روافد أدبية

قصيدة القصب

ابراهيم رحيم(رسالة إلى مصطفى الشّبّري)

عزيزي مصطفى

إن الحياة يا صديقي لعنة صارخة هذه الأيام؛ إذ كنّا ننام في سرير النّهار مكتفين بخبز الكلمة وشراب الضّوء باغتنا جيش الليل.

أ لا ترى كأنّنا في مغارة أوهامنا كنّا مجتمعين حول نارٍ أنامت برد مخاوفنا؛ نار كانت لون قناعنا، قناع كان هو خوفنا!

مغارة كنا نظنّ أنّها تنفخ الخفافيش من جوفها مخافة حضورنا والحضور الكاذب هذا؛ كان شمس ذو أثداء يرضع ظلام الذّات في مهد الجفاف؛ غير أنّ المغارة كانت أوسع من ثغور الذّهن ونحن النائمون لم نراجع دفتر الأيام إلّا بعد أن دقّ الظّلام بوّابة الواقع وجرّدنا من أغصان الحلم وفطمنا حلمة الأوهام؛ هكذا استيقظنا وقت الشتاء في عالمٍ من قصبٍ مضرّج بحمرة العدم؛ عالم يشتبك فيه صوتا النّاي والصّراخ حتّى همدا في وعاء الفناء عند مقبرة القصب!

الكلام سكّين عمياء يا صديقي؛ أجل سكّين تهتدي بالحرقة تلو حطب الليل النّديّ بحروف الدّماء...

الصّمت منارة

حبرها الضوئيّ يرشد السّماء

لدرب تضوع منه حروف الحياة

وما الحياة إلّا درب معطّر بالفناء..،

الرّيح صامتة هذه الأيام

والكون غابة عارية في مضجع الشّتاء

أ مِن سبيل لإشعال الثّلج

أ مِن سبيل لفيضان الرّبيع!؟

أحاول منذ أيام أن أتمترس بالكلمة من صوت الطّلقات والصّيحات، بعد أن خاب القصب الذّليل في الحفاظ عن أعناق الزّهور من لسعات الثّلج. أجل، بان ضعف المتراس من لسعات معدن بارد أعمى نحر الكلام من الوريد إلى الوريد؛ أجل نحرنا جميعًا وقلع جذور اللغة من رحم الحناجر وعبّى كؤوس الصّراخ بكلس الصّمت ورماد الخوف!

أمّا الدماء السّائلة من حدقة الدهشة جفّت في سلّة الشّتاء إثر نارِ صمتٍ تكذّب سيلان الدّفء في جماجم الحطب، نار احتوت خطوات القلق عند صحراء الذّات؛ فكيف لفم الغضب أن لا يشعل قميص الكون في قصيدة القصب!

خلف صراخ الأمل الّذي لم يعد غير ركام صدى، كنت أرى الشّعر ناري الأخيرة وجحيمي الّذي يهبني فراديس الخلاص؛ جحيم كان يغبطنا الإله لأجله ويرجو مشاركتنا إيّاه كي يحسّ بحياته من جديد؛ حياة سلبت منه منذ عصور الثّلج الأولى، حياة لم تكن له البتّة.

أصارحك يا صديقي؛ ما زلت أسائل أفق الغد الشّاحب، كيف أنجو برقبتي من مخالب اللحظة ووخز الضّمير، وكيف أكوّم حطب الصّمت، كي أدفئ ظلّي من عقم الكلام؛ كلام هو الموت بعينه في صفحات الهباء هذه الأيام!

إنّ الصّمت كذلك سكّين! لكنّها تجزّ الحناجر مبصرة أوتارها مشيّدة مقصلة اللغة في لحد الأفواه..!  

أخاطبك واللغة تمدّ لي فراش الطّغيان على ليل الخنوع والضّجر كي أشعل من صمت قبري ما تبقّى من حبر صوتي وأعيد للقصبة قوامها المغتصب، ماسحًا نزيف الأدمع ولطخات الدّماء من جلدي وجلدها، مبحرًا في صحارى اللغة من جديد بغية حياة تبحث عن نهايتها رافعة نعشها الرمليّ في قصيدة الكون الأبدية.

عزيزي مصطفى؛ أخطأ صديقنا نيتشه حينما قال:

(الجائزة النّهائية للموتى هي أنّهم لن يموتوا ثانية)؛ فقد لم يذق فمّه قُبل الرّصاص وغبار الدّماء؛ كان عليه أن يقول أنّهم يكافؤوا بأن لا يذوقوا مرارة الحياة ثانية.

ثائرًا أقول مثلك، رافضًا حاجة اللغة لناري:

الصّمت دليلي إن صار الظّلام صراخ لساني...

***

إبراهيم رحيم - الأهواز

6 كانون الأول / ديسمبر ٢٠١٩

 

في نصوص اليوم