الرئيسية

المثقف في حوار مفتوح مع ا. د. انعام الهاشمي (9)

 

 

س67: محمد زريويل / شاعر وكاتب مغربي: الفاضلة الكريمة (للا) إنعام الهاشمي، أنت التي ترفضين الحوارات، ما السر في قبول مثل هذا الحوار المفتوح؟

ج 67: الأديب محمد زريويل أهلاً بك وبمشاركتك الشيقة في هذا الحوار، أعجبني لقب "للا" قد استبدل به لقب حرير و ذهب!

 أسئلتك المركزة تغري بالإجابة المركزة .. وقد استجبت للإغراء.

وللاجابة على السؤال الأول أقول:

وهل كنت ستبعث لي بأسئلتك لو لم اقبل هذا الحوار المفتوح؟

 

س 68: محمد زريويل: ما رأيك في الكتابة النسائية بصفة عامة ؟

ج 68: وهل هناك كتابة نسائية؟

.........

........

وآخرى رجالية؟

........

ولكن أقول أن كتابات المرأة في العالم العربي تفرضها وتحددها ظروفها.. ففيهن من تدور في محيط ضيق لا يتعدى الزوج والعائلة والجيران وفراش الزوجية البارد، ومنهن من تمردت وخرجت عن حدود جدران بيتها الى البرية بالكتابات الايروسية، ومنهن من انطلقت من منطلق إنساني فخلقت صوراُ خلابة فيها من المعاني الإنسانية مالا يمكن تحديده بجنس الكاتبة وهذا ما أراه كمستقبل للكاتبة العربية.

لاتنسَ أن المرأة العربية دخلت الميدان متأخرة وهي تسابق الزمن ونفسها. وبذلك استحقت نظرة إعجاب.

 

س 69: محمد زريويل: الحب والثقافة شيئان يصعب إخفاؤهما كما ورد على لسان حرير وذهب، فكيف يمكن إعلانهما ؟

ج69 : بمحاولة إخفائهما!

 

س 70 : محمد زريويل: باختصار شديد ماذا تعني لك الكلمات الآتية:

 ـ المرأة ....

 ـ الرجل ....

 ـ الكتابة ...

 ـ الترجمة ..

 ـ الحياة .....

 

ج 70:

ـ المرأة ....

الأغصان المورقة والمزهرة والمثمرة لشجرة الحياة

 

ـ الرجل ....

: الجذع الذي يحمل تلك الأغصان ويزهو بها.

 

 ـ الكتابة ...

مرآة الذات .

 

 ـ الترجمة ..

المرآة التي يرى النص وجهه فيها معكوساً، ويحدد المترجم نوع طلائها.

 

 ـ الحياة .....

 الشيء الوحيد الذي لايعوض إن فقدته.. والشي الوحيد الذي لا تأسى عليه إن فقدته.

 

س71: محمد زريويل: كما قال فولتير: " نقول للرجل شكرا وللمرأة نكتب شعرا " وأنا سأهديك شعرا ذات قصيدة بمناسبة هذا الحوار الغني .

ج 71: وهل يرد الكريم إلا البخيل؟

أشكر لك هذه الرحلة الممتعة.. دامت لك الومضات الذكية.

 

د. هاشم عبود الموسوي: شاعر وكاتب عراقي / ليبيا: سيدتي الفاضلة الدكتورة إنعام الهاشمي: تحية صافية، لا أحب المديح الفارغ أو المجاملات، ولكني حقاً، أعتبر ترجماتك التي قرأتها لحد الآن مثلاً أعلى، أنصح المترجمين المستجدين أن يقارنوا مؤشراتها مع تلك الموجودة في النص الأصلي للاستفادة وتطوير القابليات، واعذريني لجهلي بتخصصك، ولكني لمست أنّك متأثرة كثيراً بالبحوث التي نُشرت مؤخراً في علم اللغة المقارن.. ومن قراءاتي لبعض نتاجاتك الشعرية، وتعليقاتك لمستُ لديك نضوجاً ثقافياً متنوع المصادر والاتجاهات، خاصةً بعد نشركِ لنقد النقد في صحيفة المثقف، والذي أثار انتباهي المنطق النقدي المتعقّل الذي تتحلين به.. وبهذا وجدتُ نفسي منساقاً لطرح بعض الأسئلة عليكِ، آملاً أن تكون إجابتكِ مُفيدةً لبعض الهوايات التي أمارسها في الكتابة والنظم والترجمة، علماً أني متخصص في مجال الهندسة المعمارية ودخيل على المساحة الأدبية.. فأرجوا المعذرة على فضولي، وأنا أعتبر ذلك من باب الفضول الأخلاقي لا غبر. وأسئلتي هي الآتية:

 

س72: د. هاشم عبود الموسوي: من المعروف بأن الترجمة في الأساس تقوم على ثلاثة أطراف، هي النص الذي نُريد ترجمته، والمترجم، وترجمة النص إلى لغة متلقية.. ولكن هل يُمكن لنا أن نقول بأن النسخة المترجمة يجب أن تكون مرآة صادقة للنص الأصلي مئة بالمائة.

ج 72: الأستاذ الأديب هاشم الموسوي أهلاً بك مشاركاً في هذا الحوار المفتوح واشكر لك ثقتك بمعلوماتي كما تشير اليها أسئلتك الأكاديمية المركزة التي افترضت كما يظهر أن تخصصي هو الأدب المقارن. ولكني سأجيب عليها بطريقتي العفوية التي اتبعتها في هذا الحوار والتي ابتعدت في كثير من الأحيان عن الطريقة الأكاديمية نظراً لطبيعة الحوار.

 في الواقع إن تخصصي هو بعيد عن الأدب فمن الطب إلى الإدارة والإقتصاد. والأدب هو هواية ومعرفتي بالأدب العربي نابعة من كوني نشأت في بيت وفر لي القراءات الأدبية في سن مبكِّرة، ومعرفتي بالأدب الإنجليزي ناتجة عن قراءاتي الخاصة وشغفى بها، اما الترجمة فهي نتاج لمعرفتي باللغتين العربية والانجليزية وتذوقي للأدب باللغتين وشعوري بأن هناك ما يستحق النقل بين الحضارتين. والترجمة بالنسبة لي أيضاً هواية حاولت قدر الإمكان أن أتقن أصولها وأطبقها بطريقتي التي تعتمد على التذوق بالدرجة الرئيسية.

ترجمة الوثيقة القانونية يجب أن تلتزم بالحرفية وإلا ترتبت عليها نتائج لا تحمد عقباها. ترجمة الكتاب العلمي أو البحث العلمي أيضاً تحتم الحرفية. إلا أن الحرفية المطلقة لا تتحقق لأي وثيقة مهما كانت لافتقار اللغات الى مفردات مرادفة مئة بالمئة. وحتى المصطلحات العلمية قد يوجد منها مالم يتفق على تسمية له باللغة الأخرى، ولهذا وجب على المترجم الإلمام باللغة العلمية أو القانونية باللغتين. وما عدا المصطلحات ففي كل لغة هناك مفردات متعددة الاستعمالات وهناك معان بعدة تعبيرات قد يستعمل بعضها ليحل اعتباطا محل الأخر ليعني نفس الشيء ولا يعرف الفروقات بينها إلا المتمرس باللغة، ومن هنا تأتي خبرة المترجم ومهارته في اختيار أقرب التعابير المفسرة للمعني المقصود. أما النصوص الأدبية فإن التزام الحرفية يقتل روح النص ويسلبه جماليته. على المترجم ان يعيش النص ويتقمص روح الكاتب ليفهم النص ويعيشه قبل أن يترجمه. وفي الترجمة يضفي من روحه لمسات على النص لتجعل منه شريكاً في تقديم النص للقارئ باللغة الأخرى. وهنا تظهر أهمية الموازنة بين أمانة الترجمة وجماليتها. إن أعاد المترجم كتابة النص بلغة أخرى وبتصرف كبير أصبح اقتباساُ وخلق جديد كترجمة أحمد رامي لرباعيات الخيام . في نظري هي اقتباس وليس ترجمة. الحرفية تحيل النص الى وثيقة خالية من الروح والجمالية، وابتغاء الجمالية والفنية على حساب الأمانة يحول ملكية النص من كاتبه الأصلي الى المترجم.. الترجمة هي مرآة النص ولكن المترجم يحدد نوع طلائها.

 

س73: د. هاشم عبود الموسوي: عندما ترجم بودلير "أخلاق اللعبة" لروسو، وجدناه يُكرّر نفسه كروسو بشكلٍ مُفرط، رغم تغييره لبعض الكلمات بشكلٍ تعسّفي، إلا أنّه نجح في عكس ما كان يُريده روسو بأن يُزداد لدى المرء الشعور بالرضا الأخلاقي.. فهل استطاع المُثقّفون العرب أن يتوصّلوا إلى ما توصّل إليه بودلير وإن كان ذلك حادثاً فهل لديك أسماء وأمثلة على ذلك؟

ج 73: ربما توجد بحوث حول الموضوع فيها جواب لهذا السؤال، أما أنا فليس لدي الإطلاع الكافي للإجابة بشكل مرضٍ، ولذا اترك الجواب لمن له مثل هذا الإطلاع، أو ربما يبقى هذا سؤالاً مفتوحاً للباحثين من المتخصصين في الأدب المقارن..

 

س74: د. هاشم عبود الموسوي: يقول جوزيف أف غراهام أنّ "الترجمة من فنون حل الوسط ومشاكل الترجمة ليس لها حلٌ واحد، وليس بين هذه الحلول حلٌ واحد مُرضٍ كلياً، فهل تتفقين معه فيما ذهب إليه، علماً بأن الترجمة فيها من العلم الشيء الكثير، وفيها من الفن الشيء الكثير، والنظام اللغوي محكوم بقواعد يتعارف عليها المجتمع الكلامي؟

ج 74: نعم وهذا يفسر وجود أكثر من ترجمة لنفس المنتج الأدبي، لأن مايراه مترجِم ما قد لا يراه الأخر كل حسب معرفته وتمرسه باللغتين إضافة الى عدم وجود مرادفات بين اللغتين تشفي الغليل في الترجمة فيرضى المترجم بالمقارب للمعنى وليس المرادف وهو الحل الوسط.

 

س 75: د. هاشم عبود الموسوي: تعيش اللغة العربية – شأنها شأن كل لغات العالم – تغيراً مستمرا؟ً بفعل الحراك الاجتماعي والثقافي.. فكيف تواكبين التغيّر الذي يحصل لهذه اللغة، وأنت بعيدة ومنشغلة بأدب لغة أخرى تُجيدين الكتابة فيها والترجمة منها وإليها.

ج 75: في وقت من الأوقات ظننت أنني قد فقدت الجزء االأكبر من لغتي نتيجة ابتعادي عنها وعدم حاجتي لاستعمالها كوسيلة للتعبير، وحتى أحلامي معظمها باللغة الانجليزية إلا ما تعلق منها  بصور الماضي. وفي وقت من الأوقات كنت أتأتئ قبل النطق بالمفردة العربية، ولكن زياراتي للدول العربية كانت تجبرني على استعادة المفردات لأنني كنت أجد حرجاً في استعمال اللغة الإنجليزية مع من لم يتكلمها بطلاقة لأن ذلك قد يشعره بأنني أتباهي عليه أوأتعالى على العربية كما يفعل الكثيرون. ومن المضحك أنني كنت أجد البعض هناك  ممن يجبر نفسه على تكلم الإنجليزية معي في حين أنني كنت أرد عليهم بالعربية. رغم أن الإنجليزية أسهل لي من العربية لأن مفرداتها تسبق المفردات العربية الى ذهني بحكم استعمالي اليومي لها. استماعي الى الأغاني العربية بضمنها القصائد المغناة لأم كلثوم وغيرها ساهم الى حدٍّ كبير في ابقاء المفردات العربية القديمة. ولكن التغير الذي حدث لمسته ولمست عجزي في فهمه حين قرأت العربية في الصحف وقرأت قصيدة لم أفهمها ومقالات لم أجد فيها الترابط اللغوي الذي تعودت عليه. قلت في نفسي ربما أنا التي نسيت وليست اللغة التي تغيرت. ولكن مفردات عديدة ظهرت لم تكن مستعملة سابقاً منها العلمانية والعولمة والخصخصة ومداخلة وعصرنة وغيرها من الكلمات التي كنت أعرف استعمالها بالإنجليزية ولكونها مصطلحات حديثة لم تمرعلى سمعي بالعربية من قبل. . وما لفت نظري استعمال كلمة "معلومة" ففي الإنجليزية كلمة Informationهي جمع ليس له مفرد، وفي العربي يقابلها معلومات ولم يكن لها مفرد في العربي ايضاً حتى وقت قريب. وكلمة "رئيسية" أصبحت "رئيسة" وتلفزيون اصبح "تلفاز"، وكذلك تركيب الجمل لم يعد له ذات الوضوح الذي كان في الكتابات التي قرأتها من قبل والتي كتبت بها. وقد ذكرت القصة من قبل ولا بأس ان أعيدها هنا، حين زار جامعتنا أديب عربي، الروائي السوري" وليد اخلاصي" شرحت له حيرتي قلت له أنني لم أفهم ماكتب في الصحيفة او في القصيدة و سألت: ترى هل نسيت اللغة العربية؟ قال لم تنسي اللغة العربية وإنما هم لم يتعلموها. هنا أدركت ان اللغة قد تغيرت. وحينما جاء الإنترنيت كانت لسنوات مقتصرة على الانجليزي، ثم فجأة دخل العرب فيها أفواجاً وكان لي الحظ الأوفر مما وفره الأنترنيت. أول عودتي للمسموع في الغرف الصوتية وكنت حينها مازلت لاتحضرني المفردة العربية بسرعة، ثم عودتي الى الكتابة باللغة العربية وتوفرّالمصادر والقراءات العربية،.. وما تبقى من القصة هو واضح وقد أجبت عليه في حلقات سابقة.

وأقول عن هذه العودة، ما أحلى الرجوع اليه!

 

س 76: د. هاشم عبود الموسوي: هل تجدين أن اللغة (لدينا) حالياً تكشف العلاقة (الصراعية) بين مُنجز اللسانيات النظرية ولسانيات النص العربي.

ج 76: كل لغات العالم مرت بهذه التجربة وما زالت تجابه الصراع بين اللسانيات النصية واللسانيات النظرية. فاللسانيات النصية تضيف وتغني اللسانيات النظرية. واللسانيات النظرية حين تجاري اللسانيات النصية فهذا لا يعتبر تخريباً او انتقاصاً من التراث اللغوي وإنما تطوراً مثله مثل أي تطور شهده ويشهده العالم منذ بدء الخليقة يسبب التغيرات الاجتماعية والصناعية والعلمية والتكنولوجية. وقد يكون التطور في اللسانيات ضرورة حتمية لمواكبة التطور في الجوانب الأخرى.

لو أخذت الانجليزية الحديثة وقارنتها بالإنجليزية الكلاسيكية الشكسبيرية

 Middle English لظننت انهما لغتان مختلفتان لما حدث على اللغة من تطور فتغلبت اللسانية النصية على اللسانية النظرية. وحتى بين الأنجليزية الأمريكية والإنجليزية البريطانية هناك الكثير من التطور الذي فرضته التغيرات الاجتماعية للحياة الأمريكية على اللغة ، وبتغير اللغة المحكية تغيرت اللغة المكتوبة وبتغير اللغة المكتوبة تغيرت النظرية. اللغة الأمريكية اصبحت تستعيض بالرموز بدلاً من الكلمات الكاملة. مثلاً: كلمة Television هي مكونة من كلمتينTele و Vision أصبحت كلمة واحدة، وفيما بعد اصبحت مختصرة T. V. وتلفظ "تيفي" ومن هو طارئ على اللغة قد لا يفهم الكثير مما يرد اليوم في اللغة الأمريكية.

اللغة الإنجليزية واللغات الأخرى المشتقة من اللاتينية حين تعيد الكلمة الى أصلها تجد الفرق كبيراً بين الأصل وما وصلت اليه. وفي كثير من الأحيان تجد اللغات اللاتينية الأصل قد استعارت من بعضها الكثير.

اللغة العربية ككل اللغات خضعت للتغيير وباستمرار خضعت اللسانيات النظرية لضغوط اللسانيات النصية بتأثير الشعر وأهميته في اللغة، ولكن بشكل أقل من الغرب بسبب التعصب اللغوي والذي هو جزء من التعصب القومي. مثلاً تعبير الـ " لحن" هو تعبير يدل على دخول الاعجمية على اللغة العربية وهو مرفوض ومعيب. ويقال أن أساس كلمة " نحو " يعود الى الإمام علي بن أبي طالب حين دخل عليه ابو الأسود الدؤلي فوجدته يقلب رقعة وحين سأله عما يفعل أجاب أنه يحاول أن يضع قواعداً يرجع لها العرب بسبب ماطرأ على لغتهم من " فساد" نتيجة مخالطة الأعاجم. ويرجع السبب الى أن جارية قالت له " ما أجملُ السماء" فأجابها "نجومها" وهي تعني "ما اجملَ السماء!"

وكلمة النحو تعود الى قوله "فانحُ نحوي" موجهاً كلامه الى أبي الأسود الدؤلي..

بما ان الشعر يكوّن الجزء الأعظم من التراث العربي فهو الحكم في الصراع بين لسانيات النص واللسانيات النظرية وقد أثر منذ القدم فيها، وهذا يفسر وجود الضرورات رغم الاعتراض عليها والاختلاف حولها.  خذ على سبيل المثال الضرورة التي فرضها تسهيل اللفظ بإجازة الجربالمجاورة ومثلها في القول:

"لم يبق إلا أسير غير منفلت وموثق ٍ في عقال الأسر مكبول"

خفضت وموثقٍ في حين أن حكمها الرفع لأنها معطوفة على أسير المرفوعة.  صعوبة اللفظ أدّت الى الخفض فأخضعت اللسانية النظرية لتوجد لها مخرجاً يجيز الجر بالمجاورة والخروج على القاعدة.

.. هذا تأثير مباشر فرضته اللسانيات النصية على اللسانيات النظرية.

ومن الناحية الأخرى، بما أن القرآن هو معجزة الدين الإسلامي فهو يعتبر مصدر البلاغة والمرجع الأساس عند الإختلاف حول النحو والصرف، ومخالفة هذه الأحكام تعتبر خروجاً شنيعاً على الموروث. ولهذا فإن التطور في اللسانيات النظرية في اللغة العربية لم يتبع التغير في اللسانيات النصية بنفس الدرجة كما هو الحال في اللغات اللاتينية. غير أننا لو اخذنا اللسانيات النصية على أنها تشمل النص المحكي والنص المكتوب، لوجدنا أن النص المحكي قد ابتعد كثيراً عن النص المكتوب وأصبحت الشقة بينه وبين اللسانيات النظرية حداً يمكن وصفه بالتمرد. وهذا يفسر انتشار الشعر الشعبي، و سببه يعود الى صعوبة اللغة العربية وقواعدها من ناحية ودخول المفردات الأعجمية بسبب الاختلاط بالحضارات الأخرى من الناحية الأخرى.

كما ان الشعر الحديث الذي يفرض حضوره حتى على الكلاسيكيين قد أوجد لنفسه منطلقاً آخر قد ينحو بعيدا عن اللسانيات النظرية القديمة وقد يؤدي لنغير ملحوظ فيها. وهنا يظهر الصراع على أشده بين لسانيات العصر الحديث واللسانيات التى وضعت على أساس لسان العرب الذي اعتمد أساسأ على النص المحكي والسائد آنذاك.

وفي الغرب، اللغة الشكسبيرية والأنماط الكلاسيكية في الشعر مازال لها وزنها ولكن الخروج عليها أصبح مألوفاً في الشعر الحديث حتى أن بعض الشعراء راح يسخر منها في بعض النصوص، كما في سونيتة الشاعر الأمريكي المعاصر بيللى كولينز Billy Collins التي يسخر فيها من السونيتة التقليدية الشكسبيرية.، وقد كتبت مقالا حولها. نشر في "المثقف" في حينه.

 

س77: د. هاشم عبود الموسوي: يحاول بعض المُبدعين أن يصنعوا تغايراً في لغتهم الخاصة، تخلق سياقات جديدة لمفردات اللغة، وتُسبك تراكيب خاصة في صياغة الجمل والعبارات مما قد يخلق ثراءً واضحاً في مُعجم اللغة وبلاغتها ومعانيها.. فهل ترين بأن الكتاب العرب المعاصرين نجحوا في ذلك؟

ج 77: هذا السؤال متعلق بالسؤال السابق الى حد كبير.

الدفق الهائل للمنتوج الأدبي وسهولة وصوله ليد القارئ نتيجة تعدد وسائل النشر ويسر الوصول اليها دون الكثير من التمحيص ودون المرور على حراس اللغة سهَّل على الكتاب الخروج على قواعد اللغة، كما سبب تنافساً شديداً بين الكتاب لإيجاد الحيز المتميز في خضم هذا الدفق والحظوة باهتمام القارئ، وهذا التنافس أدى الى الابتكارتشجعه في ذلك موجة الحداثة التي غزت الأدب العربي حتى وصلت أشدها في يومنا هذا. والأبتكار لا يقتصر على الفكر الذى يحمله العمل وإنما طريقة التعبير عنه بابتكار مفردات جديدة وطرق جديدة في تركيب الجمل واستعمالاتها. اتساع هذه الموجة وإصرار متبنيها على المضي فيها دفع حتى الكلاسيكيين الى ركوب موجتها، إلا أن مبالغة البعض في الخروج عن المألوف مازال يثير حفيظة حراس اللغة وقد يؤدي الى تراجع هذه الحركة . التأثير اللغوي لكي يكون فعالاً يجب أن يجد المتلقي الذى يستقبله، وما دامت الطرق المبتكرة في التعبير تعتمد الغموض وتقتصر على النخبة التي من ضمنها النقاد، فلن تجد طريقها الى التأثير في اللغة بسهولة. فالقارئ عموما لا يدري إن كان الكاتب يضع استعماله المبتكر عن وعي أم أنه يرمي الكلمات عشوائياً، وحين يستعمل الكاتب كلمة في غير المحل المعتاد لها كلاسيكياً أو يصوغ الجمل في نصه على غير النحو المألوف قد يفسر القارئ ذلك على أنه جهل من الكاتب. ولكي تدخل المفردة المعاجم على المتلقي أن يتقبلها ويثق بمصدرها.

 ولا يكفي المفردة انتشارها بين المحدثين والنخبة لكي تصبح جزء من اللغة.

 

س 78: د. هاشم عبود الموسوي: هل ترين ظهور اتجاهات نقدية نامية، مُرتبطة بتطوّر حياتنا وتفكيرنا تُحاول أن تُثبت وجودها على أسس مُغايرة ومتناقضة لما قامت عليه المدارس النقدية الموروثة والمستنفذة التي لا تزال سائدة بحُكم التقليد والاستمرار.

 ج 78: الدخول في شرح مطول عن تطور النظرية النقدية يخرجنا من السياق العام الى السياق المتخصص . ولدينا عدد من النقاد يكتبون في "المثقف" حبذا لو وافونا بدراسة حول تطور نظرية النقد وتأثير النظريات والفروع العلمية الأخرى في عملية النقد الحديثة، لا من منطلق تطورها التاريخي في الغرب، وإنما تطورها وتطبيقاتها في العالم العربي ولا بأس من ذكر كيفية تأثر النقد الأددبي العربي بها على أن يكون التطور التطبيقي للنقد العربي هو محور التركيز وذلك بدراسة النقاد والنقد أي "نقد النقد" فإن فعلوا لاشك وأنها ستكون دراسة قيمة، وقد تنهض بعملية النقد الأدبي الذي يقف قاصراً عن ايجاد نفسه في وسط النظريات العالمية.. ولكن بصورة عامة أرى أن حركة النقد الأدبي قد سارت فتخطت الكلاسيكية التي ركزت على إصدار الحكم على جودة العمل ومقارنته باعمال أخرى ضمن مجاله، ومن ثم تقويمه على هذا الأساس، فشملت إضافة إلى ذلك التركيز على الإدراك الحسي والفكرى بمعنى أن العمل الأدبي ليس فقط عملاُ يتسم بالجمالية وإنما هو عمل فكري يعبر عن الكاتب والظروف المحيطة به، والتفسير والتأويل بناء على الفروع العلمية الأخرى كعلم الاجتماع وعلم النفس إضافة الى علوم اللسانيات. وهذا واضح في خضم التطور الذي يشهده الأدب فى موجة الحداثة، حيث أصبحت مهمة الناقد، كما نراها في الكثير من القراءات النقدية، نقل الصورة التي رسمها الكاتب الى ذهن القارئ على شكل ترجمة أفكار. فالمهمة الجديدة التي أضيفت الى مهمات الناقد هي الوساطة بين الكاتب والقارئ وايجاد الرابط اللغوي الذي يربط الفكر بالصورة التي اصبحت في الأدب الحديث تعتمد الرمزية الى حد الخروج منه الى المطلق الذي اسميه أنا هذيانات. أصبحت مهمة الناقد أن يرى ما لا يراه القارئ وتحويل اللامعقول الى معقول.

 

س79: د. هاشم عبود الموسوي: إذا دُعينا بأن الفكر الموضوعي هو فكر عقلاني، والعقلانية منهجية في جوهرها وترفض اللامنهجية إطلاقاً، فإن كان لزاماً على النقد، لكي يكون موضوعياً حقاً وعقلانياً، أن يكون منهجياً بالضرورة. فما هي المنهجية إذاً التي ترتكز إليها هذه الدراسات.

شكراً لكِ سيدتي على هذه المقابلة والله الموفق.

ج 79: لعلك تركز هنا في سؤالك على النقد الأدبي، ولكن النقد لايقتصر على النقد الأدبي وأنما يتعداه الى أي منتج أخر كالبحث العلمي والأقتصادي والأجتماعي الى النقد السلوكي والحضاري.

في الجامعات الأمريكية تدرس مادة النقد كمادة منفصلة ضمن مواد الثقافة العامة للطالب التي يتطلب البرنامح الدراسي لكل الطلاب الحصول على عدد معين من النقاط Credits فيها ويترك له حرية اختيارها. وحتى إن لم يخترها الطالب فإن المنهج الذي يتبعه بعض الأساتذة في موادهم، التي لهم حرية تصميمها في حدود الخطوط العامة للمادة والتحصيل العلمي المطلو ب فيها،. قد تتطلب منهم نقد منتوج علمي ضمن اختصاصهم او ضمن مواد اخرى في برنامجهم الدراسي وهذا يقع ضمن تنمية المواهب الذهنية وتنمية التفكير المستقل، Creative and Critical Thinking و تقييم الطالب يكون على اساس استعماله الموضوعية في النقد. وفي المؤتمرات الأكاديمية حين يقدم بحث علمي في أي فرع كان. هناك وقت مخصص لمن يقدم البحث، ووقت مخصص لأخر يقدم مناقشته للبحث أي نقده وتفنيد طرق البحث والنتائج التي توصل اليها بمقارنته بما سبق من البحوث، ومقارنته بما تفرضه النظرية في الحقل محور الدراسة، وتقييم الإفتراضات والمتغيرات التي دخلت الدراسة، وكيفية السيطرة على بعض هذه المتغيرات، ثم التعليل والوصول الى الأستنتاج ومدى اتباعه او اختلافه عن الطرق المتبعة في التعليل. وتقييم الأدلة التى أوصلت الى الاستنتاج وصلابة الأرضية التي يقف عليها. وبعد المناقشة يناقش الحاضرون المتخصصون البحت من ناحية، و ما قدمه المناقش للبحث ولا يخلو ذلك من نقد النقد. فأن لم يتبع المناقش الذي يأخذ دور الناقد الموضوعية أشار الحاضرون الى التحيز في نقاشه. النقد العلمي لا زال يتبع طرق النقد الكلاسيكي وهي الحكم على جودة العمل ومقارنته مع نتاج آخر ومن ثم تقويمه. مع رقابة على الموضوعية يهيئها حكم الحاضرين ومشاركتهم في عملية النقد.

النقد الأدبي قد لا تتوفر فيه الموضوعية التي تتوفر في النقد العلمي لسبب بسيط، أن الذوق الشخصي يدخل كعامل مهم في النقد وكذلك التفضيل الشخصي النابع من موروث الناقد منه البيئي والقومي والديني والاجتماعي. وحقيقة الناقد البشرية تؤكد أنه عرضة للتحيزات التي تمليها هذه العوامل على سلوكه والتي يظهر أثرها على النقد الأدبي أكثر وضوحا منه على النقد العلمي. وفي البلاد العربية لم تؤسس أسس واضحة للنقد وفق دراسات وتخصصات في هذا الحقل، وإنما يكتسب الناقد مركزه النقدي من احترام المجتمع الأدبي لإنجازاته الأدبية وليس من موضوعيته أو تفوقه في حقل النقد باتباع طرق علمية متينة الأسس. فالناقد العربي يكتسب مهارته النقدية من ممارسته النقد وتصديق المجتمع الأدبي لما يقوله: وبهذا خلق المجتمع العربي آلهة النقد الذين أوشك أن يكون كلامهم وحكمهم بحكم التنزيل. والموضوعية هي خيار يترك للناقد ويعتمد على مدى سيطرته على تحيزاته التي فرضتها عليه العوامل التي ذكرتها سابقا، ومدى استعداده لتحمل السخط الذي قد يجابهه نتيجة اتباعه الموضوعية إن كان النقد ليس في صالح النص موضوع النقد. ولكن قبل كل شيء عليه أن يدرك مافي نفسه من تحيزات. ولو تعرض النقاد أنفسهم للنقد الموضوعي أي نقد النقد لما أطلقوا العنان لنقدهم دون التسلح بمنهجية من شأنها أن تلغي أو توازن الميل الى إطلاق الرأي من منطلق النوازع الشخصية النابعة من تحيزاتهم. النقد بصورة عامة يتأثر بالنظريات والإتجاهات السائدة في وقت ظهور مدرسة نقدية جديدة في مجتمع معين، والناقد العربي الذي درس النظرية النقدية العالمية سيبقى في ضياع مالم يجد لنفسه تطبيقا نقدياً ينبع من مؤثرات يلمسها في مجتمعه ويتفاعل معها.

 

الأستاذ الأديب هاشم الموسوي، أشكر لك مشاركتك القيمة بمستواها العالي في أكاديميته، وكما هو واضح أنني حاولت قدر الإمكان أن أبتعد عن النمط الأكاديمي الموجه للنخبة وأتجه الى المنطلق العام الذي هو إطار هذا الحوار المفتوح. عسى أن أكون قد نجحت في إجابة بعض جوانب أسئلتك وفي ذات الوقت تركت للقراء حصتهم في هذه الإجابة.

دمت بخير.

 

للاطلاع:

المثقف في حوار مفتوح مع ا. د. انعام الهاشمي (8)

المثقف في حوار مفتوح مع ا. د. انعام الهاشمي (10)

...............................

ملاحظة: يمكنكم توجيه الاسئلة للمحاور عن طريق اميل المثقف

[email protected]

...............................

حوار مفتوح خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1440 الاحد 27/06/2010)