تقارير وتحقيقات

الأسبوع الثاني من أيام الثقافة العربية السويدية في مالمو/الجزء الثالث

شارك فيها خمسة شعراء ( كارين لينتز، عدنان الصائغ، فرهاد شاكلي، أرنه زارينغ، ماريا ليندبيرغ، الفنان فلاح صبار).

أما اليوم الثالث 15 /11 فهو حفل غنائي موسيقي شاركت في إحيائه الفنانتين الشقيقتين شروق وسفانة الحلوائي، وفرقة مسرح الشرق للأطفال الفلسطينية.

سوف أقسم نشاطات هذا الأسبوع إلى ثلاثة حلقات في كل حلقة أتناول نشاط أحد أيام المهرجان الثقافي من أيام الثقافة العربية السويدية في مالمو مع بعض الصور التي التقطتها بكامرتي الخاصة.

أمسية الاحتفاء بالفنان التشكيلي قاسم الساعدي *

 الرسم طريقة أخرى لكتابة المذكرات

 بابلو بيكاسو/ رسام ونحات اسباني

 

 لازم الفن الإنسان منذ الأزل، حيث أبدعت أنامله في شتى الفنون النحت والرسم والنقش والعديد من الفنون الحرفية الأخرى، فحفر ونقش ورسم أفكاره على جدران الكهوف والصخور وحول الحديد إلى أشكال فنية رائعة يحاكي فيها الطبيعة والواقع، فصور لنا أبدع الصور عما يدور بفكره وخياله وما يراه بالواقع أمامه، مصورا ً لنا ما يود أن ينقله للأجيال اللاحقة يخلد الأشياء التي يحبها أو يكرهها أو يخافها، أظهرها لنا بصور غاية بالجمال والصنعة والدقة، جسدها بعد أن تفاعلت أفكاره وامتزجت مع أحاسيسه ليخرجها بأشكال جمالية فنية متنوعة، فحول الحجر والطين والمعادن إلى لوحات وأشكال بديعة، جسد فيها معاناته وأفراحه ببراعة فنية. فصور لنا الحب والخوف والصراخ والألم والجوع والقتال والفرح والعمل والنصر والانكسار والحيوانات والطيور بأجمل صور، هكذا تدلنا أثار التاريخ على التصاق الفن بروح الإنسان من الأزل!

هذا المساء كان المطر على موعد مع الأمسية، فالمطر هنا في بلدنا الجديدة كثير غزير لكن هنا لا شوارع تفيض، ولا برك ماء وأوحال تزيد، ولا ترتبك حركة المرور،  ولا كهرباء تنقطع عن الحضور، مطر ينساب كما الهواء العليل، مطر محسوب له منذ زمن طويل أقصى التصاريف.

قبل بدء الاحتفال كان مشهد لقاء الأحبة وتبادل التحيات والقبلات والتقاط الصور التذكارية منظراً ممتعاً لمن يراقبه في صالة القاعة الفسيحة (الكراج قاعة تابعة إلى كومون مالمو) التي اختيرت لاحتفالية هذا المساء، يطلب مني أبن عمي رتاب الأميري أن ألتقط له صورة مع الفنان قاسم الساعدي، فكثرا ما حدثني صديقي رتاب الأميري عن العلاقة الودية القديمة التي تربطه بالفنان قاسم الساعدي، فلبيت طلبه فورا ً.

 

 

أستهل الزميل الفنان المسرحي علي ريسان الاحتفالية بكلمة ترحيب بالحضور الكريم، والضيف العزيز المحتفى به الفنان قاسم الساعدي، وأعلن عن الفقرات التي تتضمنها الاحتفالية، والتي تابعها بالتقديم لمن يقدمها فقرة بعد أخرى، وكانت البداية عرض إنطولوجيا من الصور الفوتوغرافية تمثل سيرة حياة الفنان الساعدي من إعداد الفاضلة أسيل العامري، عرضت بطريقة فنية جميلة على شاشة كبيرة تتصدر القاعة .

 

الفقرة التالية كانت قراءة لشهادة من الدكتور الأديب إبراهيم إسماعيل بحق رفيقه وصديقه الفنان قاسم الساعدي، وكانت بعنوان شكرا ًصديقي والتي جاء في مقدمتها ( لم تكن تمض على تعارفنا سوى سويعات قليلة حتى صار لصيق القلب،دافئاً وحميماً عراقياً متدفقاً ..كنت قد شاهدت بعض أعماله التي تركت في ذاكرتي إشراقة إبداع متميز ..حدثته عنها .. سرح ببصره في مسالك الجبال الوعرة المحيطة بنا، وغلالة حزن اليتم والفقدان تكسو ملامحه، التي كلما حاول أن يعطيها صرامة المقاتل،فضحته براءة الطفل الذي يسكن الأعماق.. ومضت سنوات،وحدث الانفجار العظيم وصار كل منا في قارة .. لكنا بقينا على الضفة نفسها..)

 

 وفي مقطع أخر منها يقول الدكتور إبراهيم إسماعيل(وبين وجد صوفي وتصوف اجتماعي،حيث المسيح والحسين والحلاج، وعلى نور تحرر الشهيد من قفص المدركات المقننة إلى فضاء محسوس لا يدركه البصر، حيث قافلة الأصدقاء الذين لم يسمح له الطغاة بوداعهم، فكك قاسم أدواته وتنقل بين الأساليب والألوان وبين معبد الماضي وعوالم الحداثة في مسار تجريبي مبدع، منحه الإقامة الدائمة في التاريخ والأرض.)

573-malmoa

  

دعي بعدها الدكتور الناقد حسن السوداني لتقيم مداخلته والتي كانت دراسة نقدية بعنوان (سدود القنادس وحقول الشوفان قراءة في جدلية الغائر وسهول الصورة لدى الفنان قاسم الساعدي) عن إبداعات الفنان الساعدي، وكانت غنية بالمعلومات وتفكيك الرموز والأدوات والمواد التي يستخدمها الفنان الساعدي وجاء في مقطع منها

 

الدكتور الناقد حسن السوداني يقم دراسته النقدية في أمسية الفنان قاسم الساعدي

 ( إناء الرؤية الهش للساعدي ظل أنيقا يدلق المحبة من بغداد إلى ديالى إلى كردستان إلى طرابلس إلى المحرس إلى هولندا إلى برلين وعشرات العواصم  بينما ظل إناء مطارديه يبحث عن ثقب أمرد في ارض صحراوية يغتسل برمله آلاف المرات دون أن ينزع عنه سخام السنوات العجاف .... إناء الرؤية للساعدي يهبنا زادا من الرحيل ووجوها من الغائبين وشواهد قبور غطتها الليالي وحجبت عنها استدارة القمر ولفافات من كتب التعاويذ ونبوءات نوترداموس ورقصات المطر على نغمات مزامير داوود وبضعة خبز من تلامذة المسيح قبل ان تقبلهم عينيه المورقة بخوف الانشوطة.. وبعض حصى من وادي الموت كلي كوماته يرشق بها المشهد .. لتسيل انهارا في سهول الصورة.)

كانت دراسته النقدية ممتعة غزيرة بمعلوماتها تفاعل الحضور كثيرا ًمعها.

 

ثم جاء دور الفنان الساعدي ليقدم لنا بالإضافة إلى شروحات عن سيرته الذاتية مستذكرا لتك المواقف من خلال عرض صورا ً عن حياته على شاشة كبيرة في صالة القاعة متوقفا ً عند ابرز محطات حياته لينقلنا إلى أماكن وأجواء حميمية كان قد عاشها وحفرت ذكرياتها وصورها في عمق ذاكرته...

 

وعند عودتي للبيت دونت ابرز ما تمكنت ذاكرتي أن تختزنه، عن محاضرة الفنان الساعدي، إذ كانت صور كثيرة قد تطرق لها بحديثة، أماكن متعددة وصور وشوارع وألوان ومواقف وأسماء أشخاص ومدن، ازدحمت الصور برأسي، كانت إحدى الصور قد أثارت عواطفه ومحبته لأستاذه (الأستاذ كاظم حيدر) في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد فتحدث عن طيبة أستاذه بعرفان ومودة إذ قال عنه لقد تعلمت منه الكثير، كان مدرسي في الصباح وكنت اعمل عاملاً عنده في تصميم الديكور في مسرح الفن الحديث في المساء، كان ودود طيب كنت أكل وأشرب معه في أوقات الاستراحة من العمل، أحببت وتفاعلت على طريقة طرحه لهذه العلاقة وبهذه الصورة البديعة ففيها خصال إنسانية نبيلة كبيرة في العرفان برد الجميل.

وعند عرض صورة تجمعه مع أستاذا أخر من أساتذته الفنان الكبير فائق حسن، قال تعلمت منه الكثير أيضا و روى لنا حادث طريف اثر به يبن من خلاله نباهة أستاذه وقوة حدسه وهو يتابع أدق التفاصيل وأهميتها في تكوين الصورة (في يوم كان الأستاذ فائق حسن يتابع رسومات الطلبة وعندما شاهدت أحد اللوحات صاح بالطالب الذي يرسم للوحة أين اللون الأزرق على شعرها) يقول عن أستاذه فائق حسن كان يمتلك حساسية كبيرة في ايجاد اللون.

توقف برهة عند صورة فيما راحت أسارير وجهه تنشرح معها أنها صورة أول معرض يقيمه وقد ذكر مكان المعرض أنه نادي التعارف، فضحكت فرحا ً في سري وسررت عندما سمعت ذلك!؟

جاب فينا الفنان قاسم الساعدي برحلة جميلة مع معارضه الفنية، متذكراً اعتقاله من قبل السلطة الغاشمة في أول يوم عرض من أحد معارضه ببغداد، وصورة أخرى لمعرض في لبنان في1979 

وتحدث عن العلاقة بين الفن والرفقة وعن تجربة رسوماته ومعرضه في شمال العراق أيام التحاقه مع فرق الأنصار، متذكرا ً وشاكرا ً دعم وتشجيع رفاقه ومخصصا ً أجمل تحية منها إلى رفيق عزيز عليه أبو كريم !

وقد توقف كثيراً مسلطاً الضوء على تجربته الفنية في رسم الجداريات وخصوصا خلال فترة عمله أستاذا في كلية الفنون الجميلة في طرابلس/ليبيا، معلقا ً على جدارية رسمت على إحدى البنايات،  ففي اللوحة طيور تحلق وهنالك دائرة ملونة بالون البرتقالي، أبتسم وهو يروي حكاية اللوحة التي سببت له الفصل" إنهاء خدماته الوظيفية" من العمل بعد أن حدثه عميد الكلية أن هذا اللون الأحمر في اللوحة أحمر وهو يمثل الشيوعيين يجب تغيره فيقول الساعدي أجبته أن اللون ليس أحمر بل برتقالي ولم أغيره، ففصلني من الجامعة !

وراح يتنقل بنا هنا معرض في تونس على البحر وهذا في هولندا وهذا في ألمانيا ... متذكرا الحمام في أوربا وحبه للحمام وكيف تبعث هذه الطيور البهجة وتحسسك بالأمان والسلام وكيف في أوربا كما في مراقد الأئمة لا أحد يؤذي الحمام، لقد صورها بأسلوب لطيف كما منظر رومانسي.

 

يمتك الفنان الساعدي بالإضافة لموهبة الفن، فهو كاتب جميل في كتاباته الأدبية، فقد قرأ قسم منها فكانت تدل بشكل واضح عن موهبة أدبية كبيرة في تصوير ما يود أن يتحدث به وينقله بكلماته كما في فرشاته وأعماله الفنية الأخرى.

كانت الصور الأدبية بشكل جميل تتوالى علينا، في طريقة السرد والتقاط الون، فتحدث عن طفولته وعلاقة الأمطار وأوحال الشوارع، والطين الذي يخلفه المطر، متذكراً مدرسه الأديب شاكر حسن أل سعيد في المرحلة المتوسطة في بمنطقة البتاوين ببغداد، ماراً برمز قد شاهده ووقف كثيرا أمامه منطقة" شطيط " التي تقع في قلب بغداد، أعاد لي ذاكرة الطفولة إذ كنا نسكن وقتها في مدينة الوشاش وحافات مدينة الوشاش تلاصق منطقة نهر " شطيط " وتجاور أحد أحياء صرائف الفقراء في جانب الكرخ، كنت في الصف الثاني الابتدائي عام 1961في مدرسة الأقلام قرب شارع البريد والتي تقع قريبة من نهر "شطيط."

وقص علينا بأسلوبه الأدبي الشيق صور عمل" الخريط وبائعة الخريط " ولونه الذهبي الجميل بكتلته البراقة الزاهية البديعة التكوين و "الخريط" هو منتوج نباتي لذيذ الطعم ينتج من ثمار نبات البردي بعد عملية تصنيعه!

اللون يمثل أشياء كثيرة ومهمة ويدخل في أعلب أعمال الفنان الساعدي، كما للمواد الأخرى مكان مهم في أعماله حبه للطين تراه واضح في أعمال السيراميك فترى حبه للسيراميك والعمل فيه.

 

يستعمل كثيرا ً المسامير في أعماله و يعلق الساعدي على ذلك بقوله " المسمار عندي رمز للألم " ومن يتابع أعماله الفنية يرى كم من الألم يحمل الفنان الساعدي فبمجرد حساب مساميره التي يهوي عليها بمطرقته ليغرسها بأعماله الفنية عندها يمكن أن يقدر حجم آلامه !

 

 573-malmob

أستمتع الحضور بهذه الأمسية الفنية الأدبية و الجميلة، وبعد انتهاء محاضرته أهدى له باقة ورد ومدالية تمثل خريطة العراق أستقبلها الفنان بفرح غامر .

بعدها طلب الفنان علي ريسان الحضور الكريم إلى استراحة قصيرة لتناول المرطبات والفطائر، فكانت فسحة أخرى جميلة لتجاذب أطراف الحديث بين الحضور والتقاط الصور التذكارية. التي صورت قسم منها بكامرتي الخاصة وانشر قسم منها مع هذا التقرير الأخباري.

ومسك الختام لهذه الأمسية كانت للفنان عازف العود علي الوكيل ومجموعة معه من الفنانين ليشنفوا الحضور بالألحان العذبة الجميلة .

 

السويد / مالمو

كتبت بتاريخ 19 /11/ 2009

ملاحظة : الجهات المنظمة للمهرجان الجمعية الثقافية العراقية في مالمو / الجمعية الفلسطينية في مالمو / مؤسسة الكراج السويدية ومؤسسة آ بي أف السويدية

 

...................

الهوامش

* ولد قاسم الساعدي عام 1949 في بغداد وأكمل دراسته في أكاديمية الفنون الجميلة ـ بغداد 1974 وأقام العديد من المعارض منذ عام 1974 في العراق وخارجه،

أقام اكثر من ستة عشر معرضا ً في بغداد ودمشق وطرابلس وألمانيا وهولندا وإنكلترا، ويبقى لمعرضه الشخصي الذي أقامه في جبال كردستان وادي كومانه بكردستان العراق، أبان اشتراكه في الكفاح ضد الفاشية، نكهته المتميزة .

شارك في أكثر من خمسين معرضاً تشكيليا ً في مختلف مدن العالم . المصدر مقطع من فولدر وزع بهذه المناسبة، مناسبة الاحتفاء بالفنان الساعدي حمل عنوان (قاسم الساعدي فنان البروق العاشقة)

 

** الوشاش : حي سكني يقع في قلب العاصمة بغداد في جانب الكرخ، وقد تم تسميته فيما بعد ذلك حي المعري

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1237 الاربعاء 25/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم