اخترنا لكم

عودة المثقف

في الانتفاضة الراهنة لأسباب تتعلق في مجملها بالحوار الفكري والأيديولوجي المحتدم بشراسة في الدولة الفارسية (توقفنا عنده في مناسبة سابقة).

 

فالمرشح الإصلاحي"مير حسين موسوي"، الذي قاد حركة الاحتجاج يمثل النخبة المثقفة الجديدة التي تولدت عن أزمة نظام "ولاية الفقيه" الذي لم يعد قادراً على الاحتفاظ بالزخم الرمزي" للثورة الإسلامية". إنها نخبة من نمط فريد متمردة على الأطر الرسمية للتعبئة العقدية والأيديولوجية، منبهرة بالأطروحات الفلسفية الغربية الجديدة، تستخدم خطاباً دينياً نقدياً مستبطناً لقيم التنوير، يتمحور نشاطها حول الحركة الطلابية والنسوية، التي تشكل عماد التيار الإصلاحي.

 

 نفاذ القيم الليبرالية تدريجياً إلى المشهد السياسي العربي، دون شخصية "المثقف" الحامل تاريخياً لهذه القيم، يفسر جانباً من مأزق التحول الديمقراطي في العالم العربي.

 

تشكل الوضعية الإيرانية حالة استثنائية في الساحة الإسلامية. ففي تركيا مثلا، لم تستند تجربة حزب "العدالة والتنمية" في نضجها السياسي اللافت لقاعدة فكرية مكينة، ولم ترتبط بدور ونشاط نخبة ثقافية فاعلة. وفي العالم العربي، انتكس نموذج "المثقف الملتزم"، الذي ارتبط بحقبة المد القومي و"اليساري"، وحدث انفصام متزايد بين السجل الثقافي والحركية الاجتماعية.

 

لانتكاسة نموذج المثقف في الساحة العربية الإسلامية أسباب جزئية محدودة بطبيعة السياق المحلي، لكنها تتنزل في سياق أوسع، يتعلق بصورة المثقف إجمالا، من حيث النشأة والدور والفاعلية.

 

والمعروف أن هذا النموذج الذي ورث فلاسفة ومفكري الأنوار عرف تحولين جوهريين في القرن العشرين وبداية القرن الحالي، ارتبط أولهما بمقاومة العهد النازي والاستعمار الأوروبي، وارتبط ثانيهما بمواجهة "الغولاغ" والأنظمة الشمولية الشيوعية، وبحركة التوسع الديمقراطي، والدفاع عن حقوق الإنسان في بلدان الجنوب.

 

يتعلق الأمر بنموذجين متمايزين، يختلفان من حيث الخلفيات والاستراتيجيات. يرمز الفيلسوف الفرنسي الكبير "جان بول سارتر" والمفكر والناقد الأميركي - الفلسطيني "ادوارد سعيد" إلى الاتجاه الأول، ويرمز من يدعون بالفلاسفة الجدد في فرنسا و"المحافظين الجدد" في أميركا إلى الاتجاه الآخر. ينحدر النموذج الأول من خلفية "يسارية" عامة، على عكس النموذج الثاني الأقرب للتيارات اليمينية (من منطلقات فكرية مغايرة).

 

كان "سارتر" في الستينيات والسبعينيات مثال "المثقف العضوي"، الذي يصوغ للناس كيف يفكرون، ويحدد لهم كيف يعيشون، ويجمع بين التأثير النظري الحاسم في المدرجات الجامعية وقيادة التظاهرات الاحتجاجية في الشارع دفاعاً عن المظلومين والمضطهدين وضحايا الاستعمار والتمييز.

 

وكان ادوارد سعيد مثال المثقف الذي يفكك ويهدم سلطة الخطاب المركزي المهيمن، دفاعاً عن حق الآخر في الاختلاف، باعتبار العلاقة المركبة بين المعرفة والسلطة التي أماط عنها اللثام في دراسته الفريدة للاستشراف التي تركت أثراً نوعياً في حقل الدراسات الجنوبية.

 

كان ادوارد سعيد يمتاح مفاهيمه النقدية من فلسفة "ميشال فوكو"، التي أرادت ان تكون بديلا لوجودية "سارتر" بنزعته الإنسانية الملتزمة التي سخر منها "فوكو" معلناً نهاية "المثقف العمومي" الملتزم الذي عوضه "المثقف الخصوصي" بطموحه الإشكالي المحدود، الذي لا يتجاوز التأريخ للخطابات والممارسات السلطوية.

 

صحيح أن "فوكو" نفسه كان مثقفاً ملتزماً على طريقته، وكثيراً ما التقى مع سارتر في الشارع متظاهراً محتجاً، بيد أنه اعتبر نفسه ملتزماً على طريقة "المحارب"، الذي لا يهمه الأساس المعياري لموقفه، على عكس الفيلسوف الوجودي الذي اعتبر الإنسان صانعاً لمصيره، متحكماً في وجوده السابق على ماهيته.

 

وظف ادوارد سعيد مفاهيم "فوكو" في اتجاهين مهمين: تحويل نقد الخطاب من إطار تاريخ الأفكار المحدود إلى إطار النقد السياسي والمجتمعي، وتحويل نقد السلطة من مبحث العقوبة والرغبة إلى المبحث الاستراتيجي والنضالي. كان إسهام سعيد البارز هو إخراج "اليسار" الجنوبي من غنائية الماركسية الثورية بشعاراتها السطحية المبتذلة، ومصالحته مع الاتجاهات الجديدة في الفلسفة والعلوم الإنسانية. ومن المؤسف أن الساحة الفكرية العربية احتفت بادوارد سعيد المناضل، ولم تعرف ادوارد سعيد المفكر. عرفته السياسي المقاوم الشجاع ضد الصهيونية وإسرائيل والهيمنة الأميركية، واستبشرت بنقده الحاد للاستشراف، لكن إسهاماته النظرية الخصبة لم تترك أثراً يذكر في الثقافة العربية المعاصرة.

 

أما النموذج الآخر من المثقفين، فقد ظهر في نهاية الحرب الباردة، في مرحلة لم تعد التجارب الشيوعية في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية تثير حدا أدنى من الحماس والانبهار. كشف المنشقون الروس في أعمالهم الأدبية عن فظائع المعتقلات الستالينية التي تضاهي السجون النازية في قساوتها، وبدأت نذر الانهيار الشامل تبرز تدريجياً، وكانت انتفاضة عمال بولندا في مطلع الثمانينيات التصدع الأول في جدار الأنظمة الشمولية الشرقية.

 

تلاشى زخم المثقف "اليساري" الملتزم، وتحول الاهتمام من نقد الرأسمالية ومن خطاب الصراع الطبقي إلى نقد الاستبداد والتوتاليتارية والتبشير بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان بديلا عن النزعات الشعبوية الثورية، التي دافعت عنها التيارات العالم ثالثية الأوروبية. كانت الوثيقة النظرية الأولى للفلاسفة الجدد كتاب "هنري برنارد ليفي" الصادر عام 1977 بعنوان "البربرية بوجه إنساني" الذي كان هجوماً لاذعاً على أيديولوجيا التقدم اليسارية التي رأى فيها نسخة "براقة "من النازية، وقد سلك زميله أندري جلوكسمان المسلك نفسه في كتاب الصدر العام ذاته بعنوان "السادة المفكرون".

 

أثّر الفلاسفة الجدد بقوة في المشهد الفكري والأيديولوجي الفرنسي، وتميزوا بحضورهم الإعلامي المبالغ فيه، وانتهوا في السنوات الأخيرة إلى الاقتراب من "اليمين" المتطرف والنزعة الأطلسية البوشية، وكان لهم دور بارز في بلورة أدبيات "التدخل الإنساني " و"الحرب الثقافية ضد الإرهاب"، التي لم تخل في الغالب من إسلاموفوبيا معلنة.

 

أما "المحافظون الجدد" في أميركا، فإنهم معروفون إلى حد بعيد للقارئ العربي، وإن كان لا يعرف إلا القليلون ارتباطهم بنقد الحداثة لدى الفيلسوف الأميركي (الألماني الأصل) "ليو شتراوس"، الذي كتب كتابات نقدية حادة ضد النزعتين التاريخانية والوضعية المندمجتين في نموذج "المثقف اليساري الملتزم".

 

لم تتأثر الساحة العربية بنموذج "الفلاسفة الجدد" الفرنسيين الذين حجبت ميولهم الصهيونية بعض الجوانب الثرية في فكرهم، كما لم تتحمس لمحافظي أميركا الجدد، الذين ظهروا في حقبة شهدت فيها العلاقات العربية - الأميركية مستوى غير مسبوق من التردي وانعدام الثقة.

 

وما نلمسه راهناً هو نفاذ القيم الليبرالية تدريجياً إلى المشهد السياسي العربي، دون شخصية "المثقف" الحامل تاريخياً لهذه القيم... مما يفسر جانباً من مأزق التحول الديمقراطي في العالم العربي.

 الاتحاد الاماراتية

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1111  الجمعة 17/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم