حوارات عامة

حوار حول: أزمة الخطاب الدعوي وخطأ ربط الشريعة بالسياسة

عصمت نصارأجرى هذا الحوار معي الأستاذ صابر رمضان فرأينا من الفائدة أن نطلع قارئ "المثقف" عليه: فقال:

الدكتور عصمت حسين نصار أستاذ الفلسفة الإسلامية والفكر العربى الحديث بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة فرع الخرطوم، أحد المفكرين القلائل الذين أثروا الحياة الثقافية والإسلامية بكتاباتهم العلمية والبحثية، وهو عضو الجمعية الفلسفية المصرية والجمعية التاريخية المصرية والمجلس الأعلى للثقافة، وهو محكم أكاديمي فى العديد من الدوريات واللجان العلمية للمجلس الأعلى للجامعات، أيضاً حرر الموسوعة الفلسفية وموسوعة الأخلاق بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وهو عضو الجمعية الدولية للمكفوفين الأكاديميين بإسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية وعضو لجنة مشروع إعادة إصدار كتب التراث فى الفكر الإسلامي الحديث بمكتبة الإسكندرية، من مؤلفاته «الأبعاد التنويرية للفلسفة الرشدية فى الفكر العربى الحديث»، و«اتجاهات فلسفية فى بنية الثقافة الإسلامية».

قام بدراسة وتحقيق الأعمال الكاملة للشيخ مصطفى عبدالرازق، كما قام بتأليف «إمام المستنيرين الشيخ حسن العطار وبواعث النهضة المصرية فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر»، و«ثقافتنا العربية بين الإيمان والإلحاد» و«حقيقة الأصولية الإسلامية فى فكر الشيخ عبد المتعال الصعيدي» و«الخطاب الديني والمشروع العلماني وجهان لعملة زائفة» و «الروحيّة الحديثة فى الثقافتين الشرقية والغربية» و«الصراع الثقافي والحوار الحضارى فى فلسفة محمد إقبال» و«رحلة العودة إلى الأمام» و« من التقليد إلى التبديد .. رهانات العقل العربي» بالإضافة إلى مئات المقالات والأبحاث العلمية فى الصحف والمجلات المصرية والعربية، بالإضافة إلى أبحاثه فى الدوريات الأجنبية، «الوفد» التقت به فكان هذا الحوار.

- بداية لماذا ترهلت الأمة الإسلامية وتخلفت عن دورها الحضارى بالرغم من أن القرآن والسنة بين يديها؟

- لأنه لم يعد هناك حسن قراءة وفهم للقرآن وصحيح السنة، هذا الدستور موجود ولكن ليست هناك عقول تطبق وأذهان تعي ودعاة ينشرون الدعوة، كما كانت على سذاجتها الأولى أو كما أوحى بها إلى المصطفى.

- بالتأكيد الخطاب الفلسفى يلعب دوراً رائداً فى مواجهة الفكر المتشدد والمغلوط حول المفاهيم الإسلامية الرصينة .. نود إلقاء الضوء على هذا الدور؟

- التفكير الفلسفى هو حامٍل للاستقامة فى كل المفاهيم وكل الأفكار، وهو مقوم جيد لكل ما يعلق بالذهن عن طريق المناهج، فبالمنهج التحليلي والنقدي والمنهج المقارن يمكننا أن نزن الأفكار ونحللها ثم نعيد ترتيبها، ثم نراجعها، حتى نصل إلى ما نطلق عليه الإقناع بالحقيقة، والاقتناع بالحقيقة، فالفلسفة على مر تاريخها هى الصديق الذى لا يضل الفكر وإنْ قيل أن الفلسفة أحياناً تبدو على أنها سبيل للجنوح أو للجموح، هذا إذا ما فهمت الفلسفة خطأ، شأنها شأن معظم المفاهيم.

- لماذا - فى رأيك - أغلب نظريات الوعى تأتى من الفلسفة والأديان؟

- لأن الفيلسوف هو عصارة إبداعات الجنس البشرى، والدين هو صوت الله، صوت الحقيقة، فإذا ما قلنا أن الفيلسوف هو أكثر من لديه القدرة على استلهام الحقائق الإلهية أو الحقائق الربانية أو الحقائق المطلقة، فإن الأنبياء كذلك والفرق بين الفيلسوف والنبي أن الفيلسوف يمكنه أن يصل إلى الحقيقة عن طريق التأمل الذهني، والنبي يصل إلى الحقيقة عن طريق الوحى.

- هل نحن فى حاجة إلى تجديد الخطاب الديني بالمعنى الاصطلاحي أم أننا بحاجة إلى خطابات جديدة تنطلق من الأفكار وعلاقتها بالواقع لا من الماضي؟

- لدينا خطاب ديني موجود بالفعل ولكنه يحتاج إلى تطهير أو إحياء أو تقويم، الخطاب الديني كما قدمه لنا معظم المصلحين المسلمين بداية من حسن العطار إلى عبد المتعال الصعيدي، كل أولئك قدموا الخطاب الديني تقديما يليق بالمفهوم الصحيح للإسلام، ولكن ما حدث، أهمل هذا الخطاب أو شوه أو طمس أو ذهبت قوة متعمدة على محوه، أو تضليل أصحابه عن ذلك الخطاب الذى هو جدير باتباعه.

- ما تقييمك لجهود الأزهر الشريف فى تجديد الخطاب الديني؟

- الأزهر الشريف هو الذى أنجب معظم المصلحين أو المفكرين الإصلاحيين فى العالم العربى والإسلامي، لكن الموجودين الآن ضعفاء لا يستطيعون حمل الرسالة أو لا يستطيعون التعبير عن حقيقة الاجتهاد وحقيقة الجهاد الإسلامي بالمعنى الصحيح، وهو مواجهة الواقع ومشكلاته برؤية تجمع بين المنقول والمعقول، فنحن نجد داخل الأزهر سلفيين وإخوان مسلمين وتقليديين جامدين، والقليل هم الذين يمكن أن نقول عليهم بقايا الفرق الإصلاحية أو بقايا الأصوات الإصلاحية وأولئك صوتهم مطموس، أو لا نكاد نسمعه.

- هناك ظاهرتان راسختان فى أوروبا .. تطرف إسلامي وتطرف ضد الإسلام .. الأصولية والإسلاموفوبيا .. كيف ترى هذا الثنائي الخطير؟

- كتبت كتاباً عن «حقيقة الأصولية» وقلت إن الأصولية الإسلامية بعيدة نهائيا عن مصطلحين هما الراديكالية والفانتمنتليزم، الراديكالية هى الإيضاحية، والفانتمنتليزم، هى الجمود والتخلف والتشدد والعنف تجاه الآخر وإنكار الأغيار تماما، لكن الإسلام منذ ظهوره على يد المصطفى عليه الصلاة والسلام، أبعد ما يكون عن ذلك، كان متسامحا إلى أقصى درجة، كان متعاونا مع الأغيار حتى وإن خالفوه، كان يبر من يختلف عنه فى العقيدة، إذ لم يكن هناك اعتداء من جانبه لم يبدأ بالإساءة أبدا، كان يستفيد من علوم الأغيار، باختلاف الجنس واللون والعصبية والدين، وكل هذه الصفات أبعد ما تكون عن مصطلح الأصولية الذى يفسرونه الآن، أو يستخدمونه الآن، أما الإسلام فهو بعيد كل البعد عن الجمود الأنانية أو العنف أو غيره.

- إذا أردت تعريفا للتطرف الديني وأهم أسبابه ودوافعه من جهة نظرك؟

- لا أستطيع أن أقول إن التطرف له سبب واحد، ولكن من الممكن القول بأسباب داخلية بداية من ضعف الرأى العام التابع وإهمال الرأى العام القائد، وجنوح بعض الشباب، وجموح بعضهم، الأسباب الخارجية أن المسلمين هجروا العلم وتمسكوا بالظاهر دون البواطن، وأهملوا القيم الحقيقية للمقاصد الشرعية، وراحوا يتحدثون حول لغو النص، فهناك قضايا يجب التركيز عليها مثل الإسلام فى باكستان أو إندونيسيا شرق آسيا بدأوا بالفعل يفعلون كل الطاقات من أجل العلم والعمل، وهذا هو الإسلام الحقيقي العمل بإخلاص والعلم النافع والأخلاقيات التى يجب أن تكون نقطة الانطلاق لكل شئ.

- هل تؤمن بنظرية المؤامرة من العالم الغربي ضد العالم الإسلامي وما حجتك فى ذلك، وكيف ترصد موقف أمريكا من العالم الإسلامي؟

- أؤمن بنظرية التآمر، ولكن ليس ك «كيد النساء» بمعنى أن الغرب لا ينتظر أنك تفعل فعلا ثم يجعلك تفعل عكسه، الغرب يريدك رجلا مريضا، لا معدوما أو يقضى عليك تماما أو يمنحك القدرة على النهوض، فنحن بالنسبة للغرب مورد فى كل شئ، مورد فى الخامات الطبيعية، مورد فى القوة البشرية التى من الممكن أن تتاجر معها، تستهلك، مورد فى المواقع الاستراتيجية، فهذه الثروة لا يمكن أن يفرط فيها، فإذا ما تقدم العالم الإسلامي، أين الحرب، أين السوق، أين الموارد، ومن هنا يريد الغرب أن يحاصرك فى هذه الدائرة، دائرة الضعف، فما من أزمات حدثت فى العالم العربى أو إخفاقات إلا وراءها القوى الاستعمارية المعروفة، بداية من ضعف الدولة العثمانية، فسنجد أن أسباب انهيارها جزء منه سياسة الدولة العثمانية الخاطئة والجزء الأكبر تآمر إنجلترا وفرنسا وروسيا على تلك الدولة المتماسكة أو الإمبراطورية أو السلطنة المترامية الأطراف، فبدأوا يخططون ويفكرون ما السبب فى اجتماع أو علة تآلف البلدان الإسلامية فوجدوا أنه الدين، فبدأ العالم الغربى فيما يطلق عليه «الاستشراق الديني» أو الاستشراق العقدي.

- وكيف اعتمد الغرب «الاستشراق الديني أو العقدي» منهجاً له؟

- بدأ يشكك فى العقيدة ويسفه من تاريخ الخلفاء وينعت الصحابة، ومن قبلهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بصفات لا تليق، مرورا بأنه يهون من دور المسلمين فى الحضارة الإنسانية، ثم بعد ذلك يبدأ يخترع أو ما نطلق عليه يبتدع أدياناً وضعية تكاد تكون هادمة للإسلام مثل البابية، البهائية، القاديانية، الدروز، وحالياً الإخوان وما يطلقون على أنفسهم «السلفية الجهادية» كل هذه الجهات بالفعل هى هادمة للإسلام، فالإسلام ليس به مذاهب، الإسلام ليس به جماعات، فالفُرقة تكاد تكون هى المعول الأول لهدم المسلمين، الرؤى المتباينة فى الفقه كانت لصالح الإسلام وليس عكسه، فلم نجد أبدا صراعًا بين الشافعية والحنابلة كما كان الصراع بين البروتستانت والكاثوليك، أو عداوة الكاثوليك للأرثوذكس، فليس لدينا هذا، فالفقه مرن، والفقهاء الأربعة من الممكن أن تقول عليهم تجاوزا كانوا فى جيلٍ واحدٍ، فالفارق بينهم لم يكن مئات السنين، فبعضهم كان معاصرا للآخر مثل الشافعية والحنابلة، والحنفية والمالكية، فلم نسمع أو نقرأ أن أيا منهم كفَر أخاه، أو نعته بأنه جاهل، بل نجد الشافعي يقول: «كلامي صواب يحتمل الخطأ وكلام غيرى خطأ يحتمل الصواب»،

وأبو حنيفة نجده عندما ذهب مسجد مالك صلى بالهيئة التى يرضاها مالك فى الصلاة، وهو من أيد: «لا يُفتى ومالك فى المدينة»، ومالك قال عن أبى حنيفة: «إنه من أدق المجتهدين أو من أبرأ المجتهدين فى زمانه» ذلك هو الإسلام ولم يكن أبدا مجالا للإقصاء أو منبرا للشتم، أو للتلفظ بألفاظ يأباها الأقزام الأسافل، نجد ذلك فى النقد، فالإسلام لم يعتد النقد القبيح أو الفاحش، الإسلام لم يكن عنيفًا حتى وهو قلة، فالنبي كان فى مقدوره أن يصنع سرايا أو خلايا، تغتال أبو جهل أو أبو لهب وهما أكثر أعدائه، فقد كان لديه الكثير من الفدائيين، لأنه لا يتصور أن تكون العقيدة الإسلامية مبنية على الاغتيالات والغدر لكن الآن نجد أن منطق الاغتيالات والتصفية هو السائد بين الفرق المتناحرة حول الإسلام، انظر إلى سوريا وما نطلق عليه سوريا الديمقراطية، والسوريين أنصار السنة، والإخوان السوريين نجد مهازل، مذابح، استحلالا، إهدارا للمال والعرض، سلوك لا يمكن أن يفعله إلا أصحاب منطق التتاريين فى بداية صدامهم بالحضارة الإسلامية، فالغرب زرع فى الفكر الإسلامي هاتيك الفرق والديانات المزورة، فماذا حدث من المسلمين هل تأنوا هل تفهموا؟ لا، بل ساروا سير القطيع وآمنوا بما لا يجب التسليم بصحته إلا بعد فحص.

والنقطة الثانية من الغرب أراد أن يستقطب كل العقول المستنيرة فى الشرق الإسلامي، إما أن يستقطبها عن طريق الإغراء بالمال أو الاضطهاد أو التصفية الجسدية؛ ليتخلص من الزعامات التى يمكن أن تعيد المسلمين إلى سابق عهدهم، فمعظم مؤسسات الدولة فى الأقطار العربية تجد فيها من استباح أن يفسد، ولن نقول إن هذا الفساد ممنهج حتى أقول إن الغرب له أساس، والغرب يبارك هذا الفساد أو يشجعه، ولا يقمع إلا من يخالفه، عن طريق الحملات الادعائية عليه مثل دعوى الحريات وحقوق الإنسان، الديكتاتورية، ويبدأ المستعمر يغازل التيارات المعادية والمخالفة لكى يحدث هناك عدم استقرار فى هذه الدولة وخير مثال على ذلك حروب الجيل الثالث والرابع والخامس، فهى حرب ادعائية وهذه الحرب بالفعل أثبتت أنها أقوى بكثير من حرب الجيوش، فما يفعله الادعاء أو الإعلام الغربى تجاه العالم الإسلامي أكثر من حرب داعش.

- كثير من الخبراء والاستراتيجيين يعتبرون أن «داعش» أخطبوط استخباراتي دولي بتمويل صهيوني لتفكيك العالم العربى والإسلامي للقضاء عليه فما رأيك؟

- مثلما قلت العالم الغربى لا يتحرك بين ليلة وضحاها، تضليل العالم الإسلامي أو اصطناع عنف فيه كان منذ العصر العباسي، ثم القرامطة، ثم الحشاشين الذين أرادوا اغتيال صلاح الدين الأيوبي أثناء الدولة الأيوبية، ثم نجد بعد ذلك السلفية المحدثة التى نطلق عليها «الدعوة الوهابية» ثم نجد «المهدية» المنحرفة التى كانت توجد فى اليمن ثم الإخوان ثم السلفية الجهادية، كل هذه الفرق ـ كما قلت ـ وليدة هذا الاستعمار، فكان من اليسير جدا أن يجمع كل المتطرفين فى العالم ويتم تجييشهم، فقد جيشوا «القاعدة»، فمن الذى كان يمد القاعدة؟ ومن كان الذى يمد الوهابيين قبلهم، الإنجليز، فهم الذين صنعوا الوهابيين، ومن الذى مدّ الإخوان بالمال والاستراتيجيات والأفكار، الإنجليز والماسونية والأمريكان والمخابرات الألمانية، ومن الذى كان يمد الجهاديين الإخوان؟ وهذا هو الاتجاه العنيف «المسلح» إذن أبحث عمن يدعم هذه الفرق تعلم أن وراءها الغرب، الغرب لا يكيد للإسلام بعين واحدة أو بذراع واحدة، بل يكيد له بأكثر من ذراع، من الذى يفسد الشباب مثل «عبدة الشيطان» ومن الذى يبدع فيهم هذه الأفكار، «الإيموز» و«الشذوذ» الموجود فى كثير من الأقطار الإسلامية، نجد مثلا فى منطقة الهند وباكستان والشيشان إلى آخره، نجد عصبيات ما أنزل الله بها من سلطان، وانحرافات، من الذى يشجع هذه الانحرافات مثل حركة طالبان، فى البداية كانت أمريكا حتى تطرد الروس الموجودين هناك، وبعد ذلك تبدأ أمريكا فى تأسيس القاعدة، وبعد أن انتهت القاعدة من الحرب الروسية، بدأت أمريكا تقضى على القاعدة لتستنسخ منها فريقا آخر ألا وهو داعش، وهكذا كانت الدائرة تدور، من الذى يمنح جوائز التفوق العلمي والأدبي وجوائز نوبل ومن الذى ابتكر ما نطلق عليه «صناعة النجوم» المخابرات الإنجليزية والأمريكية، الذين يسبون النبى ويقدحون فى القرآن ويشككون فى جدوى التمسك بالعقيدة، داخل هذا البلد، فمن الذى آوى سلمان رشدي صاحب كتاب «آيات شيطانية» وقال عنه مفكر إلى آخره، هى انجلترا، نكاية فى الإسلام، فالغرب لا يعادينا ولا يتآمر علينا من أجل إضعافنا فقط بل من أجل أن يسيّر مصالحه، فهو يريد أن يكون العالم العربى والإسلامي مستهلكا فقط.

- هناك من المفكرين من يراهن على أن العالم العربى والإسلامي سيشهد رغم كل هذا التشدد والعنف والتخلف آجلا أم عاجلا ولادة عصر التنوير مثلما شهدته أوروبا قبل ثلاثة قرون هل أنت مع هذا الطرح التفاؤلي؟

- البذرة موجودة, ففي العالم العربى الإسلامي عقول تستطيع أن تكون، ولديك موارد, وعزائم ولديك الباعث الذى يمكن أن ترتكن عليه لتصل إلى ما تريد, فليس لديك خصومات حقيقية, مثلما يوجد فى الغرب, رغم ذلك فأنت عاجز تماما عن الوحدة أو أن يكون فى كيان واحد, مثل الاتحاد الأوروبي مثلاً, لأنهم زرعوا فينا ما نطلق عليه «الارتياب» و«الأنانية» فالعالم الإسلامي أو الفكر الإسلامي الصحيح ضد هذين العنصرين, فالله عز وجل يقول «واعتصموا بحبل الله جميعا», فنحن لدينا بذور الوحدة وما يمكنه أن تضع أسسا لدولة أو إمبراطورية عظيمة موجودة, وحقق بالفعل, ففي العصر العباسي كنا سادة العالم، وهذا يعنى

أن النموذج الإسلامي المرجو له تجربة قبل ذلك، فإذا لخصنا كل المشروعات الإسلامية للنهوض, أولا فتح باب الإجهاد, الرجوع بالإسلام إلى سذاجته الأولى، والسذاجة هنا تعنى البساطة، فهناك حرية فى الثقافة العامة، بالإضافة إلى الاجتهاد الذى يستطيع أن يحل لك المشكلات اليومية, العلم، ثم العلم والعمل، ثم الإتقان، الإخلاص, فكل القيم التى ينادى بها الإسلام أخلاقية فى الأصل وعملية فى المرتبة الثانية، فلو اتخذنا من القاعدتين قاعدة القيم الأخلاقية والعلم سبيل لنهوضك سوف يكون.

- هناك من يرى أن الحضارة الغربية تحمل فى أحشائها عوامل فنائها بسبب المادية المفرطة بها أو خوائها الروحي هل ترى أن هذا القول يتأسس وفق موضوعية أم أنه يندرج تحت الأمنيات؟

- من قال هذا الكلام هو أبو الحسن الندوي وغيره من المفكرين اللاحقين، وهذا الكلام صحيح ولكن من حين لآخر يحاول المجتمع الغربى أن ينذر الدويلات أو الكيانات الغربية بأن هناك خطرا، فعندما يطلقون هذه المقولة مع الحظر الكل يتجمع ويتناسى المشكلات الداخلية، لكن الغرب ملئ بالمشكلات الداخلية ولكنه حريص كل الحرص على عدم الفناء وعلى التوحد أمام العدو، بعد أن قالوا أن العدو لهم هو روسيا وبدأوا يجيِّشون العالم الغربى ضد روسيا بعد ذلك أصبحت الصين، ثم وجدوا أن الإسلام دخل أوروبا فبدأوا يقولون نحن لسنا ضد جنس ولكن ضد كيان اسمه الإسلام وهو المارد الأخضر وهو الذى سيفنى كل الحضارات وتذكروا الفتوحات الإسلامية التى وصلت إلى فتح القسطنطينية وقضت على الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، ولذلك تخوفوا من الإسلام.

- نعلم مدى اهتمامك بدراسة فترات النهضة المصرية على مدار القرن السابق فما سمات هذه الفترة؟ ولماذا انحسرت مشاريع النهضة فى رأيك؟

- النهضة المصرية كانت تسير بخطوات قوية جدا حتى عام 1940 ثم جاءت الحرب العالمية عطلت مرحلة النهوض ثم جاءت ثورة يوليو، غيرت الفكر الليبرالي إلى الفكر الاشتراكي فعطل ذلك عجلة النهوض، بعد ذلك حدثت نكسة 67، التى أماتت «الطبقة الوسطى» لأن الطبقة الوسطى فى مصر هى التى كانت تحرك العقل الجمعى المصرى فحتى الآن لم نفق من نكسة 67 فما زالت الطبقة الوسطى متهلهلة، وبالعكس أصبحت عالة على مصر، ولو نظرنا إلى معظم المؤسسات التى يتغلغل فيها الفساد لوجدنا أن ذلك يعود إلى أمرين ضعف الأخلاق وضعف الولاء، وهما مركب نتيجة انعدام الوعى واليأس والإحساس بالدونية، فهذا الاضمحلال الأخلاقى والعلمي فى الطبقة الوسطى هو الذى أهلكها وقضى عليها، فإذا ما أردنا لمصر نهضة الآن يجب تمديد قيم الطبقة الوسطى، ويجب أن تكون نقية وفاعلة وعاملة، بالإضافة إلى غرس روح التفاؤل والعمل فى نفوس الشباب، أيضاً الطبقة الارستقراطية يشوبها بعض الفساد، لأنها مقلدة إما مقلدة لأيديولوجيات غريبة عنها وعندها جحود للمجتمع المصرى ويتنكر لواقعه ومشكلاته أو الانتماء للرأسمالية المتوحشة.

- الإسلام وحده من بين الديانات توجه له سهام الغرب متهمة إياه بالإرهاب فلماذا فى رأيك؟

- السبب الأساسي أننا أهملنا حقيقة الدين من الداخل، أما من الخارج فهم الذين اصطنعوا فينا الإرهاب، أضف إلى هذا وذاك أن هناك بعض السمات الذاتية فى الأصول العربية الإسلامية، الصراعات على الحكم، سنجدها من بعد الخلافة الثانية منذ عثمان بن عفان «عصر الفتنة الكبرى»، أى خلافات كانت تحدث يجردون إليها السيوف، وعندما جاء على بن أبى طالب للخلافة حملوه دم عثمان، وابتدأ المسلمون ينشقون إلى قسمين.. إلخ، هذا الانشقاق المسلح ولم يعتد الفكر العربى القديم فن التفاوض، فى حين أن النبي صلى الله عليه وسلم تفاوض وقام بعقد معاهدة ودستور للمدينة، فلم يقدم الحرب ولكن بطبيعة العرب القبلية التى لا تعرف إلا النذال لفض المنازعات كانت ضمن السمات التى دفعت الغرب أن يتهم الإسلام بذلك ولكنها هى عادة عربية، أو خصلة قبلية حاربها الإسلام نفسه، فالإسلام حارب العنف ولكن ألصق به، لأن العرب هم الذين نشروا الإسلام.

- إذن هل ترى أن العالم الإسلامي مطالب بتحسين صورته فى المجتمع الغربى أم أنه بحاجة إلى إيصال صورته الحقيقية التى أطرها القرآن والسنة النبوية؟

- الخطاب الدعوى فى أزمة، لأن الغرب لم ير من الإسلام إلا من يحمل سيفًا أو بندقية أو من يحمل متفجرات تجاه الأغيار، إما تجاه الأغيار فى العرق والحضارة، أو الأغيار فى الملة، بالرغم من هذه الحوادث كانت قليلة بالنسبة لعنف المجتمع الغربى أو الحروب التى خاضها العالم الغربى مع بعضهم البعض، فحروبهم كانت أكثر شراسة من العالم الإسلامي، لكن التاريخ الحديث يثبت أن الخطاب الإسلامي فى أزمة بسبب المتطرفين والجانحين، فهناك تنظيم قاعدة، داعش، إخوان مسلمون، جماعات إسلامية، وتخلف.

- ماذا عن تصوركم لشكل الخطاب الإسلامي المعاصر الذى يجمع بين مقاصد الشريعة ويحقق مصالح العباد؟

- نفس الغينة «الشجرة» «الملتفة» ما نطلق عليه الإسلام السياسي، والسياسة الحقيقية الشرعية، فالسياسة الحقيقية الشرعية هى مدنية، وأنا مسئول عن هذا الكلام تماما، من ربط بين الشريعة وبين السياسة مخطئ، لكن من ربط بين المقاصد الشرعية والسياسة محق، فلو فصلنا بين الاثنين إن شاء الله ستكون خطوة لعودة الخطاب الإسلامي إلى سماحته، الخطوة الثانية: عودة المواطن المسلم إلى ما نطلق عليه التسامح والرحمة والألفة والمحبة والتآخي، كل القيم التى افتقدناها من عصر النبوة يجب أن تعود، إذا ما عادت عاد الخطاب الإسلامي إلى سابق عهده.

- هل تعتقد أن الحرص على التراث وتقديس السلف هو السبب وراء ما نراه من تناقضات بين المسلمين حتى إنه فى الوقت الذى يتهافتون فيه على منتجات العقل الغربى المادية نراهم يعرضون عن تقبل المنتج الفكري لهذا العقل؟

- أعارض تماما تقديس السلف لكنني أحترم السلف وأعرض ما خلّفه على مائدة النقد ومائدة الانتقاء، هم اجتهدوا وفهموا النص ولنا أن نفهم النص ونجتهد، تبعا لكل عصر، فالأصولية هى التى تحترم الزمان والمكان والتغيرات وتحترم احتياجات الواقع وفى الوقت نفسه تؤمن بالوسطية، وهذه هى الثلاثة التى تقوم عليها الأصولية الإسلامية أو الفكر الإسلامي، وفهم الإسلام على طبيعته «سجيته» فنحن الآن نتكلف إلى حد أن البيت الإسلامي فسد، فعلينا أن نعيد المجتمع الإسلامي إلى سابق عهده.

- كيف ترى أطروحة عالم السياسة الأمريكي صمويل هنتجتون حول صدام الحضارات؟

- عندما وضع «هنتنجتون» أطروحته كان يريد أن يضع الإسلام فى دائرة الاتهام، ولكن أقول له لمَ لا نفكر فى حوار الثقافات، لماذا تقدمون الصدام ولا تقدمون الحوار، فالغرب يكره دائما وأبدًا أن يحاور من هو دونه، فهو يعتبر أن العالم الإسلامي عالم غير جدير بالتطور بل يجب أن يؤمر، فهو يتخيل أن العالم الإسلامي سوف يثور يوما ما على هذه السلطة الظالمة، ويتصادم معها ويحدث أن الغرب سوف يقضى عليه تماما، ماذا فعل الغرب لتركيا التى دخلت على شعب آمن لتقتله وتحتله، فهو الذى يخطط له ثم يشجب، فالغرب هو الذى خلق صدام الحضارات، فهو الذى يدفع العالم الإسلامي للتصادم معه، فلم يكن الإسلام يريد الصدام مع أى حضارة بدليل أنه فى عصر الاضطهاد الغربى كان المضطهدون يلجأون إلى العالم الإسلامي للاحتماء بهم، فى حين أن الشعوب الإسلامية ذاقت الأمرين من دخول العالم الغربى لها، فلم يشعر أى بلدٍ دخله الإسلام بالاضطهاد إلا فى العصر التركى، لأن الأتراك بطبيعتهم أنانيون ويميلون إلى العنف ولديهم أنفة حتى مع المسلمين الآخرين، فالجنس التوراتى متعالٍ بطبعه ولا يرى أن المصريين أو السوريين أو المغاربة لهم الحق فى العيش جنبا إلى جنب، إذن الإسلام برئ من الادعاءات التى يلصقها الغرب به.

- كيف ترى خطورة أطماع المشروع الفارسي فى المنطقة العربية السنية؟

- خطر، لأنه مشروع مسيس وليس مشروعا عقديا، بمعنى أن الجنس الفارسي أو العرق الفارسي هو الذى يحرك أو يدفع الإيرانيين لاحتلال أو القضاء على العرب، وهذا فن قديم الأزل، من بداية الحروب أو الهيمنة والسيطرة على الجزيرة، فالفرس لم ينسوا أبدا أن العرب هم الذين قضوا على مملكتهم، فهم يريدون استرداد سلطانهم على هذه البقعة أو هذا الإقليم، ينظرون إلى العرب على أنهم أجلاف، أغبياء، لا ينتجون، أما العقلية الفارسية فلها حضارة وتكثر الأقاويل أن الحضارة الإسلامية لم تبن على أكتاف الحضارة الفارسية، وبعض بلدان الشرق الأدنى ولكن العرب لم ينتجوا شيئا ولم يصنعوا شيئا فى الحضارة، وبالتالي مطالبة إيران بحقها فى الهيمنة حق مشروع - من وجهة نظرهم - أما الشيعة فهى أكذوبة، أن «على» هو الذى كان يجب أن يخلف سيدنا محمد، وعند الغلاة يقولون إنه أحق بالرسالة، وأن ولايته أعلى كعبا من كعب النبوة، كل هذه الآراء مغالية وآراء بها شطط، أضف إلى ذلك لعن أبى بكر وعمرو وسب الصحابة ومعاداة السنة، كل هذه من ابتداعات أو بدع الخصومات بين الجنس الفارسي والجنس العربى.

- أخيراً .. ماذا عن مشروعكم الفكري الذى تود تحقيقه مستقبلا؟

- إحياء خطاب الإمام محمد عبده لأنه الأفضل وهو يتكون من خمسة شروط أساسية تحرير الفكر من قيد التقليد، فتح باب الاجتهاد، التواصل مع الأغيار للاستفادة من خبراتهم، تنقية أو إعادة الطبقة الوسطى إلى سابق عهدها، العمل ثم العمل ثم العمل من أجل الولاء والانتماء والانضواء للمجتمع الإسلامي الإنساني الحر.

 

د. عصمت نصار

 

 

 

في المثقف اليوم