تقارير وتحقيقات

دعوة للاعتذار.. مونو دراما عراقية على مسارح ستوكهولم

في مدينة يوردبرو جنوب العاصمة، وكان عرضًا خاصًا للجالية العراقية والعربية والطلاب العرب وكذلك مدرسي اللغة العربية.

وفي العشرين من الشهر نفسه قدمت الفرقة عرضها الثاني برعاية اتحاد الجمعيات العراقية في السويد وبضيافة نادي 14 تموز الديقراطي العراقي في قاعة ألفيك بستوكهولم وكان عرضًا عامًا لجمهور الجالية العراقية في السويد.

 

(هذه المونو دراما تتحدث عن معاناة مهندس عراقي، أحكمت الحرب طوقها حول حياته وعمله ومستقبله وحاصرته سنوات طويلة وأوصلته إلى مصير مأساوي مرير. يلتقي هذا البطل بأسرته التي سبقته إلى السويد بعد عشرين عامًا، ليجد نفسه وحيدًا وسط حصار نفسي لا يقل قسوة عن حصار الحرب، عاجزًا عن التعامل مع أبنيه وابنته وزوجته الذين التقى بهم بعد فراق طويل، وليكتشف أنه لا يصلح لأن يعمل مهندسًا أو يقوم بأي عمل آخر سوى الحرب التي شوهت أجمل سني حياته. وليكتشف أيضًا أنه لم ينجز في حياته العملية سوى طرق عسكرية وجسور من الحديد والخرسانة الخاكية البلهاء أعمارها قصيرة مثل أعمار الجنود الذين مروا عليها وابتلعهم حلق التنور.

 

المفارقة المفجعة التي يكتشفها البطل أيوب أن زملاءه من المهندسين كانوا يؤسسون ويبنون للحياة وهو يبني للموت. هم يصممون مسارح ومدارس ودور أيتام، وهو يملأ هذه الدور بالأطفال الذين مرّ آباؤهم في طرقه وعلى جسوره وماتوا هناك في الجانب الآخر، ليقرر بعد ذلك أن يضع سجل إنجازاته العسكرية ووثائقه فوق كفنه ويقدم اعتذاره لضحايا الحرب من الأحياء.

 

دعوة للاعتذار مونو دراما تدين الحرب وتلعن من يتسبب بها ويشعلها ويصعّد من أوارها.

وقد اختار المؤلف والمخرج أن يكون العمل بممثل وحيد، لأن البطل كان دائمًا وحيدًا، محاصرًا ومعزولاً أثناء الحرب وما بعدها بسنوات، وصار من الصعب عليه أن يعقد صلحًا مع الحياة، لأن الحرب هي التي شكّلت حياته وعمله وحددت مصيره ومستقبله.) "كلمة المؤلف والمخرج"

 

الفنان المسرحي نضال عبد فارس -القادم حديثًا إلى السويد- أبكى الجمهور وأضحكه وحبس أنفاسه وشدّ الانتباه إليه وهو يروي قصة أيوب المهندس العراقي الذي التقى عائلته بعد أكثر من عشرين سنة من الفراق، ويلعب دور البطل الوحيد للعمل المسرحي.

 

المسرحية من تأليف الشاعر جاسم سيف الدين الولائي وإخراج الفنان بهجت ناجي هندي.

يقول المؤلف بنيت النص على موقف حقيقي تعرضت له أنا وصديق لي في إحدى مقاهي ستوكهولم. حين لاحظ رجل كان يجلس وحيدًا أن عمال المقهى بدءوا يطفئون الأضواء ويجمعون الكراسي إيذانًا بإغلاقه. لم يكن الرجل يريد مغادرة المقهى، وحين طلب منا أن ندلّه إلى مقهى آخر يمكن أن يمضي فيه ساعات أخرى، سألناه لماذا لا يعود إلى بيته، أجاب أنه يحاول تلافي لقاء ولديه وابنته لعدم قدرته على مواجهة عيونهم التي تحمل ألف سؤال وسؤال، كان ينتظرهم حتى يناموا ليعود متأخرًا إلى بيته، لأنه لم يستطع الالتحاق بأسرته إلا بعد عشرين سنة من سفرهم بسبب الحرب وظروف ما بعد الحرب.

اخترت أغنية الفنان الراحل رضا علي (أدير العين ما عندي حبايب) فاتحة للعرض، لأن منظر تشييع هذا الفنان الكبير لا يغيب عن عيني، والصورة التي تكلمت عن غربة هذا الفنان في وطنه لا يمكن أن تفارقني، حيث كانت جنازته محمولة على سطح حافلة سفر وعلى خلفية الصورة يصدح الصوت الشجي بالأغنية شاكيًا من غياب من أحبهم أبو سامر وأحبوه.

بعد كتابة النص وضعت له اسمًا هو (أيوب عراقيًا) لكن بطل العمل ومخرجه ارتأيا أن يضعا له اسمًا آخر هو (دعوة للاعتذار).

 

رؤيا إخراجية.. الموسيقى فكرة وصورة

إضافة إلى النص المركّز أصلاً، والذي جرت عمليات تركيز إضافية عليه خلال فترة القراءات والبروفات الأولية، وصوت الممثل نفسه كعاملين لخلق الإحساس المطلوب داخل صالة المسرح، استخدم الفنان بهجت ناجي الموسيقى ثيمةً أساسية في العمل بغية تركيز الإحساس لدي المتلقي كي يشده إلى العرض ولا يترك له فسحة يخرج منها عما يدور أمامه، موسيقى المكان وموسيقى الحدث والموسيقى التي تفتتح كلاً من الحدث والمكان. كانت الموسيقى التصويرية هي الواسطة التي تنقل المتلقي من مكان وحدث إلى مكان وحدث آخرين. ولأن النص هو عبارة عن مونودراما طويلة، متصلة وواحدة لعب فيها الممثل دور الراوية والبطل معًا، فقد احتاج المخرج إلى فواصل وإشارات يضعها داخل النص ليتيح للمثل أن يروي أحداث المسرحية ويمثلها في ذات الوقت إضافة إلى مهمة صعبة أخرى اضطلع بها الممثل في إعادة ترتيب الديكور البسيط وعناصر العمل الأخرى، ولكل قطعة ديكور وعنصر مادي منها أكثر من وظيفة على المسرح. وحين ارتأى مخرج العمل وبطله تغيير مكان المشاهد من مقهى صيفي إلى حديقة عامة أو رصيف لمحطة للقطار، أبدل الكرسي بمسطبة والكرسي الأخر بجذع شجرة مقطوع يمكن استخدامه كمقعد بدائي. كانت للمسطبة أكثر من وظيفة منها وظيفتها المادية الأساسية إضافة إلى استخدامها كقضبان لسجن وجسر ونافذة، كذلك قطعة القماش التي تركها المغني قبل العرض كانت لها وظيفة المنديل، السبورة, المفرش، الستارة، بساط السجن وأخيرًا الكفن.

 

موسيقى المكان.. موسيقى الحدث

حين يصل البطل إلى رواية قصة استقباله من زوجته وصديقتها وصهره في المطار، تعطي الموسيقى شعورًا بمكان مزدحم تتحول إلى موسيقى أفراح حين يتقدم لاحتضان زوجته التي تتراجع خجلة من صهرها وصديقتها، هنا وظف المخرج الموسيقى لتصوير المكان والحدث. كذلك تقوم الموسيقى التصويرية بهاتين الوظيفتين في مشاهد البيت ومكتب العمل والنادي والمدرسة وجبهات الحرب ومشهد حمل الكفن وتقديم الاعتذار ومشاهد في أماكن أخرى، كلها مشاهد مركزة وقصيرة ضمن المشهد الواسع والوحيد للمسرحية نفسها.

 

ماذا تعالج المونودراما؟

(ابنتي استأذنت زوجها قبل أن تتكرم عليَّ بقبلة باردة. بعينيّ هاتين لمحتها وهي تلوي عنقها الجميل نحو زوج لا أعرفه سائلة إياه الإذن بعينيها النجلاوين. لم تطبع القبلة على خدي، إلا بعد أن هزّ الزوج رأسه مع ابتسامة هادئة تعني الموافقة.

 

يقولون: كل فتاة بأبيها معجبة. وأنا كل نصيبي قبلة باردة. ليش؟ شبيا آني؟ مو أب؟)

العلاقة بالأسرة هي أهم معاناة واجهها البطل أيوب في غربته. حين أوصل أسرته إلى بر الأمان في دمشق، ترك أسرته هناك وعاد إلى بغداد لجلب شهادته الجامعية وبقية وثائقه والعودة مجددًا إليها، لكنه ما إن وصل بغداد حتى اشتعلت الحرب وقطعت عليه طريق العودة، ليبقى عشرين عامًا بعيدًا عن أسرته، خلالها صار الطفل رجلاً والشاب كهلاً. بعدها صار أيوب كالغريب المدان محاصرًا داخل أسرته، لا يجرؤ على دعوة زوجته إلى النوم أمام أعين أبنائه التي تحمل أسئلة وإدانات.

 

(أيام وأنا أجلس جنب زوجتي مثل تمثال ميت، وهي مثلي بدورها مثل تمثال خجول تحت نظرات الأولاد. أقرأ في عيونهم عن تعريف الأب، رب الأسرة. من هذا الرجل الحائر والصامت الجالس قريبًا من أمهم؟ ما الذي يريده منها؟ كنت أغالب النعاس منتظرًا زوجتي أن تسبقني إلى النوم وأريد منهم أن يذهبوا إلى مهاجعهم لأذهب أنا بعد ذلك. أخجل من أن أعلن أنني متعب وأريد الذهاب إلى غرفتي لأنام. لأنهم ربما.. بل من المؤكد سيستاءون ويتساءلون بأي حق يأخذ هذا أمنا إلى غرفة نومها؟ وهم محقون. لم يتعودوا هذا الأمر.

فهي أمهم وأبوهم، معلمهم وطبيبهم، حارسهم وملاكهم. هي كل شيء. وأنا؟ أنا لا شيء.

لكن ما ذنبي أنا؟)

 

الحرب.. كوابيسها وما تركته في ذاكرة البطل

 

(للحرب ثقافة تغزو الروح وتُغير على كل ما هو نبيلٌ ونقي، لا تكتفي بما تأخذه من أرواح الضحايا فتتحول إلى أرواح الأحياء أيضًا تعيث فيها تخريبًا.. أيوب أيضًا).

 

انتهت الحرب ولم تنته بالنسبة لبطلنا أيوب. كل ما كان يرويه عبارة عن أدخنة وغبار وبقايا بارود محترق تخرج من روحه ورئتيه. علمت حياته وعمله حتى صار هو ذاته روحًا وجسدًا وفكرًا نتاجًا لتلك الحرب. في كل مرحلة يرويها عن معاناته مع أسرته، في عمله وسيرته وغربته كان يتوسل ويعتذر بالحرب.

 

(أنا المهندس أيوب، لم أخدم سوى الحرب ونياشين الجنرالات، فمن يجد لي عملاً؟ بنيت جسورًا أعمارها قصيرة مثل أعمار الجنود الذين عبروا عليها. ما أن يكتمل بناؤها ويعبرها الجنود حتى تأتي الطائرات لتقصفها، وتصب المدفعية جحيمها فوق كل ما بنيناه. كانت أشبه باللعبة المتكررة، نبني فيخربون، يبنون فنخرّب نحن. وكأننا كنا نبني جسورًا من رمل.

في الحقيقة أنا لم أعبأ بجسوري المحطمة وطرقي الممزقة، ولم أحزن لأعمارها القصيرة. كانت مجرد خردة من الفولاذ الخاكي الممزق والخرسانة العسكرية المحروقة. كنت قد تحولت من ثقافة الإبداع إلى ماكنة الإنتاج الواسع لذلك لم أهتم كثيرًا.)

 

 

العمل هو معاناة كبرى يتعرض لها البطل. هو مهندس للطرق والجسور. لم يبن في حياته سوى طرق وجسور للحرب عبر عليها الجنود وماتوا في الطرف الآخر منها.

تتعرض المسرحية لحالة البطالة المتفشية بين المهندسين في السويد، وخصوصًا الأجانب منهم، وتتحدث عن عشرات المهندسين والمهندسات العراقيين والعراقيات الذين يعملون بوظائف وأشغال أخرى بعيدة عن اختصاصاتهم. فكيف لمهندس عراقي تجاوز الخمسين وقضى جل حياته العملية في الحرب ومن ثم السجن، يمكن أن يجد عملاً باختصاصه في بلد يغص بالعاطلين.

 

(العمل هو الحل.. هكذا فكرت. ألم أقل لكم أنا فطير؟ أفطر من الشِجر! وكأن السويد كانت بانتظار شهادتي هذه.

يرفع ملف وظيفته ويلقيه بسخرية مُرّة.

في مكتب العمل كنت بحاجة إلى مرآة لأنظر إلى نفسي وأرى كيف كانت هيأتي حين التقيت ذلك الرجل الذي حدثني عن انجازاته المعمارية في أكثر من مكان في العالم. لم تكن سيرته الذاتية صفحات وشهادات عن حياته المهنية فقط. كان الرجل يحمل ألبومًا من الصور التي تؤرخ حياته كمعمار مرموق. هنا صورة لعمارة سكنية صممها وبناها في المدينة الفلانية، وهذا مبنى بلدية الناحية العلانية، وهذا مبنى بريد، وهنا مدرسة، وذاك ملجأ أيتام بحدائقه وكأنه واحدة من جنان الله. سيرة نقية واضحة.

وأنا ماذا قدمت؟

أين ألبوم إنجازاتي؟

أين طرقي وجسوري؟

 

الحرب أكلت سيرتي وإنجازاتي دون رحمة. مزقت كل طرقي وحطمت كل جسوري. لم أشد جسورًا وأعبد طرقًا إلا نحو جهنم. لم يسر على طرقي ويعبر جسوري إلا الأموات.

الجنود.. أولاد الخايبة.)

 هل علي أن أبحث عن حرب لأجد عملاً؟

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1260 الجمعة 18/12/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم