهما في حرب الثمانين   ولابنتيها اللتين تزوجتا وهاجرتا الى الخارج ... اما هي فقد اصرّت على البقاء في وطنها الذي أحبّته ومحلتها بتنوع ساكنيها وذكرياتها التي لا تنتهي الى ان تغفو الاغفاءة الاخيره .

وهكذا اصبحت (مادلين) الام والاخت والصديقة وملاذها حينما يتجمع الالم في صدرها وينطلق فترتاح وتهدأ وتقوم الاثنتان لايقاد الشمع بجانب العذراء فتنطفأ أهاتها .

والان وهي جالسة في هذا الشارع وعكازتاها الممدتان يعطيانها القوه في ان تنهض وتمارس مسؤوليتها كي تكون ام راعيه لمن حولها من الاطفال والشباب والفتيات ممن اتخذوا هذا الشارع ملاذا ليكملوا به مشوار حياتهم . ستكون حارسهم تحميهم من انفسهم ومن استغلال الاخرين لطفولتهم البريئه وشبابهم الغض لتثبت لهم ان الحياة تنتصر وتقهر الموت ... ستكون متجدّده كطائر الفينيق ذاك الطائر العجائبي السومري الذي ينبعث من رماده عندما يحترق فيكون آخرٌ غضٌّ وقوي ويبدأ من جديد ..

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2172  الخميس   5/ 07 / 2012)

 

في نصوص اليوم