الرئيسية

فلسفة التخريج عند صوفية الإسلام

مجدي ابراهيميُوجب التصوف على دارسه فضيلتين أساسيتين أولهما: اللغة. وثانيتهما: قوة الخيال. وبغير هاتين الفضيلتين لا يستطيع الباحث أن يساير أقاويل الصوفية ورموزهم الخفيّة التي تتطلب لمعرفتها والوقوف على مراميها لغة رفيعة. وبقدر رفعة هذه اللغة التي رمز بها الصوفية في إشاراتهم ولطائفهم المتعددة بعدد أنفاسهم، يكون "التخريج" أصلاً من أصول الفلسفة الذوقية؛ هذا إنْ جاز أن يكون للذوق فلسفة، وهو لا يجوز عندنا إلا باعتبار "وضوح الرؤية" تجيء بعد التفسير والتخريج.

وفلسفة الذوق تفسير له تماماً كما تقوم للفن فلسفته، فيجيء النسق من الفلسفة والمادة من الفن أو يجيء النسق من الفلسفة والمادة من الذوق فلا يخرج هذا عن إطار التفسير وفق ما تراه الفلسفة جديراً بالتفسير. ولا تعدُّ عبارات الصوفية وأقاويلهم فضلاً عن إشاراتهم من جملة مغاليق الرموز والإشارات إلا لأنها تفسّر بلغة عادية مألوفة، وإني لأعني بكلمة "عادية" أن اللغة لا تفي التفسير حقه من كل ما ينبغي أن يُقام عليه تفسير؛ وأعني بكلمة مألوفة هو كل ما يفسّره الذوق العادي لا العالي. فلا يجب، من أجل هذا، أن تنهض اللغة العادية، ولا بمقدورها أن تنهض، لتفسير أقاويل الصوفية وعباراتهم الرمزية لا لشيء إلا لأنها لغة موضوعة للإشارة لا للعبارة إلى حسِّ فصاعداً منه إلى ما بعده أحياناً، وأحياناً أخرى وقوف عنده وكفى.

فلا اللغة العادية المشيرة إلى وقائع العالم الخارجي بمستطيعة أن تفسر شيئاً مما يقوله صوفيٌ لا ينظر ألبتة إلى الحواس والمحسوسات نظرة غيره إليها، بمقدار ما ينظر إليها غيره منها. وإنمّا هو ينظر إلى الحسّ باعتباره صفة من صفات "الذات" واسماً من أسمائها فقط لا غير، ولا ينطلق مثل هذه الانطلاقة الرحبة إلا بملكة روحية فريدة يتجاوز بها عالم المحسوس إلى ما بعده. ولأجل هذا؛ كَثُر الرمز في التصوف؛ لأن اللغة العادية لا تفي بالتعبير عن سريّة معاني التصوف الخفيّة، وما يستشعره الصوفي في حالاته الروحيّة من أذواق ومواجيد.

غير أن تخريج المفهوم المقبول من الرموز والإشارات شبيهٌ بتخريج المذهب من الآيات والأحاديث، كما يفعل كبار الصوفية؛ لأن تخريج اللفظ المقبول من الإشارات والرموز قائمٌ على دعائم ذوقية تماماً كما يقوم المذهب على دعائم من الآي والحديث؛ ففي هذه المشابهة تكمن فلسفة التخريج التي نعنيها، وهى لا تعني سوى إيثار الباطن من القول على ظاهره، والمُضِيُّ معه إلى حيث يكون المقصود؛ فلئن كانت صلة الظاهر من مُرَاد اللغة هى صلة عامة بجميع الناس؛ فكذلك صلة الباطن من مرادها لا تكون لجميع الناس ولا لعامتهم. ومن هنا فقد يكون السبب الذي من أجله كان الصوفية ولا يزالون لا يتكلمون بلسان عموم الخلق، ولا يخوضون فيما يخوض فيه الناس من مسائل علم الظاهر هو: الضَّنُ بما يقولون على مَنْ ليسوا أهلاً لفهمه أو لمراده. فإذا تَيَسَّر للخاطر أن يصرف عن مراد القول كل ظاهر، جَازَ له العلم بمراد الباطن منه على وجه من وجوه الحقيقة كما كان يقول ابن عربي:

فاصْرِفْ الخَاطِرَ عن ظَاهِرِهَا       واطْلُب الباطنَ حتَى تَعْلَما

وبما أن اللغة العادية قاصرة عن أن تعبّر عن تلك المعاني الذوقية التي يدركها الصوفية في أحوالهم ومواجيدهم؛ فقد لزم لقوة الخيال أن تتسع ولا تنقبض عن التفكير في لغةٍ أبعدُ ما تكون عن اللغة العادية، وأقربُ ما تكون إلى الإشارة والرمز، وأدنى ما تكون إلى العاطفة والشعور يومئ بها الصوفي إيماءً إلى تلك المعاني التي لا يدركها على حقيقتها إلا من ذاق للقوم مذاقهم وجرب أحوالهم وهى في جملتها قوة توضع للمعاني وليست بقوة مقصودة لذاتها. وربما كانت إشارة ابن خلدون دقيقة في هذه الجزئية حين قال:"إنَّ أوضاع اللغة إنما هى للمعاني المُتَعَارِفَة" (مقدمة ابن خلدون بتحقيق د. على عبد الواحد وافي ج ٣ ص 1163).

فإذا نحن لم نجد لفظاً نودعه معنى لهذا الوجدان الغائر الثائر على الدوام، كُنَّا كمن يَسْتعير اللفظ من دلالته الحقيقية إلى دلالته الرمزية، أو من مستوى الواقع المُقرَّر المفهوم إلى مستوى الدلالة الغائبة الخفيّة. ومن هنا؛ سَادَ بيننا التعبير الشائع بضرورة قراءة ما بين السطور. ولقد استخدم هذه اللغة الصادرة عن قوة الخيال كثيرٌ من الصوفية على اختلاف مشاربهم بين تصوف سني وفلسفي: المحاسبي، والمكي، والبسطامي، والحلاج، والنفري، والجنيد، والغزالي، والقشيري، ووسّعها ابن عربي توسيعاً ذهب به إلى أبعد من غايته الموضوعة لها.

على أن التخريج في إشارة الرمز غير التأويل في قانون العقل والمباحث الفلسفية؛ لأن تأويل العقل قائمٌ على صرف اللفظ من دلالته الحقيقية المباشرة إلى دلالته المجازية، أو هو كما عرّفه ابن رشد (595 هـ) في فصل المقال:"إخراج دلالة اللّفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخلَّ ذلك بعادة لسان العرب في التّجوِّز".

أمّا التخريج في قانون الذوق؛ فنحسب أن شرطه يمضي مع مضاء المتذوق لعبارات الصوفية إلى منتهاها إنْ كان لها منتهى تنتهي عنده ثم تسرى فيه العبارة أو القول يقوله المتصوف، وكأنه هو الذي يقوله لا أحد غيره، وأن العبارة التي قليت هو الذي قالها لا أحد سواه من جملة قائلين؛ فإذا تحققت هذه الوحدة في المقولة وأحسّ أنه يستوعب معناها ويدرك على الحقيقة مرماها مما هو أمامه من ضروب الأقوال المرموزة والإشارات الملغزة، نهضت طواياه من فوره على الرغم منه تؤول المقصود من وراء العبارة ينطق بها الصوفي أو الإشارة تسنح بها خواطره في حالة وَجْدِه التي هو عليها، بحيث يمكن أن نستدل بما نفهمه من جملة ما يتراكم على الذوق من معاني هى في صميمها مُجَرَّد أقوال قيلت بلطف رائق في المباني من شأنه؛ بعد التعميق واستلهام موارده، أن يتبع لطف الأواني، كأن يشير ابن الفارض إلى ذلك بقوله:

ولطفُ الأواني في الحقيقة تابعٌ     للطف المعاني والمعاني بها تنمو

وهذا يُشْبِه قولنا: لو لم تكن هنالك في الذهن معاني، فلا تنتظر أن تجدَ على الأوراق مباني. وعليه؛ فالإبداع الصادر من خلال الذوق لا جَرَمَ يكون مصدراً من مصادر إدراك الذوق لمفهوم من المعنى واحد أو لعدة مفاهيم متضامنة.

وليس التأويل المقصود هو أن تختفي فيه الإشارات اختفاءً لا يدع للناظر فيها للوهلة الأولى إضمار المعنى ومقصوده بين طوايا العبارات. ولكن التأويل هو إظهار كل مقبول من القول تتسع له الإشارة ولا يتصادم في معناه الداخلي بين معقول يسيغه العقل وتقرّه شرائط البرهان، ومنقول يوجد على حالته في غير مساس، وعلى طريقة تناوله كما هو عليه أمام أنظار الباحثين تماماً كما ذَهَبَ إلى ذلك أو نحوه الغزالي في "قانون التأويل" حيث قال:"بين المعقول والمنقول تصادم في أول النظر وظاهر الفكر، والخائضون فيه تحزَّبوا إلى مفرط بتجريد النظر إلى المنقول، وإلى مفرط بتجريد النظر إلى المعقول، وإلى متوسط طمع في الجمع والتلفيق"( را: قانون التأويل منشور مع معارج القدس ، تحقيق محمد مصطفى أبو العلا ، مكتبة الجندي القاهرة 1388-1968م، ص 235).

والمتوسطون كما يعرض لهم الغزالي هم فرق خمس، أهمها هى الفرقة الخامسة المتوسطة الجامعة بين البحث عن المعقول والمنقول، الجاعلة كل واحد منها أصلاً مهماً، المنكرة لتعارض العقل والشرع وكونه حقاً. ولعلَّ الغزالي يميل إلى هذه الفرقة؛ لأنها الفرقة المُحقة التي تنهج منهجاً قويماً لا تكذِّب العقل؛ لأن من كذب العقل فقد كذَّب الشرع؛ إذْ بالعقل عرف صدق الشرع، ولولا دليل العقل لما عرفنا الفرق بين النبي والمتنبي والصادق والكاذب. وكيف، على تساؤل الغزالي، يكذب العقل بالشَّرع، وما ثبُت الشرع إلا بالعقل؟

وعلى هذا؛ فالتخريج يأخذ من العقل بمقدار ما يأخذ من النقل. وهو، من بعدُ، غير الظن والتخمين، مادام التخريج في ذاته غير التأويل؛ لأن التخمين والظن جهل، وهو وإنْ كان قد رخص فيه، فقد رخص فيه لضرورة العبادات والأعمال والتعبُّدات التي تدرك بالاجتهاد. وما لا يرتبط به عمل؛ على ما قال الغزالي، إنما هو من قبيل العلوم المجردة والاعتقادات؛ فمن أين يتجاسر فيها على الحكم بالظن؟ وأكثر ما قيل في التأويلات ظنون وتخمينات، والعاقل فيه بين أن يحكم بالظن وبين أن يقول: أعلمُ أن ظاهره غير مراد؛ إذْ فيه تكذيب للعقل، وأمّا عين المراد فلا أدري، ولا حاجة بي إلى أن أدري، إذْ لا يتعلق به عمل ولا سبيل فيه إلى حقيقة الكشف واليقين. من أجل ذلك؛ يُوصي الغزالي بالكف عن تعيين التأويل عند تعارض الاحتمالات؛ فإنّ الحكم على مراد الله سبحانه، ومراد رسوله صلوات الله وسلامه عليه بالظن والتخمين خطر.

فإنما تعلم مراد المتعلم بإظهار مراده، فإذا لم يظهر؛ فمن أين تعلم مراده إلا أن تنحصر وجوه الاحتمالات ويبطل الجميع إلا واحداً فيتعين بالبرهان. (را: قانون التأويل ص 241-242).

فالتخريج على هذا أسلم من التأويل؛ إذ كان التوقف في التأويل أسلم. نعم: من طالت ممارسته للعلوم وكثر خوضه فيها، يقدر على التلفيق بين المعقول والمنقول في الأكثر بتأويلات قريبة ويبقى لا محالة عليه موضعان: موضع يضطر فيه إلى تأويلات بعيدة تكاد تنبو الأفهام عنها. وموضع آخر لا يبين له فيه وجه تأويل أصلاً؛ فيكون ذلك مشكلاً عليه؛ كأن يجيء هذا المشكل من جنس الحروف المذكورة في أوائل السور القرآنية المباركة إذا لم يصح فيها معنى بالنقل.

ومن ظن، هكذا يقول الغزالي، أنه سَلَمَ عن هذين الأمرين؛ فهو إمّا لقصوره في المعقول وتباعده عن معرفة المجالات النظرية فيرى ما لا يعرف استحالته ممكناً. وإمّا لقصوره عن مطالعة الأخبار ليجتمع له من مفرداتها ما يكثر مباينتها للمعقول (قانون التأويل: ص 239).

*    *     *

من ذلك ترى؛ أن الغزالي أباحَ في قانون التأويل قدرة القادر على التلفيق بين المعقول والمنقول، أو على الجمع بينهما، إذا ما طالت ممارسته للعلوم، لكنه من جهة أخرى إذْ يبيح القدرة على التأويل لمن يشتغل بالعلوم والمباحث العقلية؛ مع طول الزمن وتعوِّد الدُّربَة، يأخذ عليه لا محالة أنه ممنوٌّ بموضعين، يضطر في أحدهما إلى وضع تأويلات بعيدة لا تحصلها الأفهام، وقد لا يتبيِّن في الموضع الآخر وجه التأويل أصلاً ... فلا يبقى بعد هذا إلا أن يكون "التخريج" أتمَّ من التأويل، إنْ لم يكن بغير شك أكمل منه.

ومادام غرضنا من "التخريج" هو تذوق العبارة واستلهام المشرب ومعايشة الحالة الشعوريّة لمن شاءت لنا مداركنا أن تعمل فيها عمل الإدراك، وتباين الأغراض الباطنة قبل الظواهر والأعراض؛ فقد وَجَبَ أن نعدَّ التخريج فلسفة ذات مقاصد روحيّة لا تغفل مطلقاً في شروطها شرط الإشارة اللطيفة والانطباع المباشر وإضافة البعد الذاتي الذي تفرضه مقومات الحالة الوجدانية في جوف صاحبها، ولا تلغيه.

*    *     *

ورُبَّ قول يُقال في باب من أبواب الحقائق الروحيّة؛ كأن يكون باب المعرفة مثلاً؛ فلا يعنى هذا القول من وجهة النظر العامة غير الضرب في متاهات لا يدركها مدرك بما توافر له إدراكه من إحاطة، فلا يتسع لظاهر القول ولا يتحقق من خوافيه؛ لأن الوظيفة الفنيّة التي قيل بها مثل هذا القول تقبل التأويل على قانون التأويل الذوقي (أي على قانون التخريج). فالإدراك العقلي المنطقي وَحْدَهُ لمثل هذه الإشارات واللطائف مفصولاً عن ذوق الشعور والوجدان لا ينتهي إلى وضوح واضح، بل ينتهي إلى غموض مُشْكِل. وعلى الذين يؤولونها، من بعدُ، أن تتسع صدورهم لما فيها من بواطن المعاني وخفايا الإشارات يقبلونها على حسب الاستعداد، وبمقدار قوتهم في تعلقهم بالمعنى الباطن.

خُذْ مثلاً على هذا، قول البسطامي حين سُئل عن المعرفة .. ما هى؟ فقال:"إنّ الملوكَ إذا دَخَلوا قَريَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَةً أَهْلَهَا أذلةً. وَكَذَلكَ يَفْعَلُونَ"(النمل: آية 34).

فظاهرٌ من الجواب أنه لا علاقة بينه وبين السؤال على الإطلاق. وعند التأمل ندرك أن المعنى الذي أراده أبو يزيد هو لبّ لباب الجواب الذي أجاب به، وإنْ كنتَ لا ترى فيه من حيث الظاهر علاقة ظاهرة ولا سبباً مباشراً مقبولاً أو معقولاً، ولكنك إذا تمّت لك النقلة الباطنة من خارج القول إلى داخله؛ فهمتَ ما يريد؛ فقد جرت عادة الملوك إذا نزلوا قرية أن يستعبدوا أهلها ويجعلوهم أذلة لهم ولا يقدرون أن يعملوا شيئاً إلا بأمر الملك فيما يأمر به وفيما ينهي، وكذلك المعرفة: إذا دخلت القلب لا تترك فيه شيئاً إلا أخرجته، ولا يتحرّك فيه شيء إلا أحرقته (را: السّراج الطوسي، اللمع في التصوف؛ ص 128).

هذا ما يجيب به البسطامي ويؤوّله السّراج الطوسي  مُفسّراً، وهو صاحب أقدم مرجع في تنظير التصوف وتقييد قواعده النظرية. ولكن بعد قراءة هذا التفسير الذي رأيناه عند الطوسي لم يزل السؤال قائماً: هل حالُ المعرفة في القلب، كحال الملوك إذا هم دخلوا قرية: الفساد والإفساد، وجعل العزيز من أهلها ذليلاً؟

مع ملاحظة أن ما أجاب به البسطامي إنما هو ضربٌ من التفسير كثيراً ما يلجأ إليه الصوفية في إشاراتهم الذوقيّة؛ لأنه كذلك مع ما فيه تجاوز العبارة الظاهرة هو ضرب من التفسير الإشاري للقرآن: معمولٌ به في عرف المفسرين، وبخاصّة أصحاب النزعات الروحيّة الخالصة كالإمام أبي عبد الرحمن السّلمي في كتابه المعروف بحقائق التفسير، والقشيري في "لطائف الإشارات"، وابن عربي في الكثير مما ذكره في الفتوحات المكية.

والتفسير الإشاري، جملة وتفصيلاً، إنما هو ضربٌ من فلسفة التخريج عند الصوفية يقوم على فهم طريقتهم في استعمال دراسة أصول الكلمات (etymology) للوصول إلى استخلاص معنى روحي لها. وما التّخريج إلا ذَوْق يخرِّج به صاحبه ما يعتمل في جوفه من مشارب وأذواق. وبمقدار ما يكون التعميم لتلك المشارب والأذواق سارياً في دوائرهم المعرفيّة تصيرُ فلسفة التخريج على هذا التعميم أساساً صالحاً يختص به المتصوفة دون غيرهم من الفِرَق الإسلاميّة.

*    *     *

قلنا إنّ فلسفة التخريج لدى الصوفيّة تعتمد مباشرة على قانون الذوق، وأن من أخص وظائفها الفنية هو تشبع المتذوق بإشارات الصوفية ولطائفهم، حيث يمكن له تجريب أحوال القوم وتذوق مذاقاتهم، وأنّ الإدراك العقلي وحده لمثل هذه الإشارات لا ينتهي بها إلى وضوح واضح بل ينتهي إلى غموض مُشْكل. وتوقفتْ بنا المساحة المحدّدة عند قول البسطامي حين سئل عن المعرفة؛ فأجاب بقوله:"إنّ الملوكَ إذَا دَخَلوا قَريَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَةً أَهْلَهَا أذلةً. وَكَذَلكَ يَفْعَلُونَ". فاعترضنا بسؤال على تخريج السّراج الطوسي لإجابة أبي يزيد البسطامي فقلنا: هل حال المعرفة في القلب كحال الملوك في القرية؛ الفساد والإفساد، وجعل العزيز من الأهل ذليلاً؟

ونظراً لأهمية فلسفة التخريج التي نعتمدها عند الصوفية قانوناً يستمد خصائصه منهجاً من معدن الذوق، نستكمل ما توقفنا عنده فنقول: هَبْ أن المعرفة هاهنا قد دخلت القلب كما يدخل الملوك القرية، أيكون المراد؛ كما أراده الطوسي, إنها لا تترك في القلب شيئاً إلا وتخرجه، ولا يتحرّك في القلب شيء إلا وتحرقه وكفى؟

المعنى لا يزال غامضاً والإجابة ليست شافية. إنما الاجتهاد يجعلنا نفي "التخريج" حقه من الجلاء والوضوح أزيد وأوفى ممّا أراد الطوسي تفسيره. فلئن كانت إشارة البسطامي تقول: إنّ حال المعرفة في القلب كحال الملوك في القرية إذا هم دخلوها أفسدوا فيها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ولا يزالون يفعلون؛ كذلك المعرفة إذا هى دخلت قلب العبد واستمكنت فيه، وتعلق بها وتعلقت به، أفسدته كما يفسد الملوك بقوتهم وسطوتهم وغلبتهم قرية صغيرة.

ولكن معنى الإفساد هنا هو التحويل من حال إلى حال، انقلاب من الضد إلى ضده، من الأمن والاستقرار إلى القلق والاضطراب، حتى إذا نحن شئنا أن نتصوّر قلب العبد كقرية دخلها ملوك أفسدوها فقد يلزمنا التصور أن نفهم المراد من وراء هذا القصد، ومراده هو: أن المعرفة إذا دخلت قلب العبد واستقرّت فيه، قلبته، وأفسدت فيه ما كان يعتقد أنه عز بأن جعلته ذليلاً ليعز بالذل بعد المعرفة، وليكون ذُلّه عزاً حين يذوق حلاوة المعرفة. فإنّ العز الذي ينبغي أن يفسد هو عز الجهل والاستنامة والبعد عن طريق الحق، وعدم الاهتداء إلى طريق الله، وهو شئ كان قبل المعرفة، وكان القلب معه يعتقد أنه عز، غير أن اعتقاده هذا عين الجهل وعين الوهم وعين الغبن؛ فإذا جاءت المعرفة قلبت هذا العز الموهوم إلى ذل معصوم من الوهم معصوم من الجهل والغبن، بمعنى أنها حوّلت استقرار القلب على الجهل وطمأنينة الغفلة والكنود والبلادة وتسويف الأعمال والبعد عن طريق الحق تعالى إلى قلق المعرفة وإلى اضطراب في حال العارف. وهذا ضرب من العز يأتي بعد ذلّ الجهالة الذي كان قبل حلول المعرفة في القلب عزّاً عند صاحبه.

*    *     *

وعلى هذا تتمُّ لنا النقلة المعرفية المقصودة من فلسفة التخريج على المعنى الذي يحمل وضوح الرؤية من مجمل أقوال الصوفية وإشاراتهم الذوقيّة: أعني النقلة الباطنة من خارج القول إلى داخله، والتي تيسّر لنا بالضرورة فهم ما يريد صوفي حين يقول من الأقوال قولاً، وحين يشير إلى حالة هو لا شك يعانيها، أو إلى وارد يعتريه عنوةً تحت سلطان الحال.

خُذْ مثلاً ثانياً على ما استنبطوه من قوله تعالى:"سَنُرِيهُمْ آيَاتَنَا في الآفَاقِ وَفي أَنْفُسِهُم حَتى يَتَبَيَّنَ لَهُم أنَّهُ الحَقُ"(فصلت: آية 53). معناه وفق هذا التخريج المقصود، سنريهم نعوتنا وصفاتنا في الملكوت حتى يتبين لهم إنه الحق، وما سواه باطل لا جَرَمَ، ولذلك قال النبي عليه السلام "أصدق كلمة قالت العرب ما قال لبيد:" ألا كل شيء ما خلا الله باطلٌ" فهذا الاستنباط يحتاج منا إلى تخريج فكيف نخرّجَهُ؟ إننا نحمله على معنيين من التخريج لا ثالث لهما أولهما: يحمل معنى وحدة التوحيد التي يعتقدُها الصوفية فيشهدون فيها الحق الباطن في دخائل النفس في حال الفناء، وهو حال ممزوج بالعاطفة القوية والروحانية الطليقة الجامحة. وثانيهما: يحمل معنى وحدة الوجود التي يرى أصحابها الحق تعالى في مجالي الجمال والجلال وهو عمل تجليات الصفات الإلهية. في الحالة الأولى كان البسطامي والحلاج والشّبْلي ورابعة العدوية.

وفي الحالة الثانية كان ابن الفارض وابن عربي وتلاميذه. وهذا المعنى الثاني المحمول على وحدة الوجود لا يمكن أن نغفله في كتب الأوائل من الصوفية على وجه العموم؛ إذا نحن لم نستطع أن نفصل فصلاً تعسفياً بين وحدة الشهود ووحدة الوجود في عين التجربة الصوفية.

   (Stace (W): Mysticism and

. philosophy, Mac Millan, London, 1961 .P 40)

وإذا نحن أردنا أن نرد جزءاً من معاني وحدة الوجود إلى ما نسميه من جانبنا بنظرية المضمون الإسلامية، وإذا نحن شئنا ألا نرجع بالوحدة فقط إلى المصدر الهندي مثلاً أو إلى الأفلاطونية المحدثة لأنهما (المصدر الهندي والأفلاطونية المحدثة) يختلفان في المضمون وإنْ اتفقا أحياناً في الشكل عن المضمون الإسلامي الذي ينطلق من عقيدة كتابية أولاً وقبل كل شيء ثم من فكرة التوحيد.

(وللحديث بقية)

 

بقلم د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم