تقارير وتحقيقات

تونس العميقة بين عبق الذاكرة وبهاء الحاضر

وتحظى بقيمة اثرية، وتاريخية وهي التي عرفت ثورة علي بن غذاهم، وعرفت بانشاء اول مدرسة ابتدائية عصرية في 1889، وتأسيس اول بلدية حديثة في 1904، وشارك اهاليها مشاركة فعلية في الحركة الوطنية المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي، واثر الاستقلال ساهموا في بناء الدولة الحديثة وانخرطوا باخلاص في تغيير السابع من نوفمبر. وهي منطقة فلاحية تتميز بمخزون تراثي روماني ومائدة مائية ومقاطعها الرخامية وغاباتها الممتدة، وتمثل المنطقة بجمالها الطبيعي وتلالها وآثارها وجيادها البربرية الاصيلة مشروع منطقة سياحية مهمة وهي المعروفة بطيبة اهلها وترحيبها بالضيوف. كما تمثل مدخرا للطاقات الابداعية الخلاقة على مستوى حركي وذهني وفني عبر الانشطة التي تستقطب جل البراعم والفئات الشبابية في الجهة وتحتضنها دار الثقافة بتالة. وفي منحى لتنمية البعد الثقافي في الجهة، ودعوة اهم الرموز الثقافية والفكرية التونسية لحث الشباب على الجدل والتنمية الفكرية، عرفت تالة مؤخرا افتتاح الدورة الاولى للمنتدى الادبي والعلمي والفني  الجديد الذي يحمل اسم الدكتور محمد رشاد الحمزاوي كعلامة من علامات الثقافة التونسية المشعة تونسيا وعربيا والتي انطلقت من عين تالة الجارية، لتروي الظمأ بكل روافد الثقافة والعلم والفن...

 

فقد افتتح السيد والي القصرين الاستاذ حسن الاجري منتدى الدكتور محمد رشاد الحمزاوي للآداب واللغة والعلوم والفنون حول تونس العميقة وصداها في الرواية التونسية المعاصرة. وقد حضر حفل الافتتاح كل الاطارات الجهوية المحلية والفعاليات السياسية والثقافية بتالة. وافتتح المنتدى بلوحة الفنون الشعبية «طبالة تالة»، وعرض لنادي التعبير الجسماني «منيرفا» بدار الثقافة الذي تشرف عليه الشابة النشطة نائلة خضراوي، وافتتاح معرض الكتاب وكلمة افتتاح الدورة والترحيب بالضيوف. ألقى بعدها الدكتور محمد رشاد الحمزاوي مداخلة «وثيقة شاهدة من قراءة القراءة في أدب المحنة»، وتخلل المنتدى عرضا لمسرحية «عطيل» ، وانطلاق زيارة ميدانية للمنطقة الاثرية بحيدرة...

 

وما ميز هذه الدورة المواكبة المستمرة للسيد معتمد تالة لفعاليات المنتدى، ومع جهد فعال لمدير دار الثقافة احمد السائحي الذي عمل على انجاز هذا المنتدى مع مجموعة من الاساتذة والاطارات التربوية مثل الاستاذ النشط محمد الاسعد بولعابي والشاعر عبد المجيد الحيوني ومع حضور كثيف للشباب تجاوز المائة الخمسين وخاصة من تلاميذ السنوات النهائية للمعاهد الثانوية، سيما وان سياق هذا المنتدى الادبي اخذ بعين الاعتبار حاجة تلاميذ الباكالوريا الى المحاضرات الموجهة اليهم مثل محاضرة الاستاذ انيس الحيوني بعنوان «المسرح الملحمي الجديد: مقوماته وخصائصه، مسرحية رأس المملوك جابر نموذجا»، ومحاضرة الاستاذ توفيق القاسمي بعنوان «الاثر الفني، الجمالية والحقيقة» ،ومحاضرة الاستاذ  عبد الرؤوف الروافي بعنوان «اشكال الانزياح عن الدراما الارسطية ودلالاته في رأس المملوك جابر». وقدمت محاضرات القاها كل من الاساتذة محمد صالح بن عمر ومحمد آيت ميهوب وعامر الحلواني وعمر حفيظ.

 

محمد صالح بن عمر: تدهور الواقع وابداعية تصويره

في قصة «بودودةمات»  لمحمد رشاد الحمزاوي

ينزل الناقد محمد صالح بن عمر «بودودة مات» في اطارها التاريخي. فهي اول قصة ريفية طويلة في تاريخ الادب التونسي في سنوات الاستقلال الاولى، ومن ثمة فتح الحمزاوي الباب امام اصحاب الاعمال السردية المطولة خاصة منهم البشير خريف وابراهيم الدرغوثي، والخصيصة الثانية لهذه القصة المطولة هي تمجيد النضال الحزبي ضد الاستعمار في الارياف، لتكون تالة مسقط رأس المؤلف مسرحا لاحداث قصته واختيار شخصياتها من الطبقة السحيقة والشابة في آن لتستشرف المستقبل بعدما تصفي مخلفات الاستعمار. ويقدم الاديب محمد رشاد الحمزاوي عبرها صورة واقعية لما يشكوه الريف التونسي في تلك الفترة من بؤس وخراب، وصياغة بديل ايجابي يرسم ملامحه تدريجيا. وهو يرسم الصورة للواقع السائد في القرية المتسمة بالتدهور الاقتصادي وتدهور الوضع الاجتماعي وتدهور الوضع السياسي وتدهور الوضع التربوي والثقافي.

 

وقد علق بن عمر على اسلوب الحمزاوي في هذه القصة حيث ابرز انه شحن السياق الحكائي بتعاليق السارد الذي من الطبيعي ان لا يكون موقفه محايدا ما يجري فيها وبين ان   اسلوب الحمزاوي يتسم في نقل هذه الوقائع التاريخية في عناصر فنية ابرزها الصورة لوصف اصداء الاصوات في السكون المخيم، وروح السارد المرحة، والفكاهة المتراوحة بين الدعابة والسخرية اللاذعة ورصد مظاهر الاشراق الفني في القصة عبر امعان السارد في التشويق وتوظيف الحلم للكشف عن باطن الشخصية، واقتران الالق الفني برؤية فلسفية عميقة للكون تكشف عن انشغال الذات بالقضايا الوجودية وخاصة حيرته تجاه الموت وعزلته امام النوائب. لتكون ميزة هذه القصة الابتعاد عن التمجيد وعدم الوقوع في الكتابة التاريخية الجافة.

 

محمد آيت ميهوب: صورة الريف في «نصيبي من الافق»

بين الجنة والجحيم لعبد القادر بن الشيخ

صورة الريف في «ونصيبي من الافق» لعبد القادر بن الشيخ من حيث تصويرها منطقة ريفية تونسية في ستينات القرن العشرين زمن تجربة التعاضد مقدمة صورة عن الريف التونسي في تقابل مع صورة اخرى مناقضة هي صورة المدينة كما اضحت تجسده المخيلة الشعبية. فوصل الباحث الى ان صورة القرية في الرواية يتجاذبها بعدان متناقضان: بعد النعيم ويتجسد في الطبيعة وتوابعها وبعد الجحيم وهو ما يقترن بالحضور الانساني الاجتماعي اذ تهيمن على القرية مظاهر الفقر والجوع والظمأ.. مما جعل القروي الريفي لا يفكر الا في النزوح والالتحاق بالمدينة، الجنة المفقودة، ولكن القروي كما يمثله بطل الرواية سالم ينزح الى المدينة فلا يجد الا سرابا خلبا ويخيب ويصطدم بالحقيقة فيعود الى الحلم بالقرية من جديد.

 

ان اهمية هذه الرواية كما يبين المحاضر انها تعيد النظر في قضية النزوح وتتساءل ان كان النزوح سببا في تخلف الريف ام نتيجة له؟ وهل النازح مجرم كما يسود عند الناس ام هو ضحية؟

 

عامر الحلواني: رواية «منة موال»

 

 لفتحية الهاشمي بين إزم الواقع والحلم المدهش

من خلال المدخل الى الاشكالية والمنهج يطرح الباحث سؤالا مهما مداره التعامل النقدي مع النص الروائي التونسي الحديث المعاصر، سيما في هذه الرواية التي تعقد عملية التواصل بينها وبين المتلقي حيث تحاصره بحلم مدهش يتداخل فيه الواقعي والخرافي والعجائبي؟ لتعتم على الحدث وعلى علاقات السرد التقليدية، وتنفتح على عوالم غامضة تشي بمأساة عابثة تلدا المفارقة بين الواقعي واللاواقعي.

 

وركزت المداخلة على المرأة ككائن مظروف لتبين خصائص الازمة الاجتماعية التي تعيشها المرأة والمرأة ككائن مقهور: من المرأة الخادمة الى المرأة المضطهدة جنسيا الى المرأة العاقر الذلول الى المدانة والمغتصبة والفريسة والأم الخائفة. ثم انتقل المحاضر الى المرأة ككائن قاهر. ورصد اللاواقعي في الرواية وفيه يتنزل الخرافي والعجائبي..

 

وفي حديث جانبي لي مع الاستاذ عامر الحلواني قال انه قرأ الرواية بايعاز من الناقد محمد صالح بن عمر ولم يكن يعرف الكاتبة وانتاجها الابداعي من قبل، ووجد في هذا النص الروائي متاهات الحلم والتراث الصوفي، وبالتالي قدم قراءة حول هذا العمل الجريء، وتساءل ان كانت الكاتبة اكاديمية، لانقل اليه ان الابداع غير مقترن بالتحصيل العلمي وان الكاتبة ليست اكاديمية بل هي مبدعة شاعرة وساردة، فأردف بأنه من الضروري الانتباه الى الاسماء المغمورة في المشهد الادبي التونسي..

 

 

 

عمر حفيظ: صورة المكان في «وراء السراب قليلا» لابراهيم الدرغوثي

 

انطلقت مداخلة عمر حفيظ من تحديد المكان كعنصر بنائي ثابت في الرواية، المكان الذي لا يوجد على نحو مسبق قبل ان تجري فيه الاحداث وتحل فيه الشخصية وبين ان رواية «وراء السراب... قليلا» رواية تسرد سيرة المكان بعد ان حوله التاريخ وما جرى من احداث الى مكانة. واثر النظر في عتبات الرواية وعلاقتها بالمكان، قام الناقد عمر حفيظ برصد آلية الانفصال والاتصال في الكتابة ومن مظاهرها مراوحة السارد بين التاريخ والخرافة والفصحى والدارجة، والواقعي المعيش والمتخيل والمقدس والمدنس. وبما ان الامكنة باعتبارها مرايا متناظرة تكشف باتصالها وانفصالها لحظة من تاريخ الوطن الذي لا يزال في حاجة الى بناء ذاكرته الابداعية لان ما يقوله الابداع قد لا يقوله التاريخ الرسمي. قسم المكان الى قرية عتيقة والصحراء، والقرية الحديثة او قرط حدش وما فيها. وخصيصة هذه الرواية هي انها نقضت «فرضية الحد» للوتمان الذي لم يقبل الاختراق والهدم، عبر ما قام به الدرغوثي من تقسيم للنص الروائي لانه قسم قبل ذلك الفضاء الذي رسمه النص، لتحافظ الامكنة في هذه الرواية على حدودها الرمزية، ومع ذلك تتداخل هذه الامكنة وتنفتح على بعضها.

 

 خصوبة الفعل الثقافي والفني

وفي اختتام هذه الدورة الادبية وقع اشعال الشمعة الاولى على اشراف حضور الملتقى والمشرفين عليه في انتظار دورات قادمة يتحول فيها هذا المنتدى الى منارة تستقطب المزيد من الرموز الثقافية للبلاد التونسية، حيث تكشف تونس العميقة على بهائها في مركز حضورها البهي، وتكشف تالة التي لا تنضب عيونها المائية على خصوبة الفعل الثقافي والفني في اطار سياسة التغيير الشاملة التي تكرس الثقافة كمطلب اساسي في التنمية الفكرية.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1254 السبت 12/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم