حوارات عامة

القاص المغربي محمد فري... في ضيافة المقهى؟؟!

يختفي كثيرا عن النشر الورقي والإلكتروني إلا أنه يعود من جديد للظهور بنصوصه الجميلة...

 

سؤال لابد منه...  من هو محمد فري؟

وجواب لا بد منه، هو محمد فري بكل بساطة، من أسرة متواضعة أو متوسطة، يصعب التصنيف والأمر سيان، وأخشى ألا يكون في بيان السيرة ما يميز أو يثير، لذا سيكون من باب الحديث العادي إذا أشرت إلى الدراسة الأولية والثانوية ثم الجامعية، وبعدها مزاولة العمل إلى حدود تقاعد اختياري ربما أتاح لي بعض الوقت لمزاولة هوايات أتفرغ لمتابعتها أو مزاولتها تجاوزا لفراغ غير مرغوب فيه، لهذا قد يحدث أن أجد وقتا للكتابة أو الرسم أو سماع موسيقى ضرورية لملء فراغ روحي أحيانا .. وفي هذا السياق يحضرني حدث طريف في بداية حياتي العملية بل في أول يوم منها، ففي فترة استراحة قدمني صديق إلى بعض زملاء العمل، فبادرت إحدى الزميلات تسألني بطريقة غير مباشرة عن المرتبة الاجتماعية ( أو ربما الاقتصادية )  للأسرة التي أنتمي إليها بقولها " من أي العائلات أنت؟ "، ولعلي وجدت بعض الغرابة في سؤالها، وربما هي غرابة تنعدم عند غيري لدى بعض الفئات التي ألف أفرادها الحديث  عن مستوى الأسر ومدى عراقة أصولها ونسبها، على كل لا أنسى الجواب الذي فتح الله علي به في تلك اللحظة فأخبرتها بأن أبي رجل لا تعرفينه اسمه أحمد !!

لا أنسى أيضا فترة من حياتي الطلابية قضيتها بفاس، والأحداث المختلفة التي واكبت هذه المرحلة والتي أعتبرها مرحلة حاسمة كانت لأثارها بصمات وسمت جوانب كثيرة من شخصيتي ورؤيتي للأشياء، وأتمنى أن أتوفق في إكمال عمل يغلب عليه الطابع السيري، ويتضمن شذرات من هذه المرحلة التي لم تمر مرور الكرام.

 

ما هي الدوافع التي جاءت بك إلى عالم الكتابة؟

يصعب علي أن أتحدث عن الدوافع لأن الكتابة ميل يعايشنا خلال مراحل حياتنا منذ البداية، لذا وجدت نفسي أشد ميلا إلى كل ما هو فني منذ الصغر، هكذا أغرتني الصور والرسوم المختلفة منذ فترة بعيدة، فقلدتها ونسجت على منوالها، ثم شدت انتباهي كتابات تتراوح بين الشعر والقصة والرواية، فوجدت فيها متعة لا تضاهى، وأذكر بدايات تعرفي على قصص وروايات إحسان عبد القدوس واكتشافي لأسلوبه السردي المتميز، وبعده محمد عبد الحليم عبد الله ثم عبده حقي لأصل في مرحلة لاحقة إلى اكتشاف نجيب محفوظ وإلى أول عمل له أتعرف عليه من خلاله وهو " همس الجنون "، وأذكر كيف شدني السرد وهو يتدرج من خلال متابعة السارد في اكتشاف التحولات الطارئة على تفكيره ورؤيته للأشياء ليتحول إلى نشاز مقارنة مع المفاهيم العامة السائدة وينعت بالجنون، أذكر أيضا الدواوين الأولى التي تركت بصمة عميقة في نفسي فأشير إلى ديوان أبي القاسم الشابي " أغاني الحياة " الذي أكاد أجزم أنني حفظت جل نصوصه تقريبا في سن مبكرة، ومن خلاله تعرفت على الإيقاع الشعري بما في ذلك " لحن المتقارب " الذي ميز الشابي، كذلك أشير إلى دواوين نزار قباني وأولها " حبيبتي " وفيه توقفت طويلا عند قصيدته " خبز وحشيش وقمر "، وأذكر أنني نسخت الديـوان و " رسمته " لأحتفظ بنسخة منه بعد أن كانت صعوبات معينة تمنعني من اقتناء الكثير من المطبوعات، ولابد أن أشير أيضا إلى التأثير العميق الذي تركته في نفسي دواوين إيليا أبي ماضي لإعجابي الشديد بقصائده، وأتحدث هنا طبعا عن مرحلة التلمذة لتأتي مراحل أخرى أتعرف فيها على كتابات مختلفة لم تتركني محايدا، هل كنت رومانسيا في بداياتي التي تركت آثارها في نفسي؟ ربما، ولكن ليس بالمفهوم الساذج للرومانسية، ولعل هذه الإرهاصات كلها كانت حوافز قبلية لولوج عالم الكتابة دون إغفال حوافز فطرية لابد من وجودها بالقوة من قبل ..

 

هل يمكن اعتبار النشر الالكتروني منافسا للنشر الورقي؟ وإلى أي درجة يخدم النشر الالكتروني المبدع المغربي؟

هذا مما لاشك فيه، ففي مرحلة ما قبل النشر الإلكتروني كان الكاتب يواجه صعوبات كثيرة في التعريف بإبداعه، وهي صعوبات تقف عائقا أمامه لولوج " عالم الكتاب "، ولا اقصد هنا حواجز المستوى المتواضع للكتابة، وهي التبريرات التي يستند إليها " سدنة " الوسائط الورقية ورجال جماركها الذين يتفننون في صد " هجومات الكتاب الجدد "، ولعل للعلاقات دورها في هذا الباب، حيث كان هذا العامل يلعب دورا كبيرا في السماح بطرق أعمدة الجريدة أو المجلة باستثناء بعض الحالات منعا للشبهات، بل ربما تصبح الكتابة استراتيجية للاستقطاب بسبب المنافسات السياسية التي تخلقها التعددية، وأذكر أن بعض الكتاب المغاربة المعروفين حاليا قد تعرضوا لهذه الحواجز الجمركية في بداياتهم،ولم يتجاوزوها إلا بعد جهد ومعاناة وأسباب أخرى يطول شرحها .. من هنا يكون النشر الرقمي أو الإلكتروني عنصرا متحديا للموانع السابقة، وفضاء وفر منبرا حرا للكثير من الكتاب الجادين المجدين الذين لم نكن لنتعرف عليهم لولا تطور هذا الوسيط الجديد .. ولم يسلم النشر الإلكتروني طبعا من انتقادات سدنة الورق، بل من احتقارهم لهذا الفضاء المفتوح لمن هب ودب، إلا أن قولهم مردود عليه، ذلك أن النشر الورقي لم يسلم من الكتابات المتواضعة، ولا يمكن اعتباره مقياسا للجودة، وبصفة عامة، فإن النصوص الجيدة تفرض نفسها مهما كان الوسيط الذي تعتمده في النشر..

 

 ما هي طبيعة المقهى في القنيطرة؟ وهل هناك مقاه ثقافية؟

هو سؤال أجمع على إجابته كل من سبقوني ، وهو انعدام المقاهي الثقافية في كل المدن المغربية، لأن المتحكم أساسا هو الجانب التجاري الذي يتغيا الربح لمواجهة متطلبات ملحة أهمها الضرائب الثقيلة المفروضة على المحلات ..فالمقهى ليس ناديا ثقافيا يوفر أجواء تؤهل للحديث عن همومنا وتجاربنا الثقافية بجدية معينة، كل ما يوفره المقهى هو أن نقتعد مكانا في ركن من أركانه لنمدد أرجلنا ونستجدي راحة نحتاجها بعد جهد بذله كل واحد منا في جانب من الجوانب، من هنا يصبح المقهى في صورته التي نعرفها، مكانا للثرثرة المتعددة غير الممنهجة، لأن غايتها البوح بما يعتمل داخلنا من ضغوطات مختلفة نتجاوزها بهذا الحديث المتداول والمتبادل..

لايمكننا الزعم طبعا أننا نتوفر على مقاه في مستوى ما هو موجود بفرنسا مثلا، حيث تكتظ المقاهي المجاورة للسوربون بالكتاب والفنانين وترتفع الأصوات بالنقاشات الفكرية والفلسفية والأدبية والفنية .. ويلتقي رواد المقهى بمبدعين بارزين فيحدث التقارب والتواصل وتتناسل الأسئلة والردود ويكتسي المقهى بذلك طابع الثقافة وصفة الثقافي عن جدارة واستحقاق.. ويمكن أن أسوق مثالا آخر عن مقاهي القاهرة الذي اشتهر بعضها بارتياد كتاب مشهورين لفضائها أمثال نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وغيرهما من البارزين الذين أكسبوا المقهى الأدبي نكهة خاصة..

فهل نتوفر على مثل هذه المقاهي بهذا المفهوم؟ لا أعتقد، ولعل هذا ما يحبط أدباءنا، فيتوجهون إلى غير المقاهي ليكتشفوا أن البلاء واحد.. و " غير المقاهي " هذه موجودة بكثرة في القنيطرة، بل إن لبعضها تاريخا يعود بها إلى المرحلة الاستعمارية التي ساعدت على بروزها وكثرتها، فاكتسبت جميع الخصائص باستثناء ما هو ثقافي..

 

هناك علاقة تاريخية بين المبدع والمقهى، فإلى أي درجة تحضر المقهى في حياتك؟

لا تلعب المقهى دورا كبيرا في حياتي، وربما لأنها لا تحقق بالنسبة إلي إشباعا وجدانيا أتوق إليه، ما يهمني في المقهى أساسا هم الأصدقاء الذين ألتقي بهم لنتبادل الدردشة والنميمة البريئة طبعا، هذا إذا كانت هناك نميمة بريئة، وأشير هنا إلى عدم قدرتي على الجلوس وحيدا بالمقهى، فهو أمر لا أستطيعه ولا أطيقه، وهذا يؤكد أن المقهى بالنسبة لي ليست هدفا بل مكانا للقاء فقط .. وأعترف هنا أن الأمر كان مناقضا عند زيارتي لفرنسا، فبالإضافة إلى تجوالي في المتاحف الباريسية عندما تتيح لي الظروف ذلك، كنت أجد متعة في ارتياد مقاهي سان ميشيل وساكري كور، وأحس بنشوة وأنا أراقب حركة أدبية وفنية لا تخلو من متعة .. هنا لم أكن أشعر بالملل حتى ولو جلست وحيدا بالمقهى .. هو عامل الظروف المختلفة طبعا ..

 

هل يمكن اعتبار المقهى فضاءا مناسبا للكتابة؟ وهل سبق وجربت طعم الكتابة بها؟

قد يكون فضاء مناسبا للكثيرين، لأن الكتابة طقوس، ولكل طقوسه، إلا أنني لا أجد ذلك مناسبا لي، ربما أفضل الخلوة والهدوء الشامل المساعد على التركيز، وهذا ما لا توفره لي المقهى..

 

ماذا تمثل لك: الهوية، الطفولة، الحرية؟

الهوية: هي المقومات التي تميز الذات فتسمها بسمات تشمل قيما ومبادئ تشكل خطا واضحا قويا قادرا على مواجهة التشردم .. والمثقف لا يمكنه التخلي عن هويته، لأنه لابد من اكتسابه لرسالة يشتغل من أجلها، وإلا، فعليه أن يطرح على نفسه تساؤلا حول جدوى الكتابة.

الطفولة: أعيشها باستمرار، وأحاول دائما أن ألمس الطفل الذي بداخلي، فأمد إليه كفي، وأربت على رأسه بحنان دافق، وأحس بمتعة لا تضاهى وأنا أسترجع أزمنته، هل أنا حالم؟ إذن .. نعم الحلم.

الحرية: تحضرني دائما هنا لوحة الرسام الفرنسي " الرومانسي " أوجين دولاكروا "، وهي تجسد الحرية في صورة امرأة عارية الصدر، تتقدم صفوف الثوار نحو الباستيل، رغم سيل الدماء وانتشار الجثت.. الحرية عنصر لا يمكن فصله عن الحلم، إنها العالم المنشود الذي نتوق إليه باستمرار، هي القيمة المطلقة التي نقيس عليها مستويات الحرية التي قد نحققها، لأننا .. لا يمكن أن نعيش الحرية في مستواها المطلق..

 

كيف تتصور مقهى ثقافيا نموذجيا؟

أتصور أو أتخيل هذا المقهى الثقافي " النموذجي " مرافقا لوعي ثقافي نموذجي، ولن يتحقق هذا النوع من الوعي إلا بتنمية شاملة مستدامة، فالثقافة انعكاس لما هو سائد على جميع المستويات، ولا يمكن فصلها عن المرافق المختلفة التي تُكون المجتمع .. إذ المقهى الثقافي النموذجي، انعكاس لمجتمع راق نموذجي، فهل حققنا هذا المجتمع؟

******

 

أخيرا أشكر الأخت فاطمة الزهراء المرابط على إتاحتها الفرصة لمثل هذا الحوار الدافئ، وعلى توفيرها لمقهى على مستوى افتراضي جميل، وجدنا فيها مواصفات لم تتحقق بعد في المقاهي على مستوى الواقع.. شكرا مجددا.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1350 السبت 20/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم