مرايا فكرية

المثقف في حوار خاص مع الدكتور سامي عبد العال (5)

خاص بالمثقف: الحلقة الخامسة مع الدكتور سامي عبد العال، أستاذ الفلسفة في جامعة الزقازيق، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول آفاق الفكر الفلسفي، فأهلاً وسهلاً بهما:

***

حول فلسفة اللغة ومشكلات الهويات والثقافة (2)

س19- أ. مراد غريبي: هل الانسان العربي ضحية العقلانية العلمية التقنية أم أنه فقد مؤشرات الحاجات الحقيقية عن الزائفة، مما جعل الثقافة مندمجة مع المتعة في ظل الخطاب التجاري المعبر عن الأيديولوجيا داخل الثقافة كصناعةٍ لا كهوية متكاملةٍ؟

ج19- د. سامي عبد العال: اعتقد أنَّ كلمة (الضحية) جاءت في موضعها الثقافي المنتظر، ولكنها لا تخص هذا السؤال، ولا تخص فرداً بعينه. لقد باتت (الكلمة المفتاح) لفهم: كيف نفكر في حل مشكلاتنا المهمة، وبأية صيغة نقبل علاقاتنا بالقوى المؤثرة من حولنا؟؟

فالعالم العربي يرى نفسه مغلوباً على أمره طوال الوقت، وأنّه الطرف الأضعف في أية علاقةٍ مع قوى أخرى. وطالما ننظر إلى وضعنا بعين الضعيف مهيض الجناح، فلن نخرج من دائرة الشعور بالاضطهاد والتكالب علينا من كل حدبٍ وصوبٍ.

لقد ورد المشهد في التراث الديني بصيغة دالة:" تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلةُ على قصعتها"، أي نحن العرب قصعة طعام ليس إلاَّ، وهناك الأكلة الشرهون حولها ترقباً لالتهام الغنائم والثروات. فنحن مادة حيوية لإشباع الآخرين.. هكذا هو المشهد الغرائزي الواضح. أي نحن مأكولون لا محالة في بطون غيرنا، سنكون جزءاً من أجسامهم ومن معدتهم الهاضمة. وهذا معنى واضح لعمق الشعور بالتكالب علينا إلى أقصى درجة. والأخطر ثقافياً كما قال إدوارد سعيد ذات مرة: إنَّ الآخر في كل علاقة طرفها العرب هو من يؤثر فيهم بقوة، لدرجة كونه يرسم صورتهم عن أنفسهم، ولكن الأغرب أنْ يصدقونها ويسيرون وفقاً لما تعطيه من انطباعٍ ومعانٍ!!

تقريباً نحن على استعدادٍ لأنْ نكون ضحايا بألوان جديدة: نحن ضحايا العلوم والمعارف المتطورة، نحن ضحايا الفلسفات القارية والعالمية، نحن ضحايا الموضات والتقاليع الثقافية، نحن ضحايا مواقع التواصل الاجتماعي، نحن ضحايا الغرب المناوئ لنا دائماً، نحن ضحايا الإستعمار منذ العصر اليوناني إلى الآن، نحن ضحايا جنوب شرق آسياً، حين دهستنا الدول العظمى وصولاً إليه، نحن ضحايا أمريكا الشيطان الأكبر، نحن ضحايا الدولة الصهيونية، نحن ضحايا المنظمات الدولية، نحن ضحايا شركات كبرى تبيض وتفرِّخ لدينا ثم تذهب أرباحُها إلى أوروبا، نحن ضحايا الأعاصير والسيول، نحن ضحايا تحرك طبقات الأرض بين أوروبا وأسيا، وبين أوروبا وأفريقيا.. وأخيراً نحن ضحايا الأبالسة والجان نتيجة أول اتفاقية بينهم على سطح المريخ لإستهداف العرب!!

هل هناك قُوى أخرى مازلنا نتعلق بها كضحايا؟! متى سنكون نحن الفاعلون لا العكس؟! كيف نسلخ أنفسنا من قميص الضحية ولو افترضنا ذلك؟!

يحتاج دور الضحية إلى دراسة فلسفية أعمق في ثقافتنا العربية، وكنت أود طرح سؤاله عما قريب لجملة أسباب:

1- يمثل دور الضحية أقرب الأدوار الآمنة للتخلص من ضُغوط الحضارة والتاريخ.

2- يشكلّ الدور مُبرراً سحريّاً لإزاحة التراكم الثقافي حول علاقات القوى.

3- يضع هذا الدور ضحاياه أمام الجلاد بشكلٍّ متعادل، كأنَّ هناك قاضياً بينهما.

4- يحتوي هذا الدور على نوعٍ من القَصاص الذي يَشفي غليل الضحية مع أنه قد لا يكون صحيحاً.

5- يرسم صورةً خادعةً عن أسباب المشكلات ويهيلُ عليها التراب، فتظهر وتتكرر من جديد.

6- يصر طوال الوقت على إثارة الشعور بالذنب للطرف الأقوى وتصديره في الواجهةِ.

7- يُدمن دور الضحية حياكة الأعذار تلو الأعذار تنصلاً من المسئوليات والآثار المترتبة عليها مرةً واحدةً.

نتيجة ذلك، تمَّ الجري وراء هذا الدور السلبي، وأصبح أحد وسائل إدارة الأزمات، ولكن رغم هذا لسنا ضحايا للعقلانية التقنية قبل أنْ نكون نحن ضحايا أنفسنا. لأننا لم نتطور وتوقفنا عن مواكبة العالم حضارياً وعلمياً وتقنياً.. ماذا تبقى غير أنْ نكون ضحاياً غيرنا؟ هذا هروب للأمام بدفع الأزمات نحو الاتجاه الخطأ، كما أن العقلانية التقنية تنير العقول وتفتح آفاقاً جديدة، فتحول دون خضوع الإنسان لغيره وألَّا يكون ضحيةً لأحدٍ عكس الشائع.

أغلب الظن أنَّ لدينا بعض السلبيات وسط تحولات كبرى في جوهر الثقافة العالمية. هناك معالم فلسفية لم نأخذ بالنا منها. ونظراً لأننا في محيطنا العربي نمتلك خبرات التدهور والفوضى وغياب قواعد الحياة العمومية، لم نستطع فهم التحولات. فوجود المُتع والتسلية والترفيه في الثقافات أمر طبيعي مع انتشار ممارسات السعادة والبهجة خارج الأفراد. وهذا في الثقافة العالمية أمر مفهوم وطبيعي جداً، ولكنها متع تتسق مع الإنتاج والإبداع وتطوير مسار الحياة المشتركة. والدليل أن المتعة جزء من رؤى العالم والمجتمع كما هو موجود بكثافة في أوروبا وأمريكا وجنوب شرق آسيا.

ولكن المتعة لدينا نحن العرب أصبحت شيئاً آخر. إن المتعة كفكرة شيء رائع، ولم تعد بمعزل عن أنشطة الحياة المختلفة مثلها مثل أنشطة الثقافة الكونية، فالجماليات نسيج مؤثر في كافة نتاجات العولمة ومظاهر الإقتصاد التي عبرت الدول والمجتمعات. وإن لم تكن المتعة هذا الجانب الذي يغذي حواس الإنسان ومشاعره، فإنه سيعزف عن العمل، وسيكون كائناً ناقص الوجود. ولكن المعضلّة عندئذ: أية متعة هي المقصودة لدينا؟ وكيف تتحول إلى نزعة تدميرية؟ تحولت المتعة في مجتمعاتنا العربية إلى آلية استهلاكية خطيرة. بحيث أدمنا استنفاد ما لدينا من ثروات، سواء أكانت أموالاً أم قدرات أم طاقات على العمل. ولذلك ليس عيباً أنْ يكون هناك (جانب ممتع) في الأعمال الإنسانية، ولكن الخطورة أنْ يصبح غاية في ذاته.

وهذه هي مشكلة الصورة الذهنية عن مجتمعاتنا وقدرتها على الحياة والإسهام في الحضارة الكونية. والعجيب أننا مازلنا سائرين نحو الصورة الذهنية المرسومة بملء إرادتنا كما قال إدوارد سعيد، ولم يدفعنا أحد إلى هذا المصير سوى ما نسير إليه دون كوابح. والحاصل أننا عندما استسلمنا لتلقي منتجات الحضارة المعاصرة التي طغت فيها نزعات الاستهلاك، بحكم أن أبرز ما وفرته اقتصادياً هو فائض السلع وتنوعها، أصبحنا غير معنيين بالتميُز والتفوق. وحتى قد يقال: لماذا نتميز أصلاً، إذا كان كل شيء متاح في الأسواق؟! بدءاً من المواد البسيطة وحتى أعقد الأجهزة وأكثرها تقدماً وليس انتهاء بجسم الإنسان كقطع غيار بشري في منتجعات التجميل وتجديد الأجسام.

وانسحبت النزعة الاستهلاكية على الجوانب القيمية والرمزية من حياتنا، فإدمان الاستهلاك رسّخ لدى الإنسان العربي (فكرة التسليع بمعناها العام)، أي أخذ ينظر إلى أي شيء على كونه سلعة قابلة للبيع والشراء، مما أطفأ بريق وأهمية القيم والمبادئ والأصول. وغدت الأخيرة من بقايا الأشياء التي تمتلك أو ترمى جانباً. وحتى تحولت المعنويات إلى أشياء ماديةٍ رائجة، باختصار غدت القيم مجرد بضائع يبتاعها الإنسان ويشتريها وقتما يشاء. الأمر الذي انعكس على العلاقات الإنسانية وعلى رؤى العالم والحياة. وأكثر المجالات وضوحاً هو العلاقات مع الآخر، سواء بالتقليل من شأنه أو استخدامه بكل ما تعنى الكلمة من معنى!!

ليس خافياً على أحد السلوكيات العربية التي تجسد مشهداً كهذا، إذ بات مرئياً على صفحات المواقع ووسائل التواصل الاجتماعي من انتشار النزوع المادي الصرف وبيع البشر واستنزاف العقول واهدار الطاقات فيما لا يفيد مجتمعاتنا العربية، حتى ولو كان تحت بند العمل أو التسلية أو غيرهما. وبطبيعة الحال تُرك المجال إلى الايديولوجيات كي تعبر عن معطياتها عن طريق غرس ثقافة معينةٍ. فأخطر ما جرى أنْ تخفّت الاتجاهات والأيديولوجيات في مظاهر ثقافيةٍ وتقنيةٍ، بحيث تبدو كأنها تلقائيةً ولا غبار عليها بين الناس.

وقد تركت الأيديولوجيا بصمتها على النتاجات الثقافية التي اختبأت داخلها. ومن مكر الواقع أن الاثنتين (الثقافة والأيديولوجيا) تحولتا إلى ايديولوجيا السوق. أي اصبحت ايديولوجيا خادمة لعملية البيع والشراء على نطاق واسع. وإذا كان الزمن كفيلاً بمداراة العلاقة الخفية بين الثقافة والأيديولوجيا على نحو مؤقت، فهي علاقة لا تنتهي لأنها تأخذ غلاف الأنشطة الأكثر رواجاً في المجتمعات، وأن تصبح الايديولوجيا مجرد سلعة متعينة في شكل من الأشكال وأن تجدد ضرورتها المباشرة ليتم تداولها عن طريق الثقافة. ومع ذلك قد لا يعتقد الناس بضرورتها كأغلب العادات والتقاليد التي يرتبط بها أفراد المجتمعات البشرية، لكنهم لا يستطيعون تجنبها.

وبخاصة أنه من أهم الممارسات أنْ تبهت (تخف حدة) الأيديولوجيات عن طريق الثقافة الشائعة، وأن تتحول إلى أشياء تمر مروراً عارضاً على الوعي ولا ينتبه إليها الناس عند التداول. وكأنَّ الناس يتداولون سلعة محايدةً لا تعكس ما بداخلها. وتدريجياً يكون السوق هو موضع جاذبية وتتحول الغرائز إلى رغبات عامةٍ، والرغبات تُغلف بكل (ما لذ وطاب) على موائد المشاهدات اليومية. وبالتالي تمَّ قطع العلاقات بين العقول والأصول، بين العرضي والجوهري، بين العمق والسطح، ويظل ولاء الإنسان ملتصقاً بالفوري مما لديه قدرة على الإبهار ولفت الأنظار.

جميع ذلك، تمَّ في ظل وجود شبكة النت التي أتاحت مضاعفة الظاهرة إلى درجة كبيرة، وسمحت بدخول متغير الجماهير هكذا بصيغة الجمع، الكتلة، الحشد وراء الصور والاعلانات. فارتبطت ظاهرة الثقافة الرائجة بظاهرة الواقع الافتراضي، ليعود الواقع الافتراضي عن طريق اللايكات والمتابعات وعلامات الإيموجي إلى شحن الممارسات وتضخيم المشاهد كأنَّها الحقيقة. عالم من الإنحناءات الإلكترونية وصور متواصلة من بلاغة الصور المغرية والجذابة مع وجود فراغ الوعي. لم يعد هناك فاصل زمني ولا مكاني بين الواقع والخيال، وأصبح (القطيع الالكتروني electronic herd) هو الغالب ويتحرك بغرائزه مباشرة وبأهواء سائلة عبر" الأسطح اللامعة " التي لا ترى واقعاً فعلياً. ولكنها تمتلك الأهم: عملاء ومندوبون وشركاء وصانعو محتوى ومروجون ودعاة أفكار وخادمو سياسات وأصحاب عيون محملقة طوال الوقت، ينفذون ما يُراد لهم وبهم ويتابعون العمل المباشر مع القابعين خلف الأجهزة. وبشكل مقصود أو غيره، ليست تلك هي القضية ولا هذا السياق، لكن سنجد أنَّ الظاهرة قد فرضت تداعياتها وأصبحت أكثر تأثيراً مما يتصور المحللون!!

إنَّ صناعة الثقافة والأيديولوجيا عبر سطوة الوسائط تجاوزت كل الحدود، وبات الواقع الإفتراضي سابقاً على الواقع الفعلي، هو يأخذ خطوات بالقفز السريع كحيوان الكنجر، إنَّه سوق من نوعٍ فائق على الوصف، مؤدياً الأهداف ذاتها وأكثر. لأنَّ النظر واللمس الديجيتال قد يأخذان العقل إلى طغيان الجوانب والانطباعات الفورية. وهي نتائج غير دقيقة وتحول بين الوعي والتمييز، لأن الغموض المريح والأشكال المبهرة أشياء تخطف الحقائق. إنه عصر خطف الحقائق ومسخ الأفكار. وعليك البحث عنها طوال الوقت، ولن تكون حقيقة كاملة ولكن عليك التجوال غير المتوقف في دروب المواقع وخلف الكواليس المظلمة حتى تستطيع العثور على شيء.

لم يخلو السوق ككل من توجهات تخدم القوى المهيمنة والتي تدير المشاهد من وراء الكواليس، وليس الإنسان سوى ترس بشري في مجموعة تروسها داخل ماكينة السوق والأنظمة الاجتماعية والسياسية، والأخطر أن يتم تفريغه من المواقف والمبادئ ليصبح هو الآخر سلعة تذهب إلى سلعةٍ، وجهاً يقابل وجهاً، حالة تتوقف لدى حالة، مرايا تعكس مرايا أخرى، ويمسي الإنسان في نهاية الأمر من الذباب البشري حاطّاً على الأشياء وأسطحها اللامعة. لأنّ تسطيح القيم يؤدي إلى تسطيح الوعي ولن يهم صانعي الأسواق والثقافات المؤدلجة أو الأيديولوجيا المتثاقفة إلا تلك الخطوة.

ربما كان أخطر اختراع تمَّ مع عولمة الأسواق وتجارة الأيديولوجيات وتسطيح الثقافات هو اختراع " الزبون customer"، فالزبون هو المادة البشرية التي بلا قوام وتُصنع منها الآراء والاتجاهات والمذاهب والأفعال العامة وترسم السياسات وأحداث الفوضى. ولو حاولنا العثور على عنوان جامع يعلق فوق رأس العقود الأولى من القرن الواحد والعشرين حتى اللحظة، فهو عنوان (الزبون). وقد يتخفى المعنى في عناوين أخرى مثل المتصفح أو المتجول الافتراضي أو الناشط أو العضو أو المشارك أو المرتاد أو الفاعل، غير أنهم في النهاية مجرد أسماء لزبائن. وسيعرفون ذلك عندما يواجهون أنفسهم ويصوبون النظرات إلى داخلهم.

ودرجة التحول في الثقافة – من تلك الزاوية- مخيفة ووحشية إلى أقصى درجة. فإذا كان انطونيو جرامشي قد أطلق معنى المثقف العضوي المدافع عن المواقف، والذي يجد في النضال حولها قضية جديرة بالاهتمام آخذاً أهدافها على محمل الجد، وإذا كان جان بول سارتر قد رأى في الإلتزام الفكري والأدبي دفاعاً عن قضايا وجود الإنسان في الحياة، وإذا كان إدوارد سعيد قد اعتبر المثقف المقاوِم لانحرافات السلطة أحد الرموز الجديرة بالتقدير وأنه يجب ألَّا يحيد عن هذا الطريق إلى نهايته وإن أدت إلى حتفه، ... أقول إذا كان ذلك كذلك، فالإنسان الزبون هو الكائن المُسطَّح لدرجة اللعنة، وهو المثقف الذي أصبح سلعةً، وهو الآخر الذي يتم التجارة في لحمه وجسده وكيانه المرمي في الأسواق، وهو العشوائي الذي يقطن مدن الصفيح والهوامش في المجتمعات العربية، وهو المواطن المحجوز تحت التوقيف ورهن الآمال المؤجلة، وهو الكادح الذي يعود خالي الوفاض إلاَّ من فتات وخيبات.

أؤكد أنه ليست هناك إلاَّ (الزبائنية Customerism)، وهي عملية ثقافية تعتبر الإنسان- أي إنسان- زبوناً ليس أكثر. علامة فارقة لعصر مجنون يطحن كيان الإنسان ويتغذى علي بقاياه. حتى أنت مجرد زبون لدى قوى أكبر من تأثيرك المحدود، وبمجرد أنْ تدخل تلك الدائرة عبر أبسط الأشياء المتداولة، حتى تتلقفك عمليات تالية أيا كانت درجات مقاومتك. ومشهد العالم هو مشهد زبائنية بامتياز، يختلط فيه الواقع بالسياسات بعيدة المدى. فالدول الكبرى تنظر إلى الأقل منها على أنها دول ومجتمعات الزبائن الذين يجب أن يهرولوا تجاه المنتجات والشركات وتجارة الأسلحة وغيرها من منتجات الأسواق، والمجتمعات الأقل تقدماً تنظر للأقل منها على أنها زبائن، وهكذا وصولاً إلى دولنا التي تنظر إلى مواطنيها لا كمواطنين لهم كافة الحقوق الإنسانية، إنما تعتبرهم زبائن خاضعين لآليات السوق الاجتماعي والسياسي في الآن عينه. وعلى الزبائن أنْ يركضوا ليلاً ونهاراً ليجدوا بعض الحياة الكريمة.

في هذا السياق لا تُولد الهويات، لكنها تصنّع مع الحياة باحثة عن مصيرها المفقود. ولذلك ينظر بعض الناس إلى الثقافة على أنها ميلاد للهوية الراسخة.. وهذا وهم، فالثقافة هي فيض الحياة وتحولاتها عبر الإنسان بمعناه الشامل. ولكن الإنسان أهم من الثقافة لكونه الفاعل، شريطة أن يكون واعياً ولديه قدرات الأصالة والتغيير. واكتمال الثقافة ليس هدفاً في ذاته، لأنه لا توجد ثقافة مكتملة، ولن تصبح كذلك في يوم من الإيام. الثقافة يجب أن تكون قرينة الحرية والتحرر وقيم الأصالة والتنوع والتعددية على كافة المستويات.

في حين أنَّ الحاصل عكس ذلك، ولكي نخلق أجيالاً تتمتع بإنسانيتها، علينا أنْ نرسخ ثقافة حرة تراجع ذاتها وتنتقد مواطن العسف والتخلف. الثقافة هي الرحم الإجتماعي الذي يحمل الإنسان بعد أن لفظه الرحم البيولوجي. ورمزياً لن يستطيع الشعور بالحياة وممارسة جوانبها دون أن يتغذى بكل حرية من هذا الرحم الرمزي. ولذلك تعد فوضى الثقافة وهيمنتها أخطر شيء على وجودها ومساراتها التاريخية. وهذا هو ما يعانيه الإنسان العربي إلى أن يجد مخرجاً. فنتيجة تلك الفوضى لم يستطع أن يجد رحماً مناسباً لحياته، هو غير مستقر وكأنه ريشة في مهب الريح، وتلك الريح من كافة الاتجاهات، تأتيه قوية وعاصفة لتقلبه ذات اليمين وذات الشمال. أين المستقر الحضاري والإنساني؟ هذا هو السؤال الصعب الباحث عن إجابة.

س20- أ. مراد غريبي: قبل عقود كان الحديث كثيفاً حول الثقافة الجماهيرية في قبال الثقافة الراقية والثقافة الشعبية وعلاقتها بوسائل الاعلام، لكن الآن هناك ثورة رقمية تتشكل معها ثقافة رقمية تتوسع كل يوم وبحاجة لفهم، في الغرب تبلورت فلسفة التكنولوجيا وحضورها قوي في الفعل الفلسفي الغربي، ما قيمة ظاهرة الثورة الرقمية من المنظور الفلسفي عربياً، درساً واشتغالا؟

ج20- د. سامي عبد العال: الثورة الرقمية ظاهرة فريدة على مستوى الإنسان والفكر، لكونها تتطلب إنسانها الفاعل في المقام الأول، هذا الكائن الحر والقادر على التفكير والتساؤل بطرق غير معهودة. والثورة الرقمية من جانب كهذا لم تفعل فعلها الحقيقي في المجتمعات العربية. فقط اتاحت فرصة للهروب من أصناف الرقابة. وهكذا فهمت بعض المجتمعات العربية ذلك، فحرموا في بدايات النت واستعمالاته التصفح الحر والإطلاع على المواد الإلكترونية وظهرت فتاوى تحريم دخول النساء للمواقع، وكأنها مواقع داعية لخدش الحياء والتحرش بالقيم والأخلاقيات!!

وبعض المجتمعات العربية حصرت الرقمنة وتراثها القريب في طبقة المستخدمين الذين ينتمون إلى شرائح اجتماعية ليست بالكبيرة، مثل الاغنياء أو المتعلمين بالخارج وكذلك مثل أصحاب المؤهلات المتخصصة. والبعض الآخر من مجتمعاتنا اعتبروا فضاءات النت ظواهر غريبة أشبه بالأرواح الشريرة التي ما إن تحل حتى تحدث البلبلة والتشويش، وكأن الواقع الافتراضي حادثة بني اسرائيل في العهد القديم وقد عادت عن طريق العرب هذه المرة، حادثة غضب الرب على شعبه، فبلبل ألسنتهم وهاموا على وجوههم في البرية.

وهناك البعض الآخر ينظر إلى الثورة الرقمية كنوع من اللعنة الإجتماعية التي حلت بالعرب، فأخذت تفرق بين المرء وزوجه، بين الأب والأبناء، بين الناس والمجتمع، بين السلوك والحكمة، وكأنها سقطت فوق رؤوس العرب فجأة وبمؤامرة كونية جديدة. واخذت بعض المواد والبرامج الاعلامية تناقش قضايا الجريمة الاجتماعية وقضايا الطلاق وقضايا الخرس العائلي نتيجة كثرة استخدامات النت. وأنَّ الناس منشغلون طوال الوقت بالتصفح والجري وراء أخبار المشاهير والفضائح والطرائف والأحداث من غير الإلتفات إلى التواصل الفعال وبناء علاقات صحية. لنتابع أي خبر من الأخبار الفاضحة، ستجد ملايين المشاهدات والمتابعات، وحتى من هؤلاء الذين يعلنون أنهم يتجنبونها ويقللون من شأنها، فهناك انفصام بين شخصية المتابع في الواقع الافتراضي والشخصية ذاتها مع ما تقوله في العلن!! والحقيقة أن هذه ليست ظاهرة عربية، لكنها ظاهرة عالمية في جميع المجتمعات، حتى المجتمعات النائية الملقاة بين الصحارى والغابات والبراري في أمريكا اللاتينية أو جنوب شرق آسيا.

هناك شرائح أخرى تعتبر صفحات النت بمثابة ماخور سفلي للبحث عما هو غريب وعجيب ومشاهدة الأفلام والفيديوهات الخارجة، راكضين وراء اشباع نهم التلصص والرغبات والغرائز والشهوات السائلة تمشياً مع مصطلح زيجموند باومان. وهؤلاء يرتادون الشبكة العنكبوتية ولا يعنيهم وعياً ولا معرفة في قليل أو كثير، لكنهم يهدرون طاقات ويقفون عند موطئ أقدامهم في النظر إلى الأمور. كثيراً ما يعاقر الإنسان ما يشتهيه، معتقداً أنه ظفر بما يشبع الغرائز، ولكنه يبقى مستعملاًّ وسيُلقى على قارعة الحياة وسيكون (لقمة سائغةً) في فم ظاهرة أكبر تمتص قدراته وحيوية وجوده.

يجب أن نرى الموقف من الثورة الرقمية في عالمنا العربي:

لنكن على مستوى المسئولية مع أنفسنا، إن مصطلح الثورة الرقمية digital revolution غريب ونشاز على الأذن العربية. وكأننا نتكلم عن اكتشاف كوكب آخر يبعد عن أرضنا بلايين الكيلومترات دون أن يعنينا في شيء إلاَّ بعض اخباره المتداولة. فهذا الأمر من قبيل الوجود في العالم تحت تأثير وسائل الإعلام والقنوات الفضائية والشبكة الافتراضية التي تنقل ما يحدث. لكننا لم نعِ وعياً حضارياً ولا ثقافياً دلالة الثورة الرقمية لعدة أسباب:

أولاً: مصطلح الثورة نفسه – ولنفتح قوس الصراحة باتساعه- دخيل على الذهنية العربية، تحديداً مصطلح عابر للتفكير في تغيير الثقافة وبناء الوعي وقدرتنا على مواكبة العالم وكيفية الإفادة منه. الثورة في لاوعينا البعيد من فصيلة الفتن والدسائس والملاحم والصراعات والتمرد المرفوض. وأقرب دلالة إليها هي عملية تحريك الجيوش لتأمين الحدود وقبر الثورات (الفتن) في مهدها، قبل أنْ تهدم انجازات الأمة وقبل أن تطيح بالأخضر واليابس وقبل أن تفتن الناس في دينهم وأخلاقهم. الثورة من ضمن الكلمات المرادفة للإتيان ببدعة غير مشروعة ومغضوب عليها قبل أن تبدأ إلى أن تدفن!!

في تاريخ الثقافة العربية، هناك احتمالان: إمَّا أن الثورة مرتبطة بالجماعات المهمشة والتي تريد هدم المعبد على أصحابه بعد أن استتب الأمن والأمان، وبعد أن ازدهرت الأحوال وأصبح الناس في بحبوحةٍ من العيش وممارسة الطقوس والعبادات الدينية. وإمَّا: أنها عملية تمرد مرهونة بشخصيات تغرد خارج السرب، وتمثل خطراً على السلطة المركزية في إحدى الحواضر، وتنتهي المحاولة الثورية بالإجهاز علي أصحابها والعودة برؤوسهم على أسنة الرماح إلى السلطان، كي تعلق في ميدان عام كمصير محتوم لكل ثائر محتمل!!

الثورة لدينا آتية من: ثَارَ (دون حق) مهما كانت الظروف والأحوال، آتية من يثُور (أي يؤلّب الناس ويفتنهم عن الحق والحقيقة)، ثائِر (حيث يتم الاعلان عن طرده وإعلان الحرب عليه)، وأنه لن يعود آمناً إلى وطنه ولو كان داخله، فلابد أن تنتهي حياته بكارثة وآية للعالمين على طريقة الكوارث التي اخبر عنها القرآن مثل: أقوام عاد وثمود وصالح وآل لوط وجنود فرعون، هؤلاء علامات فارقة في تاريخ الأديان، وكذلك أمثلة اتخذها الحكام للتعامل مع أصحاب الثورات.

ثانياً: الثورات لا تؤثر كثيراً في واقعنا العربي إلاَّ إذا قصدت النخبة ذلك بشكل ملموس، وما يترتب عليها من نتائج محدودة. والتأثير قد لا يكون بسبب الثورات تجاوزاً، لكن هناك المستفيدين حيث لا تعنيهم الثورة بذاتها. وهناك أساليب الإحتواء وإعادة التوجيه من الحرس القديم والطبقة التي قامت بسببها الثورات. وقد شاع القول:" إن الثورات يخطط لها الشرفاء ويقوم بها الشجعان ثم يسرقها الجبناء ويقفز عليها الانتهازيون"... وكأنها مقولة قيلت في المقام العربي حصراً دون سواه.

ثالثاً: الثورة لدينا تقوم بها قلة لا كثرة. ولو قامت بها الجماهير، ستتحول سريعاً إلى فوضى، والقلة تستفيد منها إلى أقصى درجة وتتحول في النهاية إلى حكم النخبة.

رابعاً: كل الثورات تسير إلى الأمام إلا ثورات العالم العربي تسير إلى الخلف، لقد وضح ذلك عندما امتطت الجماعات الدينية ظهر الحراك العربي وأرادت قيادته إلى إحياء الجهاد والخلافة والعودة إلى العصور القديمة، غير عابئة بسؤال التجديد وكيفية تطوير المجتمعات التي أكل الدهر عليها وشرب.

ولذلك عندما وقعت أحداث الربيع العربي، حارَ المحللون والكتاب واضطربوا في تصنيفها: أهي ثورات بملء الكلمة، أم حراك سياسي، أم تمرد، أم فتن، أم ظواهر لربيع عربي، أم إعادة ترتيب أوضاع المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج، أم مؤامرات من قوى غامضة!! لا أحد يقطع بالحقيقة، وبخاصة بناء على (الأحداث الهادئة) التي حدثت داخل قصور الأمراء: مثل تنازل بعض الأمراء علانية أم ضمناً لورثة الحكم وأولياء العهد. وبخلاف الأحداث الحادة التي جرت في الشوارع والميادين والساحات العامة كما في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن.

سبب الحيرة ليس منطقياً ولا معرفياً ولا سياسياً، لكنه سبب بنائي structural في متون الفكر العربي: أنه لا يوجد تأويل للأحداث من هذا اللون في خانة الحداثة العربية إن أُجيز التعبير، أي ليس لدينا مفهوم تاريخي بنائي للكائن العام الطارئ المسمى بالثورة يمكن أنْ يستوعب معناها، حتى نتقوّلها بشكل عمومي مباشر ونعبر عنها بكامل معجمها المعروف. وهذا أمر دال على أن كلمة الثورة معلقة في سترات أغلبية العرب كحجاب منتظر تأثيره، لكنها ليست عملية عضوية تهدم منظومة قيم في أغلب مناحي الحياة وتبني وتعيد ترميم القيم التي اهترأت من طول الترهل واستعمالها السلبي.

إنَّ ما تمَّ من أحداث ربيعية إنما هو عملية (احلال وتبديل) بحسب القوالب الموروثة للسلطة، وهي عملية تغيير الوجُوه مكان الوجوه أو إرتداء الوجوه على الوجوه القديمة، ولكن المتون ظلت واحدة وسارية المفعول. مثل تبديل لاعب كرة لم تسعفه لياقته البدنية ومرونته العقلية على اللعب وإحراز الأهداف، فما كان من المدير الفني إلاَّ أن استبدله بلاعب آخر، ولكن الخطة الفنية ظلت كما هي والاستراتيجية واحدة حتى وإن أدت إلى الهزيمة. وفي الثورات سنجد الجميع يُخدِّم على تلك اللعبة التاريخية بكم من المساحيق الثقافية الممكنة، حتى الثوار أنفسهم يعملون على ذلك ويمهدون الطريق للوجوه أن تتبدل وأن تتماهى وأن تأخذ أدواراً غير التي كانت لها ولكن الأساس لم يمس.

وظل الوضع السابق ممتداً بالنسبة لمفهوم الثورات إجمالاً، فما بالنا بالثورة الرقمية؟ وهي العملية الأكثر تعقيداً وتطوراً دون منازع. في الفكر الغربي: عندما ننطق مصطلح الثورة، ستذهب إلى معجمها الحداثي مباشرة كتقنية جماعية لتغيير الأوضاع في المجتمعات وتطوير منظومة القيم الفاعلة، وهي تقنية حداثية نظراً لأن الثورة الفرنسية- وقد أثرت في الفكر السياسي الحديث- أبانت عن كتالوج عمل الثورات وتأثيراتها وكيفية تطوير العمل العمومي وأهم المبادئ التي استند إليها، رغم أنها أخذت وقتاً طويلاً من المسارات المتأرجحة. وامتد تأثيرها خارج نطاق فرنسا وأوروبا إلى دول العالم بصرف النظر عن سلبياتها ونقد أحداثها، لأن آليات العمل واضحة ومبادئ الثورات شُرعت وجُربت.

قياساً على ذلك لو قيل الثورة الرقمية سيعرف الغربيون معنى ذلك ومفهومها، لأن هناك- كما تفضلتم- فلسفة التكنولوجيا. وهي الفلسفة التي بدأت وطرقت الوعي العملي بقوة مع تأثير التكنولوجيا وأهمية الآلات ودورها في بناء المجتمعات مع العصر الأوروبي الحديث، إذ أنتجت حقبة الاستعمار التي أتاحت تشغيل الأسلحة والقطارات والميكنة في نقل البضائع والسلع وثروات الدول المستعمرة. حيث كانت سؤال الآلة هي السؤال الذي أحيل عليه معنى الوجود، من مجرد وجود (يقف الإنسان داخله) إلى وجود (يمتلكه ويستعمله الإنسان) كأداة وأداء في يده. أي تحولت الأشياء والمواد والعوالم إلى أدواتٍ تستعمل لأغراض وأهداف معينة.

التكنولوجيا هي الخيال الأداتي Instrumental imagination الذي يؤدي وظائف انجازية في حياة الناس. ومن هنا كان التطور الرهيب للآلات والتقنيات بموازاة التغيرات التي دخلت على هذا الخيال العملي. مما وفر ثقافة مبنية على الأداء التقني في كافة مناحي الحياة الإنسانية. وكان الخيال الغربي مهيئاً لأية طفرات ضمن هذا المجال، ولاسيما أنَّ التكنولوجيا لا تتطور من نقطةٍ إلى نقطة أخرى بحركة السلحفاة، ولكنها تنطلق بصورة متنوعة ودائمة الحركة والتقدم. وهذا يفسر التغير المدهش في أجيال التقنيات والأجهزة من سنةٍ إلى سنةٍ، وتم تقليص مساحة التغير ذاته.

والتكنولوجيا لها نظرياتها الفلسفية ولها مفاهيم مؤسسة في الفكر الغربي، ولن تجد مقابلاً مناسباً لها أو على الأقل تنظيرات مماثلة في عالمنا العربي. لأن تجارب المفكرين العرب مع التقنيات ليست تجارب طويلة الأمد. وهذه التجارب تأتي من الاطلاع الحقيقي أو المتخصص في التكنولوجيا وعلومها المختلفة إنتاجاً وتطبيقياً وتصميماً. وهي أيضاً علوم تحتاج متابعة دقيقة وبين عدة مجالات مختلفة interdisciplinary في الوقت نفسه. وكذلك تحتاج إلى رؤية فلسفية نتيجة هذا الثراء المعرفي. ولذلك هناك فلسفات تعبر عن طبيعة التكنولوجيا وكيفية تأثيرها على واقع الحياة في المجتمعات المعاصرة، وكذلك هناك فلسفات تحلل مشكلات التقنيات والتواصل والثقافة والتاريخ في إطار اتجاهات فلسفية مثل الفينومينولوجيا والنظرية النقدية والنقد الثقافي وما بعد الحداثة ومشكلات العقل والذكاء الاصطناعي.

هذا هو سبب الإدراك البعيد لا القريب للثورة الرقمية فلسفياً، فقد جاء التعرف عليها في محيطنا العربي كمقالات متناثرة هنا أوهناك داخل كتب مداخل فلسفة التكنولوجيا وتبسيط العلوم الطبيعية ونشر ثقافة التكنولوجيا وأحياناً هناك طرح لأفكار فلسفية، ولكنها ليست عميقة وتبدو مبسطة، وقد يتناولها البعض من قبيل شروح العلوم والمعارف التي تدخل عادة في تاريخ التكنولوجيا وعرض الإبتكارات ومعرفة الآلات، مع أنَّ هناك جانباً آخر دخل إلى دائرة التفلسف العام، وهو جانب الرقميات والعلوم المعرفية cognitive sciences التي تركز على دراسات العقل والتماثل بين العقل البشري والعقل الحاسوبي وحوسبة اللغة وغيرها من الأنشطة التقنية لتطوير القدرات الإنسانية وتطبيقاتها.

ومن مفارقات ذلك أن فلسفة التكنولوجيا انتعشت مع إسهام المترجمين العرب، وأن هناك من يريد معرفة الاتجاه الفلسفي الآخذ في الصعود والتحليق بعيداَ. ولكنهم في الوقت نفسه، لم يتركوا أفكاراً مهمة للتكنولوجيا حتى تقول ما تريد. حيث أحدثت الثورة الرقمية تداعيات خطيرة إزاء مفاهيم الوعي والجسد والحياة والذكاء والذاكرة، وحياة الإنسان والعقل الآلي. وستتطور تلك الأشياء في المستقبل لدينا مع مواصلة الطريق نحو تعميق فلسفات التكنولوجيا وعندما تترسخ تقاليد أصيلة لدراستها.

علينا ألا ننسى- من قبيل الأمثلة - أستاذاً مرموقاً وهو أحد الأوائل الذين مارسوا التفكير في ظاهرة الثورة الرقمية وهو الدكتور نبيل علي، وكانت مؤلفاته سبّاقة إلى مجالات ثقافية رقمية مميزة، وكان نادراً ما يثير مشكلة زائفة مركزاَ على الظواهر الحيوية إلى درجة بعيدة. وقد فتح الطريق لمناقشة أوضاع الثقافة والفكر واللغة العربية على أسس معلوماتية، أبرز مؤلفات نبيل على: " العرب وعصر المعلومات"، "الفجوة الرقمية: رؤية عربية لمجتمع المعرفة "، " العقل العربي ومجتمع المعرفة: مظاهر الأزمة واقتراحات بالحلول" الجزء الأول: الجزء الثاني"، " الثقافة العربية وعصر المعلومات: رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي"،" اللغة العربية والحاسوب".

وقد كان نبيل علي يتميز بآفاق عابرة للتخصصات من الهندسة وعلوم الطيران إلى علوم الحاسوب والأنظمة الآلية، إلى العلوم الإجتماعية ثم تصميم البرامج والمنظومات وعلوم الشبكات، ثم إلى هندسة المفاهيم وصياغة الرؤى وخرائط المستقبل والفكر. وكل ذلك جعله قادراً على تقليب وجوه الثقافة العربية بين الأزمات والفجوة المعلوماتية والثورات الرقمية المتلاحقة وإعادة بناء العقل العربي. ومن حسن الطالع أنني التقيته في المجلس الأعلى للثقافة بمصر عام 2011، حيث أنصتُ بعناية–أثناء إلقاء ورقة بحثية – إلى قدراته الفلسفية المهمة في الذكاء الإصطناعي ومناقشاته لقضايا الفكر بروح المفكرين الكبار وأسئلة الفلاسفة العميقة، وأنه لم يتوقف عند ترديد العبارات وإيراد المعلومات، لكنه كان يطرح طرحاً فلسفياً رصيناً مما لم يُتح لبعض دارسي الفلسفة في الجامعات.

حتى أن الدكتور نبيل علي قد وجّه الكلام إلى شخصي بعد تعليقي فلسفياً على ما قال متمنياً لنا (أي دارسي الفلسفة) أن نقتحم المجال الرقمي بأدوات التفلسف والإبتكار، مشيراً إلى أنَّ كل اسهاماته مبنية على مضامين فلسفية بالأساس. وأتصور أن عقلاً كهذا في حقول الفكر استطاع أن يقدم أفكاراً ومفاهيم تحرك بعض المياه الراكدة في فلسفة الذكاء الإصطناعي على الأقل في بواكير تأثيره العربي، مما يدخل في مجال الفلسفات التطبيقية، ومما كان له بالغ الأثر على الإفادة من تطورات الواقع الافتراضي. وبخاصة أن الدكتور نبيل علي لم يكن مُنظراً فقط، لكنه كان ابن الممارسة وتصميم البرامج وتحديث المنظومات القديمة كما اسهم في تصميمها عربياً بمنطقة الخليج العربي.

ومما يدعو الى الرثاء أن الدراسات العربية في هذا الشأن لم تعط الدكتور نبيل علي مساحة من الحوار والنقاش، بينما تحتفل جوجل سنوياً بذكراه وتنوه إلى أعماله واسهاماته الفكرية الرقمية، لأن الثورة الرقمية قد تخترق جانب حياتنا من اتجاه معين، ولكنها سرعان ما تحتل مركز التوجيه كما هو حال زحف المعلوماتية والواقع الافتراضي على جميع مناحي الحياة العربية لا العقل فقط... وهناك أمل أن تتابع الأجيال اهتماماتها الفلسفية بهذا الجانب، واتصور أنه سيأتي الاهتمام من المتخصصين وغير المتخصصين في الفلسفة.

***

حاوره الأستاذ مراد غريبي

في المثقف اليوم