حوارات عامة

الفنان التشكيلي العراقي الدكتور عمر المطلبي .. / حاوره: سعدي عبد الكريم

 * د. المطلبي : الفن يمثل لي تلك المحطة التي أتمنى الوصول إليها ...

* حلمي ان أكون امتداداً لفائق حسن، وللخالد جواد سليم

الذي اعتبره شخصياً معلمنا الأول ...

* في مجال الفن .. إننا أمام سلسلة طويلة من تحطيم السائد

بهدف إبداع كل ما هو جديد ...

 

*  في البدء . أنا عازم  على أن لا أكون تقليديا،  أستاذي الفاضل في تفاضلية الأسئلة النمطية، ولكني سأذهب الى مذاهب ذات طابع أكاديمي، واسمح لي أن أسئلك  ما مفاده .. من هو عمر المطلبي، الفنان بدء ً، والإنسان ثانيا والأستاذ الاكاديمي ثالثا، وذلك بطبيعيه الحالاتية اللحظوية، التي تنعكس ضمنا على المستوى الإنساني، وبالتالي على المستوى .. الفكري .. والفني؟

- في البدء لابد من ديباجة الشكر لكم .. أما سؤالك فهو في الواقع مجموعة اسئلة في سؤال . انا خريج كلية الفنون الجميلة فنون تشكيلية فرع الرسم عام 1992 ببغداد وكانت لي مشاركات عديدة في المعارض الفنية في الكلية ومعارض الطبيعة برفقة الرائد الراحل الكبير فائق حسن مع بقية زملاء الدراسة الرائعين . اكملت دراسة الماجستير عام 1999 لرسالتي الموسومة ( التعبير الدرامي في اللوحة العراقية المعاصرة ) وأكملت دراسة الدكتـــــــوراه عام 2008 وباطروحــــــــة الدكتوراه الموسومــــــة ( الريادة الجمالية في الرسم العراقي الحديث ) وحاليا أمارس التدريس في الجامعة المستنصرية .

الفن يمثل لي تلك المحطة التي اتمنى الوصول إليها . . اما بخصوص الجانب الاكاديمي فهو الثوب الذي لبسناه من اجل المستقبل الذي نحلم به جميعا . اما المستوى الفكري والفني فاننا غير ملزمين بتقييمه . كونه من حق الآخرين !!!

 

* على مستوى دائرة  ذاكرتي الانصاتية، ثمة أسئلة كنت قد استقيتها من خلال رصدي البيلوغرافي لتجربتك الفنية الطويلة، بأنك تشهد وعلى الدوام بأنك تدين لأساتذتك الرواد على مستوى الرسم على جملة من الفنانين الرواد الكبار، أمثال فائق حسن، وسعد الطائي،وماهود احمد، ومحمد صبري، وحسام عبد المحسن، ووسام مرقص، وغازي السعودي، ومحمد تعبان .

والسؤال هنا يكمن في ما مدى مصداقية تلك الصلة التعاقدية على المستوى التقني والفني، بينك وبين تلك الأسماء الكبيرة، داخل متن اطروحة النضج الفني والتكويني، وما الذي قد أفادك، من خلال هؤلاء الرواد على المستوى الفني والفكري الاشتغالي  العملي؟

-  المثل العراقي الشائع ( الذي ليس له اول ليس له اخر) كل معادلة الوجود قائمة ضمن جدلية التاريخ القائمة على مبدأ التتابع في كل شئ ( الزمن - الاجيال – المكان ) .. فأني اتمنى ان اكون ضمن سلسلة الثقافة العراقية العريقة وحلمي ان اكون امتداداً لفائق حسن، وسعد الطائي،وماهود احمد، ومحمد صبري، وحسام عبد المحسن، ووسام مرقص، وغازي السعودي، ومحمد تعبان .وشاكر حسن وحافظ الدروبي وللخالد جواد سليم الذي اعتبره شخصياً معلمنا الاول واحد اهم الرعيل الذي اسس لصورة الفن التشكيلي العراقي الحديث . ناهيك عن الكثير ممن نذروا حياتهم في بناء الحركة التشكيلية العراقية واحتلالهم مساحة مميزة ضمن حقل الثقافة الفني .

ان آلية الاشتغال في الفن قائمة على مبدا التأثير والتأثر، فاننا جميعا نشكل ضمناً، نسق وانساق لهذا الاشتغال وبالتالي فاننا نذوب ضمن سياق المرحلة.

التحول في بنية الفن لا تأتي من العدم بقدر دخولها ضمن مراحل التحول عبر مراحل تاريخية . وحتى ان وجدنا عبقريات معينة في تاريخ الفن فانها ليست من العدم. مثلا لوراينا عبقرية الاسباني (كويا) وعملنا مقارنة مع (بيكاسو) فان الاخير هو الامتداد الطبيعي لجويا بالرغم من الحقبة الزمنية التي تفصل بينهما، قد يسال سائل ماعلاقة الاثنين فكل له اسلوبه وزمنه ومنجزه الفني...

فاني ارى ان تجربة جويا لم تكن وليدة اللحظة بقدر ماهي امتداد لتجربة انكر وجريكو وبروجل ودافنتشي .... اما بيكاسو هو النتاج الطبيعي لما جاء به كل هؤلاء وكذا جويا وديلاكروا وكوربيه وكورو ومانية وصولاً الى فان كوخ وغوغان وسيزان وماتيس ... ان التجربة البشرية في (حقل الثقافة) لايمكن الانعطاف بها بشكل مفاجئ .. ولولا بيكاسو ماكان هناك كاندنسكي ولولا هذا ماكان هناك موندريان .... وهكذا جاكسون بولوك وروشنبرك .. ولولا كل هذه السلسة لما كان هناك جواد سليم ولا فائق حسن .. ولولا هؤلاء ماكنا نحن اليوم .. لنضع حجراً واحدا في بنية الثقافة..ان المشروع الثقافي لم يعد اليوم شرقياً او غربياً انها ثقافة عالمية .. ولانغفل دور العلم في هذا، لان تطور العلم يوازيه تحول الفن .. لخلق انساقه التي تشكل صورة الوجود بصورة مستمرة .

 

* هل تعتقدون بان التجربة تسبق الكلاسكية، ام هناك ثمة تفاوت، على اعتبار ان اللحظة هي ذاتها في مخلية الفنان التشكيلي، وكلاً ينظرُ الى تكوين ومضة اللحظة، وفق رؤيويته التخيلية، ام هناك أسبقية مابين الانفجار الكوني الابتدائي، والتكوين اللاحق للون، على اعتبارهما ينهجان ذات الصيغة التغيرية في التعبير، او الفهم  او التعبير؟

-  كل شئ في هذا الوجود ياخذ مساحته وشكله ضمن الزمان والمكان .الخيال البشري ليس له حدود، لكنه يظهر للعيان وفق المحددات الزمكانية، والتحول دائماً تفرضه مغامرة العقل البشري، ففي مجال الفن فاننا امام سلسلة طويلة من تحطيم السائد بهدف ابداع كل ماهو جديد، هذا التحطيم يستهدف كل قيود التاريخ كما يراها  د. فتحي التريكي . اذن الفنان هو في صراع دائم من اجل تغيير صورة الايقونات السلفية، مثال على ذلك : اننا لانستطيع ان نفترض ان كاندنسكي قد يعمل تجريديته الغنائية ضمن الفن الاغريقي او حتى في الحقبة الكلاسيكية، بالرغم من ان الخيال ورؤية الفنان يستطيع فعل هذه الاشياء في اي زمن كان، لكن طبيعة التحول التاريخي لها صيغة منطقية تتابعية ذات طابع تتدريجي، من اجل منع فوضى الحضارات...

اما ان نقول انه فهم او تعبير فان الفن بطبيعته وفي اقصى حالاته التطرفية يطرح ماقيمته شكل ومضمون .. والفرق بين هذه المضامين ( الفهم او التعبير ) هما يحددان شكل الفن عبر التاريخ ..... فكلما تحرر التعبير من قيود الشكل  فاننا بلا شك توغلنا في الحداثة .. وهذا ماجعل عصرنا الذي نحن فيه .. الاكثر انفجارية عبر التاريخ منذ عصر الكهوف، لان التعبير لم يعد ملكاً للفنان المنتج بل دخل المتلقي كمفسر جديد للنص الفني سواء بصرياً او غير بصري . فبالتاكيد اننا امام انفجار تعبيري يحمل صفة الكونية .

 

* عبر استقرائي لأفكارك الفلسفية، كنت قد طرحت مفهوما قد اختلفُ معك في متنه،  على اعتبارها مشتغلين في المساحة النقدية الفنية والأدبية، وهذا ينعكس لا على مستوى  التصريح او الطرح الفلسفي، بل وحتى على مستوى التوقيع التجاربي في جل محافل الفنون، فأنت تقول في احدى مقالتك النقدية ...

( ان الشعر والتصوير فنان متفقان في الرؤية ويختلفان في الأداة فالأول أداته الأقاويل والآخر أداته الأصباغ وعليه فأن المحاكاة في التصوير لا تبتعد عن ما هي عليه في الشعر )

ووجهة الاختلاف هنا .. لا التقاطع، بأنني ارى ان هناك ثمة لغة محاكاة، إي لغة تناغم او موائمة بين المستعرض، وبين المبصر، وهناك ثمة تفاوت وتباين ما بين الاستدلالات الرمزية المشفرة،  وبين اللغة الشعرية بموسيقاها، وإيقاعها، وانزياحاتها، وفهميتها المنجدية العالية،  داخل المنجز الإبداعي، لا يتفقان وفق المنظمومة ذات المنهج الفلسفي في التفسير، لإحالته الى مرتبة التحليل والتفسير والتأويل داخل المنجز الشعري، هل من الممكن في رأيكم إيقاع المتلقي في فخ الهذيان الفرجوي الرئيوي الصوري والإيقاعي الإيحائي او البصري؟!

ومن ثم إيقاعه في متاهات منطقة التأويل؟!

- لو نظرنا الى مصطلحات ( الدماغ،العقل، الذاكرة،التذكر،المخيلة،التخيل ) كل هذا له الاحقية في ايجاد ما يعرف بـ( الرؤية) .

فالرؤية هي نتاج الانسان بصفته العاقلة التي تميزه عن باقي الكائنات .. لو اعود بك قليلاً لوجدتني اذكر ( حقل الثقافة ) الذي يتشكل من مجموعة من الحقول منها الفن والذي يتكون من ( الادب) و(التشكيل) فإننا أمام معادلة تقوم على ( الانسان = الرؤية ) والتنوع ينطلق من خلال التقنية .. والتقنية احدى عناصر بنية الفن بصورته العامه..

اني ارى الفن هو( رؤية + تقنية) فالشاعر يمتلك رؤية لكن يسعى لامتلاك تقنية نظم الشعر والرسام يمتلك رؤية لكنه يسعى لامتلاك تقنية اظهار الصــــورة، ســـــــــواء كانت ( لوحة او منحوته او خزفية ) فالشاعر والرسام يتفقان في الرؤية ويختلفان في الاداة، التي تساعد على تحقيق رؤياهم .. فاللشعر صورة كما فيه معنى وكذا الرسم فيه صورة وله معنى . ناهيك عن التاويل والاستعارة والاختزال والرمزية ... فالشاعر والقاص والروائي والكاتب ... كلهم فنانين وكذا الرسام والنحات والخزاف والمصصم كلهم فنانين .. اما بقية الفنون فتختلف عن ما عليه الشعر والرسم من تقارب في الرؤية  .. لكنها تنظوي جميعاً لتكوين حقل الثقافة.. انا لااتفق معك بان ( لغة الانزياح الشعرية بموسيقاها الايقاعية) فهل تعني ان لغة الخطاب البصري بعيدة عن الشعرية او الايقاع الموسيقي .. لانستطيع الفصل بين الاشياء في هذا المضمار كون المتلقي انسان يعني ( احساس- عاطفة – شعور- وجدان) وهذا الانسان في سعي دائم للبحث عن الجديد، وهذه المكونات تختلف من شخص لاخر، وهذا ما يخلق التنوع في كل الاشياء التي ينتجها الانسان . فالتذوق شخصي والتاويل شخصي وبالتالي فان فخ الصورة ومتهات التاويل ماهي الا ادوات تعمل بشكل مزدوج سواء في الرسم او الشعر.

 

* أرى .. ومن وجهة نظري النقدية .. ولو اختلفنا، لكننا بالتأكيد سيدي الفاضل  لا نتقاطع، وعلى ضوء  هذا الفهم الفني الحضاري، أرى بأننا  متفقين على ان الفن بجل مخاصبه المتنوعة، هو محاولات  تجريبية لتحويل الساكن الجامد، الى متحول ديناميكي متحرك، يتفاعل مع محيطه المجتمعي، وفق الاشتراطات الاجتماعية، والسياسية، والفكرية، هل استثمرتم هذه الفرضية في إعمالكم وفق نصابها التراتبي الزمكاني؟

- ليس الفن وحده قائم على التجريب بل كل مفاصل النتاج البشري لم تنفك ان تنتقل عبر مراحل التاريخ من خلال التجريب، اما جدلية الساكن والمتحرك فهي من تقوم وفقها الحياة برمتها، فمن الطبيعي ان يسعى الانسان لخلق عالمه وبالتالي تاسيس مايعرف باشتراطاته الاجتماعية والفكرية والسياسية . فالعالم يتمحور حول الانسان فهو المولد لكل المفاهيم التي تجوب الارض وتنتقل عبر الزمان والمكان لتشكلن طبقات التاريخ الذي نحن جزء منه، فضلاً عن ما يكون مؤثراً خارجياً كالطبيعة والدين والاسطورة، والفنان لاينفك ان يكون عنصراً مهماً وفاعلاً في رسم صورة المجتمع بجوانبه الفكرية والسياسية وما الى ذلك، لان انثربولوجيا الانسان ترينا مارسمته عقلنة الانسان وبالتالي حجم العصارات الفكرية التي اطلقها لتحديد شكل المجتمع عبر مراحل التاريخ، ونعود للقول ان الانسان باستهلاكه هذا الكم من العمليات الفكرية لابد من وجود اشخاص ياخذون على عاتقهم ادارة المنظومات الفكرية التي تؤسس لصورة الوجود البشري كونه جزاً من الوجود، هذا الوجود الذي يحكمه المنطق بكل تفاصيله حتى تلك التي لم تكون مشخصة او مدركة . وهذا الانسان يحمل صفات منها مانطلق عليه ( مفكر) او (فيلسوف) كونه يمتلك القابلية على رسم صورة الحياة من خلال مايمتلكه من قابليات فاعلة على التحليل والتركيب والخروج بنتائج تشكل جزء من البنى الاجتماعية بشتى انواعها .

لااريد الاطالة .. فان الفنان احد اهم هذه البنى التي تعيد رسم صور الحياة لتعيد تشكيل صورة المجتمع وفق الزمان والمكان وبالتالي الدخول الى التاريخ. الفنان بما يمتلكه من قابليات على كسر حواجز الميتافيزيقا هوالراعي الاول لابداع صورة المستقبل، فما ان دخل عالم الفن حتى اعلن عن دخوله الى عالم الفلسفة، ليصبح وسيطاً بين ماتؤول اليه الفلسفة وبين التحول نحو اشتراطات الواقع سواء كانت سمعية ام بصرية .

لو تتبعنا حركة التطور الاجتماعي عبر التاريخ لوجدنا انها اى الاشياء تولد اول الامر بصيغة المخيلة للكلام، افكار فلسفية او ادبية (قصة - رواية - شعر) ثم تاخذ طابعها البصري من خلال الفنون التشكيلية والسينما ومن ثم تاخذ وقتها المنطقي لتتشذب وتتحول باتجاه صورتها الواقعية التي يرسمها العلم او( التكنولوجيا).

اضرب لك مثال على ذلك : اننا نقرأ في تاريخ الحضارات ان الانسان يطير له جناحان كما في الفلسفة الاغريقية . ثم تحول الى الجانب الادبي فاخذ يطير على بساط سحري كما في الف ليلة وليلة وفي الادب كثير من الامثلة مثل ( سوبرمان) الذي تحول الى صورة مرئية في السينما ثم تدخل العلم وصنع الطائرة واصبح الانسان يطير في الهواء ويعبر القارات . ناهيك عما نعرفه عن وصول الانسان الى القمر والاتصال عن بعد بدأت افكاراً في الادب ثم الى الفن ثم الى العلم لتصبح واقعاً ملموساً لا بل أصبحت (روتين).

الفن هو من يرسم صورة المستقبل .. فالفنان مسؤولاً عن ابداع الجانب البصري والحسي لكل المتخيلات عبر التاريخ . نصل الى نتيجة مفادها انه احد اهم البنى المجتمعية . هو الذي يؤسس لصورة الما بعد، لأي مجتمع كان، لابل صار يؤسس لصورة المجتمع العالمي وكسر الحواجز الاجتماعية والدخول الى مجتمع عالمي بتذويب الثقافات و التلاقح الحضاري اليومي من خلال تناقل الصورة عبر الفضاء ليصبح العالم قرية صغيرة .

اما بالنسبة لي فبالتاكيد كوني انسان فانا جزء من هذه المعادلة ( الزمكانية ) كما قلت..

 164-omaralmotalibi

* هناك ثمة سؤال،  يجول في الذاكرة، ان سمحت، أرى انك تؤسس داخل منظومات نتاجك الفني وفق نظام الكتلة الطبيعية بصياغة الفنون التجميعية وبتقنية لها من السوابق الكثير من الاشتغالات، لوحات رسم متحررة من التجريدية، ضمنت لها متنفس لوني يكون اللون وفق تقنية هو الذي اعد الشكل مسبقا، هل تتفق معي في طرائزية، طرح هذا التساؤل؟

- في منطقة الفن لاتوجد حدود بين ماهو طبيعي وماهو غير طبيعي،والكتلة موجودة بوجود الانسان حتى وان كانت كتلة متخيلة كما يرى اصحاب الفلسفة . ليس لنا كل الحق بالحديث عن معنى ماهو مرئي بل واجب علينا الحديث عما وراء المرئي خصوصاً نحن نعيش في زمن الحداثة، فكل ماهو مرئي او طبيعي لايوجد خلاف فيه انما الجدل ينتج من عملية الكشف عن المعنى وبالتالي تتوالد القصص، ولعقل الانسان الحضوة الكبرى لسوق المعاني باتجاه تفرضها رؤية الانسان الذاتية، وكل هذه التوالدات الحداثية تكشف عن حجم الذاتية وهذه الاخيرة ( الذاتية ) المسؤولة عما نحن عليه اليوم، كي نتمكن من اعطاء توصيفات او ايجاد ترجمة لما تاتي به الحداثة وما بعدها من ابعاد ماورائية، نكون مضطرين لايجاد مسميات لنستمر في العملية النقدية .. من هنا ترانا نتحدث بطريقة (الكتلة والنظام والفنون التجميعية) كمن يتكلم عن طريقة تفكير الصينيين وهو لايعرف شيئاً عن اللغة الصينية . اكثر الناس الموغلين في الحداثة لن يكونوا على يقين بمقصدها، عظمة الحداثة بعدم الوصول اليها ما ان نصل اليها حتى لاتصبح حداثة بل واقعية ولانختلف بعد ذلك  .

نحن نعتقد ونحن نتذوق ونحن نأمل ونحن نحلم ونحن نتوقع ماهي الحداثة. خصوصا ً في منطقتها التجريدية، الا اننا لانجزم ونحن ننظر الى الحداثة لاننا ما ان نجزم حتى نعلن عن جهلنا اتجاه ما نحن نتحدث عنه (التجريدية)

اما التحرر من التجريدية فهذا غير وارد، لاننا نعيش في عالم تجريدي فالماضي شئ تجريدي اذ لانستطيع ان نمسكه إلا من خلال مجموعة الاثار التي تكشف عن وجوده، والمستقبل لانستطيع ان نمسكه، لانه لم يأت بعد ونحن اصلاً نعيش بين الماضي والمستقبل، ولولا وجود العقل لما استطعنا ان نحيك جسور قصتنا الوجودية، اذن كيف بنا نتحرر من التجريدية، فالانسان قبل ان يولد لايوجد وبعد ان يموت لايبقى منه سوى آثاره، وهذه لاتمثل إلا شكلاً مجرداً لذات الانسان . اما بخصوص اللون فالوجود كله ملون، نحن في منطقة التجريد نعيد تشكل العالم من خلال اعادة تشكيل معادلتنا اللونية سعياً منا لايجاد كل ماهو جديد وهذا مبتغى الانسان منذ سالف الزمان .

اما ماجئت به من مصطلح (طرائزية) لااتفق معك بخصوصه، فالاجدى ان تقول (هل تتفق معي في اسلوب طرح هذا التساؤل) لان الطراز اكبر من الاسلوب،الاسلوب شخصي والطراز عام ويضم مجموع الاساليب .

 

* كنت اقصد بالطرائزية دكتورنا .. هي القصدية الانتهائية في حضور الملهم الأصيل في اشتغالتكم الفنية .. أي الطراز ذاته الذي يجيء على قمة هرم الأسلوب والطريقة، وسؤالي كان منبعه هل أفدت بتجربتك الفنية الفخمة .. من طرائزية العام، بمعنى من الأساليب الفنية التي سبقتك .

....

* في أول إطلالة فنية لكم  خارج العراق، حملت كفنان تشكيلي عراقي ( 25 ) لوحة من قياسات مختلفة تتسم جميعها بالتجريبية الى مدينة السحر بيروت وكان هذا المعرض يعد ُ ثاني معرض  فردي لكم بعد معرضكم الأول في بغداد، هل يمكن لكم ان تحدثني عن تلك التجربة .

- ان موضوع المعرض كان بالنسبة لي تحد شخصي ، إذ بقيت لعشرين عاماً اشترك بمعارض جماعية . ولا اريد ان اعيد سرد ما عانيناه كتشكيليين عراقيين فالكثير من زملائنا المبدعين اختاروا طريق الهجرة . وآخرين اختاروا الانزواء كل لمقصده . الا ان التحول الذي طرأ على البلد والانفتاح على العالم ومحاولة اختزال الزمن لاعادة تشكيل الثقافة العراقية بصورتها الجديدة . اخذ الكثير من الفنانين العراقيين وفي العديد من التخصصات الفنية المتنوعة للجري سريعاً للدلو بدلوهم وبغزارة داخل وخارج بلدنا الحبيب . فاخترت صعودي الاول للطائرة بصحبة معرض تشكيلي. بلوحات تعبيرية تجريدية،والمحطة الاولى للعرض بصورة شخصية كانت بيروت الجميلة . تجربة رائعة لما رايته من اعجاب ممن زاروا المعرض وخصوصا على مستوى الاكاديميين والفنانين التشكيليين اللبنانيين الذين ابدوا عجابهم بالمناخ اللوني لدى الفنانين العراقيين. واعطتني هذه التجربة الحافز الكبير لتكرارها في محافل وبلدان اخرى .

 

* الدكتور المطلبي .. باعتباركم فنانا تشكيليا، لكم حضوركم وثقلكم الفني في الذاكرة الفنية العراقية، هل لكم ان تعطونا فكرة عن ماذا يجول داخل دائرة تفكيركم في تشييد اللوحة الفنية عبر التكوين واللون، هل هي لغرض استعراض تحليلي للوحاتكم، وهل بالإمكان الإجابة عن مدى مصداقية طروحاتكم اللونية التي أجدها تتنتصب على قمة أعلى مجدها القيمي والتكويني واللوني، هل هذه جل المعطيات التي ترتكزون عليها في بنائية اللوحة التشكلية، ام هناك ثمة تساؤلات فلسفية تترجمونها عبر نتاجاتكم اللونية والتكوينة؟

- سؤالك محير فهو مجموعة اسئلة في سؤال، وفيه كلام كبير لا استطيع تحمله . فانا لازلت صغيراً في الفن العراقي الكبير اما الذاكرة فهي متروكة للاجيال، اما مايجول من افكار فنية عبر التكوين واللون . فهذا لب الحديث، فحقيقة لا اعرف مايجول لتشييد اللوحة لاني ما ان استطيع ان اسس لمنطق بنائي حتى تصبح التكوينات مدركة وبالتالي لاتشكل جديد ما؟ فهي على راي استاذي الكبير د. بلاسم، هي مجموعة المعارف من خلال الدرس الاكاديمي . نحن نعمل نحن ننمي مهارتنا الفنية من خلال التجريب التقني فضلاً عن الاطلاع والمشاهدة لما يدور من حولنا ومحاولة الايغال بالتفكير في محاولة لرسم رؤيتنا العقلية متسلحين بالخبرة الزمنية، كل ذلك اعتقد سيكون كفيلاً بتاسيس اللوحة بتكويناتها والوانها بعيداً عن ما هو قصدي . فانا المتلقي الاول لعملي الفني لذا يجب ان يثير اعجابي والا سوف يكون عملاً تقليدياً كنت قد رايته من قبل في مكان ما، حتى لو كان في مخيلتي او في احلامي . يجب ان يكون عملاً اسرع من طريقة تفكيري او اسرع من قدرتي على التخيل . قد يكون موجوداً في مكان ما، لاانكر هذا لان الفن بصورة عامة قائم على مبدأ التأثير والتأثر وهذا ليس بعيب، فالعمل يجب ان اكون اول المعجبين به، فأنا ارسم بطريقة تجريدية واحاول الابتعاد كلياً عن التشخيص وحتى العلامات والرموز التي استخدمها لغرض اعطاء هوية عراقية احاول اخفائها في ثنايا اللوحة كي احافظ على الوقوف على اعتاب مايقف عليه الفن في العالم اليوم من خلال صورته التجريدية ذات الخطاب الحداثي والذي يشكل لغة العالم المشتركة في نقل صورتنا العراقية التي لاتنفك ان تكون جزءاً من هذا العالم المتحضر.

 

* هل للمتلقي في تقديركم، دور فاعل في فهم طروحاتكم الفنية، من خلال ذاكرتكم النتاجية الفنية، اخذين بالاعتبار، بان هناك ثمة تفاوت في عملية الاستجابة في التلقي، ما بين تشاركية الفهم لدى جمهرة النخبة الفنية التخصصية، وما بين المتلقي العادي؟

- نحن أمام خيارين، اما نخاطب متلقي النخبة او المتلقي العادي (كما اسميته)  فالمشروع الثقافي يشكل العمود الفقري لتحضر الامم، وهذا لايمكن الاتيان به في ليلة وضحاها، هو تشكيل تراكم الثقافة عبر الاجيال والعصور وعملية بنائها وتحولاتها ليست بالامر اليسير، فهو مشروع (جماعي- تاريخي – اجتماعي – سياسي ) ولا اجزم بالقول ان شخصاً واحداً كان مسؤولاً عن هذه التحولات الثقافية عبر التاريخ .

اما الفنان لايمتلك الحجم الزمني الكافي كي يضع مشروعه الفني ليحدث هذا التغيير ان كانت البداية من الصفر . فبنضوج مشروعه الفني يكون قد وصل الى نهاية عمره مثلاً، ناهيك عن الزمن الذي يستهلكه هو في تجربته .

اعتقد ان الفنان لايخاطب النخبة بل يخاطب المستقبل فكيف بك ان تخاطب مادون النخبة . فالحركة الثقافية ( الفنية) تسير وعلى الاخرين اللحاق بها .

وهذا يتطلب بناء برامج تعليمية اولها يبدأ من تلاميذ المدارس الابتدائية . وكما قيل .. الإنسان يحتاج ...

(الغذاء لتغذية الجسد، والقراءة لتغذية العقل، والفن لتغذية الروح ).

* هل لكم .. بكلمة أخيرة دكتور عمر المطلبي، وأشكركم على تلك الحفاوة الراقية التي فاحت من جذوا فنان عراقي أصيل،  ينتمي لهذه التربة العراقية المعطاء، وتصدر من بواتق  عقل فني تثوري وتغييري  راق ٍ، وفكر أكاديمي نير، وأرجو ان لم أكن ضيفا ثقيلا عليكم؟

- أتمنى لجميع العراقيين الخير فنحن شعب يمتلك القدرة على التحول والنهوض . وملئ بالطاقات الابداعية، لانك ما ان تحترم الآخر حتى تكون قادراً على بناء مستقبل حضاري واللحاق بركب التطور التكنولوجي . واتمنى  الاهتمام بمادتي التربية الفنية والتربية الرياضية في المدارس العراقية . لان الاولى تبني الحس والثانية تبني الجسد، ومن ثم يبدأ النتاج الانساني .

اشكر لك سعة صدرك . وتحمل عناء الانتظار .

 

قبل أن أغادره .. وقف الدكتور عمر المطلبي، رئيس قسم التربية الفنية، في كلية التربية الأساسية / الجامعة المستنصرية، وأستاذ مادة (فلسفة الفن) وهو يصافحني بحرارةٍ .. بينما راحت عيناه .. تُبصرُ بعيداً .. صوب ملاذاته .. وفضاءاته الفنية المتخمة بالرؤى .. وقد سَرّحَ مخياله الفني الجمالي ّالنبيل .. داخل منظومة تكويناته اللونية .. التي سيوزعها بعناية، ودراية أكاديمية .. فنية باهرة .. فوق سطوح لوحاته .. في معارضه الفنية القادمة ...

وَدَعَني د. عمر المطلبي .. بابتسامه تَنم ُ عن عراقيته الباذخة النبل .. وحفاوة رائعة كأنها تطلع من رحم الأرض .. لتستظل تحت ظل نخل العراق البهيّ .. كان يوما ً حافلا ً .. بجلِ ألوانِ المعرفةِ، والفلسفة، وملامح الوعي، والإدراك الفني،  والإبحار في معالم الفن التشكيلي العراقي الرحب .. المعطاء .. الخلاق .. من خلال الأنموذج الرائع الباهر.. الفنان التشكيلي العراقي د. عمر المطلبي .. المشتغل على الدوام باصطياد اللحظة .. ليوزعها الى تكوينات ٍ لونيةٍ بصريةٍ .. فوق ملامح سطوح لوحاته .. الباهرة الجمال .   

 

سعدي عبد الكريم / كاتب وناقد

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2085 الأثنين 09 / 04 / 2012)

في المثقف اليوم