اخترنا لكم

استقلال المثقف وضعف الدولة

أو الذي يتخذ من البحث والكتابة حرفة له، وإنما هو أوسع من ذلك بكثير: فهو المستشار، والمدرس، وأستاذ الجامعة، والصحفي، والفنان، والطبيب، والعامل، والسياسي... إلخ. ولأن مفهوم المثقف بهذا الاتساع والشمولية تأتي أهمية وخطورة أن يكون مستقلا في رأيه، أن يكون له موقف، أو أن يكون مجرد آلة، أو متلق للتعليمات. من يخسر رأيه، يخسر موقفه أيضاً. بل يمكن القول بأن من يخسر رأيه وموقفه، يخسر مهنيته كذلك. كل الأسماء المذكورة أعلاه هي أسماء لمهن وحرف. ودرجة إتقان المهنة أو الحرفة، أو كما نسميها بالمهنية أو الحرفية، تعبر عن المساحة المتاحة للتعليم، وللحرية والإبداع، أو مساحة الاستقلال.

 

إذن المعنى المقصود باستقلال المثقف هو مدى تمكنه من التعبير عن رأيه، وعن قناعته كما يراها ويعتقدها، وأن لا يشعر أبداً، ولأي سبب من الأسباب، سياسياً كان أو أمنياً أو مالياً، بأن عليه أن يعدل أو يبدل في هذا الرأي أو القناعة، أو أن يستبدلهما معاً حتى يكون موقفه متلائماً، أو راكبا تماماً مع رأي وقناعة غيره. أما الاستقلال عن ماذا؟ فيمكن أن يكون استقلالا عن السلطة الأيديولوجية للموروث، أو سلطة الشارع. لكن الأهم والأكثر خطورة من ذلك وغيره هو الاستقلال عن إملاءات، أو إغراءات، أو إكراهات النظام السياسي. هذا لا يعني أن الرأي يجب أن يكون على الدوام مناوئاً للسلطة، أو على خصومة دائمة معها، بحيث تصبح معارضتها هي المعيار لاستقلال المثقف. على العكس من ذلك. هناك مناسبات ومواقف، وظروف لا يكون عندها مندوحة من الاتفاق، بل ربما تبني موقف النظام السياسي من هذه القضية أو تلك. وفي كل الأحوال، سواء اتفق المثقف أو اختلف مع السلطة السياسية، يجب أن يكون ذلك نابعاً عن وعي، وعن رأي مستقل، وقناعة ذاتية. وهنا يجب التمييز بين الحكومة وبين الدولة. الدولة هي التجسيد القانوني، والسياسي، والتاريخي للشعب. أما الحكومة في هذه الحالة، فتمثل الدولة، لكنها لا تختزلها. وظيفة الحكومة هي إقامة المؤسسات، وسن القوانين، ورسم السياسات الداخلية والخارجية، من أجل خدمة أهداف الدولة، وتحقيق تطلعاتها، وليس العكس. وبالتالي فإن استقلال المثقف يجب أن يكون في كل الأحوال لخدمة الدولة، وخدمة مصالحها، وأن يكون هدفه من الموقع الذي يحتله داخل الدولة تصويب سياسات الحكومة، وليس خدمة من يمسك بالسلطة في هذه الحكومة.

 

في الواقع العربي لم تتطور العملية السياسية في هذا الاتجاه، وبالتالي بقي مفهوم الدولة يستخدم على نحو مجازي أكثر منه حقيقيا. ليس هناك دولة بالمعنى المحدد هنا. ثمة ما أصبح يعرف بـ "النظام السياسي". وهذا أقل من الدولة كثيراً، وأكبر من الحكومة قليلا. هو أقل من الدولة من حيث أن سلطة هذا النظام محصورة في حقوقها وواجباتها في فئة معينة. هذا النظام السياسي حق لهذه الفئة، وعلى هذا الأساس يتم رسم سياسات "الدولة"، ويتم تكييف الأنظمة والقوانين فيها بما يعزز هذا الواقع. والنظام السياسي أقل من الدولة لأن طبيعة السلطة فيه إقصائية. يستحوذ هذا النظام في داخله على كل سلطات الدولة المفترضة: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية. بعبارة أخرى، النظام السياسي في العالم العربي لا يعترف بفصل السلطات، واستقلال بعضها عن بعض. ولذلك صارت قدرة كل من هذه السلطات على مراقبة الأخرى محدودة جداً، إن لم تكن معدومة في كثير من الأحيان. ولهذا السبب تحديداً صار النظام السياسي في العالم العربي أكبر قليلا من الحكومة. فالحكومة بطبيعتها لا تملك في الأصل إلا السلطة التنفيذية. لكن النظام السياسي العربي تجاوز ذلك: واستولى من خلالها على كل السلطات.

 

في هذا الإطار كان من الطبيعي أن تغيب أشياء كثيرة. فقد غابت ثقافة القانون، وغابت ثقافة الدستور، ومع ذلك غابت ثقافة الحقوق، وبالتبعية غابت ثقافة الاستقلال في الرأي. وكل ذلك لابد أن يغيب، وإلا فإن المعادلة سوف ترتبك. عندما يحتكر النظام السياسي كل شيء لابد له من تغليف هذا الاحتكار. وهذا التغليف لا يمكن أن يكون قانونياً أو دستورياً. لابد أن يكون، وبالضرورة، خليطاً من تغليف سياسي وأيديولوجي. مأزق النظام السياسي هنا أنه لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، ولا عن مواقفه أمام شعبه إلا بأدوات دعائية في مقابل الأدوات السياسية، أو القانونية والدستورية. من هنا نجد أن "الدولة العربية" هي من بين الدول القلائل التي لا تستطيع أن تعترف بمسؤوليتها عن سياساتها الخارجية، وما قد يترتب عليها من كوارث أحياناً. ليس من المبالغة في شيء القول بأن أغلب استثمارات السياسات الخارجية العربية فشلت. ومعالم هذا الفشل واضحة للجميع؛ ليس فقط في فلسطين، بل في العراق، وفي لبنان، والسودان، والصومال، والصحراء الغربية. وهذا عدا عن حالات الفشل الأخرى في مجالات التعليم، والتنمية. من المسؤول عن ذلك؟ أعداء الداخل، وأعداء الخارج، وليس النظام السياسي الحاكم!

 

هناك أمثلة عربية كثيرة على ذلك. ومن هذه الأمثلة ما يرقى إلى حد النموذج في عدم تحمل المسؤولية. من هذه النماذج النظام العراقي السابق. لم يكن هذا النظام مهيئاً لتحمل ومواجهة مسؤولياته بعد كل فشل، وبعد كل كارثة. وفي الوقت نفسه لم يكن بالإمكان مواجهة هذا النظام بمسؤولياته عن السياسات التي رسمها، والمغامرات التي أقدم عليها، وهي سياسات ومغامرات نعرف الآن إلى ماذا انتهت.

 

النموذج الآخر هو السياسة السورية في لبنان. بعد ثلاثين سنة من التواجد العسكري السوري في هذا البلد العربي المجاور، وبعد كل ما صاحب ذلك من أكلاف وتضحيات، خرجت سوريا وقد انقسم لبنان بشكل حاد إلى قسمين حيال دورها، تماماً كما كان عليه الأمر قبل دخولها. الأسوأ أن السياسة السورية أفقدتها الدعم السني الذي كان في يوم ما يطالب بالوحدة مع سوريا. بعبارة أخرى، فشلت سوريا، وأدت سياستها إلى تعميق الأزمة اللبنانية، وبالتالي تعميق أزمة علاقتها مع لبنان بشكل غير مسبوق. من المسؤول عن ذلك؟ هذا السؤال تحديداً غير مطروح، بل غير قابل للطرح.

 

داخل هذه الحالة العربية تربت أجيال متعاقبة، وهي حالة تحارب استقلال الرأي، وتحارب التفكير النقدي. وبما أن الأمر كذلك، فإن النظام السياسي العربي يعبر عن حالة ضعف في الداخل، وهو ضعف يتبدى أيضاً في السياسة الخارجية العربية. قيل الكثير عن مؤشرات ضعف الدولة العربية: المؤشرات العسكرية، والاقتصادية، والتكنولوجية، إلى غير ذلك. لكن عندما تعتبر الدولة أن الاستقلال في الرأي، والتفكير النقدي من قبل مواطنيها يمثل توجهاً مناوئاً لها، فهي تعبر بذلك عن حالة ضعف خطيرة، كان الأحرى إدراكها، والتوقف عندها. بدلا من ذلك، عندما لا تجدي محاولات الدولة الدعائية في تبرير سياساتها، تلجأ إلى أدوات العنف، تحت مبرر أن الدولة هي الجهة الوحيدة التي تملك مشروعية استخدام العنف أو التهديد باستخدامه حفاظاً على المصلحة العامة. هنا تهيمن المبررات السياسية، وتُقصي المتطلبات الدستورية. وحده النظام السياسي من يعرف طبيعة، وحدود، ومتطلبات المصلحة العامة. غاب عن بال هذا النظام أن استقلال المثقف أنصع مؤشر على مقتضيات المصلحة العامة. السؤال: أين يقف المثقف من هذه المسألة؟

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1111  الجمعة 17/07/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم