 مناسبات المثقف

في زنزانة الحب الإنفرادي

salma_belhajmabrokكانت الليلة شديدة البرودة على غير عادتها وكانت أغصان الشجر وقد كساها حوليّ من أسورة الثلج البراق تتموج راقصة على وقع عزف الريح ونقرات حبات المطر مؤلفة عزفا يهز أشواقا توقظ فيا رغبة الاعتكاف داخل نفسي المتعطشة لبعض من رذاذ أحلام اليقظة.

خلف الأبواب المغلقة تسكن الأحلام وقد لبست ثياب الصمت والسكون المترهل...خاطبتها من خلف نسغها الذابل:" أيتها الأحلام النائمة في كهوف بحر الظلمات كوني كما أريد ولننه المسألة..كوني رغبتي المتمردة...كوني سفري ورحيلي كوني وكوني إلى ما لانهاية..." هل تراها تسمع أو تفهم أو تعي...؟

لكنها للأسف لا تريد أن تكون إلا عنيدة متمردة...تغرق في زمانية وقتية بائسة جائعة تلوك ظل الأبدية الباهت على أهرامات من دموع شوهتها شهوة اليتم. كم يذهلني حجم عنادها تلك الأحلام العاطلة عن العمل تائهة شاردة كما تشرد زرقة البحر في زرقة السماء فيضيعا في بعضهما... المكان من حولي وأنا فيه يبعث فيّا بعضا من حيرة بسكال وهو يقول " حين أنظر إلى المكان الصغير الذي أشغله بل أراه وهو غارق في العظمة اللامتناهية للفضاءات التي لا أعرفها ولا تعرفني أشعر بالهلع والدهشة من أنني كائن هنا ولست هناك " ولما لا أحتار كما احتار باسكال من هذا الوضع فهل أملك مبررا واحدا لما أوجد هنا وليس في مكان آخر؟ ولما أوجد الآن وليس في زمان آخر؟ ولكن شيئا واحدا فهمته من عدم الفهم الذي ينتابني كعاصفة هو أن هذا الهنا والآن أعطاني انطباعا بأن شيئا ما يحدث أو حدث أو سيحدث و لا أفهم معناه....ليبقي العالم على غموضه كما يشاء...أنا من سيحتاج غموضه ويجتاحه لأن غموضه هو حبري وفوضاه هو كلماتي وأحرفي، ونظام فوضاه هو فوضى نظام أدبي ولا خوف من ذلك مادام الأدب يخلق الإنسان.

فقط ما يزعجني هو أن تجدف بنا الحياة على إسفلت الجراح غير عابئة بصوت الأمنيات الفرحة.

فمنذ انتصاب أحلامنا واقفة تمشي على قائمتين غادرنا الفرح الحيواني الغريزي الطاهر وحل محله العذاب الميتافيزيقي..فجأة التمع وميض شلال الأسئلة الجارف في أدغال أحاسيسي الغامضة شاهرا سيف الهلع فيها. وهاهو يتبجح بكل وقاحة مهددا سلمي و استقراري النفسي. ولا أعرف كيف عصفت غربتي بسكينتي ليندفع كل شيء في اتجاه الحيرة...وكيف لا تكون الحيرة سفينتنا ومركبنا وقد صارت الازدواجية وانفصام الذات وانشطارها إلى نصفين هي الفراش الوحيد الذي ننام عليه...؟

لا أفهم سبب تهاوي ركام كل هذه الحيرة فجأة على أم رأسي ولا كيف انتابني سؤالها الغريب؟؟ هل يمكن أن تشحب زرقة السماء يوما فتسحب زرقتها الفيروزية من البحر و تنزع عطاياها الثمينة عن الأرض وهل يمكن أن تفر المطر من الغيوم وتتركها جدباء دون دمع يطهر أدران حزنها؟؟؟

 

شعرت أن حتى الطبيعة فقدت جرعتها الأبدية و صارت تبدل ثياب فصولها بصورة انقلابية مباغته حتى خلت أن الانتقال من فصل إلى آخر باتت أسهل من استبدال قفاز بآخر ربما هي تتشبه بطبيعة البشر تريد أن تكون مثلهم في تدهورهم....

في هذا الفضاء المغلق على امتداد اللامتناهي ارتد بصري حديدا ينقب في كل شيء وفي اللاشيء.....

ألمح بمشاعر متناقضة شعاع نتف الثلج يهطل بحنان على بلور نوافذ روحي يبرق فيها صور الماضي المتعاقبة بسرعة البرق وبقدر حدة لمعان البرق وبريقه النافذ إلى معتقل الصمت يلمع رذاذ الأفكار المزدحم على طوابير الحنين كل ذكرى تود أن تقدم نفسها على أنها الأجمل والجديرة بالخلود وأنها من تستحق أن تشيد تمثالا من الذهب الخالص في معابد آلهة الحب فينوس فتقام حوله رقصات الحب الصوفية ويشرب من آنيتها الأسطورية الطافح بلذة خمرة الحياة مجانين الحب.. جنون الحب لحظة فارقة لأن الواقع الوحيد الذي يوجد عند المجنون هو واقعه الخاص الذي يوجد داخله و ذاتيته العميقة المنفصلة عن العالم الخارجي بمعنى آخر إن الواقع الوحيد الذي يراه و يعيشه و يسمعه هو الواقع الذاتي لا الموضوعي ألهذا السبب لا ينجح الحب إلا بالفشل فيه؟؟؟ لأن حقيقة الأمر أن من يدعي أنه يحب شخصا آخر إنما هو في الحقيقة يريد أن يكون محبوبا لا محبا فهو غير قادر على مغادرة نرجسيته و حبه لذاته أن حبه للآخر هو مجرد إسقاط لحب الذات لدرجة أننا لا نحب شخصا إلا وفقا للصورة الخيالية التي نرسمها مسبقا عنه و الحب هو إسقاط هذه الصورة على من ندعي أننا نحبه لدرجة التماهي معه و الظن به أنه شبيهنا و نسختنا لذلك نسقط في حبه لأن الحب هو من هذه الناحية استمرارية لحب الذات و من هنا تنتهي أغلب تجارب الحب بالفشل حتى تلك التي نخال أنها قد نجحت ذلك أن شرط نجاح تجربة الحب يتوقف على الكف عن حب الذات و توهم الآخر على صورة الأنا و تحويل الواقع الذاتي إلى واقع موضوعي وهو أمر يبدو في غاية المستحيل. رغم أني كنت معتكفة بغرفتي غير أن كان كل تفكيري منصبا على ما يحدث خارجها فلغضب الطبيعة سحر لا يقاوم وللشتاء مذاق فاتن حيث تغدو الوحدة توحدا وسفرا في أعماق البياض اللا محدود حيث تنعتق الأحاسيس من كسلها باحثة عن شبيهها وقد تجد في غضب الطبيعة الشتوية امتدادا لحالتها النفسية.

فيخيل إلي أن عناقيد الغيوم السمراء تذرف دموعها بسخاء فتخرج ما علق في قلبها من حنق عشق السماء تتفجر عيونها وابل مطر مندلق كخيوط الحرير كأنها تنزف قصة عشقها للبحر والشمس كما تنزف قصص الحب عندنا فتصب جام غضب حبها على تربة الحديقة اليافعة، واختلط الماء بالتراب مكونا عطرا فطريا لذيذا حالما إنه عطر التراب النحاسي الذي يذكرني بقصة النشأة الأولى "كلكم لآدم وآدم من تراب" يا لها من قصة رومانسية خرافية جميلة تشبه قصة حبنا العجيبة بتفاصيلها المفرحة والأليمة.

أحاول لملمة بعضا من نزيف تبعثرها وكأنني أجمع بحذر شديد شظايا من البلور المهشم أحاول عبثا إعادة تركيبه عسى تتضح منه بعض الملامح أو كمن يجمع رسالة ممزقة عله يجد عبثا في إعادة إلصاق حروفها الضائعة عن بعضها بعض دلالة لمعنى الحروف الهاربة والمبعثرة مندفعين بفضول طفولي نهم إلى معرفة تفاصيل الحكاية.. أو حتى بعض من تلابيبها.

ألسنا كلنا لصوص وفضوليون وعندما نعجز عن التلصص عن الآخرين فإننا نتلصص على أنفسنا أليست اللصوصية؟ ومطاردة أسرار الآخرين جبلة في الإنسان وفضوليته وتطفله على أشياء الآخرين فيها من المتعة والرواج تفوق متعة انجاز عمل مفيد؟.

وأنت عزيزي القارئ ألا تنتابك شهوة التلصص على عالمي..؟ ألا تجذبك روائح الفضولية النهمة المنتشرة في تجاويف الأحرف ورعشة القلم وغموض وتمزق الأحاسيس...؟ إن كانت صحتك الفضولية تمام التمام فلن أحرمك هذه المتعة ولا هذا الشرف. وإيمانا مني برغبتك الجامحة التي تسكنك وتسكنني وتسكن كل إنسان مصاب بعافية مرض الفضولية فليس أقل من مكافأتك بدور القارئ البطل.

وليس أفضل من هذه الوضعية حتى تخرج قارئي العزيز من وضعية الحشد التي أنهتك إليها ثقافة العولمة والتعليم ألتكميمي التي أجهضت على مشروع إنسانيتك ورمت بك في فوهة العدم واللاانسانية واللامسؤولية...

هل تشعر بما أشعر به وهل تفهم ما أحسه وهو إحساسك؟ أنا أريد أن أقص عليك تفاصيلي التي هي تفاصيلك وتفاصيل كل إنسان في حاجة إلى أن يسكن إنسانيته بثورتها وغضبها وتناقضاتها وانفعالاتها وكل ما يخترق طبيعتنا من لا طبيعة ولا استقرار وكل ما يعترينا من جموح لجمع شتات ذواتنا الممزقة والمتشظية والمتكسرة على صخور الريح....

لكن عبثا نفلح في جمع ما تكسر ولمّ ما تبعثر...ونحن نطرق بأعيننا أبواب الجحيم المفتوح على قارعة الماضي

فهل توافقني عزيزي القارئ فيما أنا ذهبت إليه؟ أعرف أنك لن تجيبني الآن لأنك لن تقرأني إلا بعد النهاية من كتابة قصتي ولكن ليس مهم أن تجيبني الآن ولكن الأهم هو أن تجيبني فأن تأتي إجابتك متأخرة أفضل من أن لا تأتي أبدا وتظل محتميا بحصون اللامبالاة ومعتكفا داخل مساجد النسيان تكبر للاستقالة وتسبح لوضع لا يكون فيه الإنسان إنسانا.

معذرة فاسمح لي الآن أن أحدثك عنا نحن البشر عن طبائعنا وغرائبنا وعجائب نفوسنا التي تهوى الركض خلف السراب ليست لندن وحدها عاصمة الضباب بل توجد في نفس كل واحد فينا قارة للضباب بأكمله.

ولكن تلك هي طبائعنا نحن البشر لا يحلو لنا ولا يشفي غرورنا سوى مطاردة الأوهام والركض خلف المستحيل وكأن طبيعتنا جبلت على أن تبحث عما ليس نحن. وحتى لو قدر للإنسان أن يصير إلها لبحث عن شيء آخر غيره يكونه.

كنت أعرف كل ذلك ولكني أبيت إلا أن أستمر في غيي البشري وإصراره على مطاردة عبثية للمستحيل نعم هكذا نحن البشر نعلم ما هو ممكن وما هو مستحيل لكن عندما نختار فإننا لا نختار إلا ما لا نقدر عليه وعنادنا يأخذننا بكل غرور للاندفاع لاختيار ما هو غير ممكن.

فلا غرابة إذن إذا كنت أعلم أن حبك نوعا من المستحيل. ولا غرابة أيضا أن نندفع متحمسين لنلقي أنفسنا في يم الحب، نتلهف للحب نرتمي في أحضانه وكلنا رغبة في امتلاك من نحب والاستحواذ عليه كالمتلهف إلى امتلاك السلطة يتجه غازيا طامعا لامتلاك العالم فإذا به يخسر نفسه. هكذا نحن في الحب لا نستفيق من غيبوبته واندفاعنا الحماسي تجاه من نحب إلا وقد أضعنا أنفسنا. كم هو غريب ما يحدث أعرف كل هذا.....و.... أعلم تفاصيل معاملات الحب وأعرف مدى فداحة الخسارة المتوقعة وأنت ترهن كل مشاعرك في بنك الحب المركزي...بالتأكيد رهان خاسر قد تصل فيه درجة خسارتك إلى حد إعلان إفلاس عقلك وصوابك والتحاقك بصفوف المجانين....بل كانت قناعتي تزداد وضوحا يوما بعد يوم أن الركض وراء الحاسة السابعة لا يعدو أن يكون سوى ركضا صوب المقصلة....أعرف هذا بل أعرف أكثر من ذلك إلى درجة أني بمقدوري أن أصوغ لكم تقارير عن حجم الكارثة المترتبة عن مشاريع الحب. هل تريد أن تعرف ماذا يعني أن تحب بصدق؟ إنه ليس شيئا آخر سوى أنك تقوم بالإمضاء على صك مشاعرك الأبيض.

أعرف النتيجة المستقبلية عن خوض تجربة اللعب حبا وكأنها ماضي إنها بمثابة اللعب بالألعاب النارية التي يمكن أن تنفجر في الوجه في أي لحظة. ومع ذلك وأمام كل هذه التهديدات لزلت أمارس كل أنواع العصيان والتمرد أمام دويلة عقلي تقودني رغبتي اللامحدودة في ممارسة طقوس حب متمرد مجنون...وكم أعشق هذا الحب كلما تمرد عليا كلما زادت قناعتي وتمسكي به. يا له من سبات دغمائي انتهت إليه أحاسيسي ويال هذا العماء الذي يعشش في أركان قصر القلب العاج بدماء الحب البنفسجية.

وعدت إلى نفسي أسألها فربما أبحث عندها عن نوع من المعاضدة والمساندة لصياغة بيان الحاسة السابعة....وما أدراني أني سأجد عندها مثل هذه المساندة؟ قد تكون حاستي السادسة هي من أعطتني مثل هذا الانطباع أو ربما إدعائي معرفتي العميقة بطبيعة الطبيعة البشرية....لا أعلم... ولكن ما أنا متأكدة منه أن لدي رغبة جامحة في انتهاك أسرار مدينة الحب وفك طلاسمها فربما

يكون هذا الحب من لحم ودم.

كم هو مسكين كم أعدم في ساحات الأنانية، فباسم الحب يعدم الحب ونعدم من نحب نصلبه على صليب نزعة تملك من نحب إننا نحب لحد الموت ونحب حبيبنا لحد الاغتيال والقتل....ويعلو صوت انتصار الأنانية فينا لقد قتلته حبا أو بالأحرى قتلته لأني أحبه... ما أشد قسوة تلك الحقيقة حين نعرف أن الحب لا يعني في جوهره سوى نزعة لا محدودة للاستحواذ وتملك الحبيب وإذلاله تحت سياطه لدرجة أننا لا نقتنع بحب شخص لنا إلا إذا شعرنا أنه قد تخلى عن نفسه لنا أو قتل ذاته لكي تعيش ذاتك. الحب إرهابي لأنه يمنحنا شعورا بأننا نسير ضد التيار وخارج قوانين العقل المعقول...

للحظة شدني منظر الفانوس المنتصب فوق مكتبي وهو يبث شعاعه الشاحب فيلقي بنوره الكئيب على حزمة الأوراق الملقاة بفوضى متقنة فاقت كل أنواع الفوضى إتقانا وهاهو كتاب "هكذا تحدث زرادشت" يحاول أن يطل بعنقه الطويل الشامخ بين كثبان الفوضى ساخرا من صمت المكان.

حدثت نفسي ساخرة " تعرفين كل ذلك....؟؟ يا الهي إنه قتل عن سابق إصرار وترصد...

هل أنت واعية بكل هذا..... وما فائدة أن أعرف كل ذلك إذا كنت ما أعرفه هو نفسه ما يدفعني إلى فعله؟ قتل ومستحيل ولهاث لا جدوى منه سوى إرضاء نزوتنا في الركض خلف ما لا نستطيعه.

ورغم ذلك استمر إنها لعبة مسلية... أليس هذا ما تريدينه؟ ألست من هواة جمع المستحيلات ومطاردة الأوهام وتشييد قصور من خيال.....؟ استمر إذن ولا حرج فليس على مريض الحب من حرج.

شعور مخيف اجتاحني يا الهي هل قلت مريض الحب؟ إنها كارثة حقا لو كنت من المنتمين إلى مصحة أمراض مجانين الحب العقلية. وماذا تريدين أن تكوني غير ذلك وأنت....ما أنت؟؟؟

ماذا سأقول عنك وأنت لزلت تصرين بكامل مدارك الحب العقلية على الركض خلف حصان زبد الحب الأهوج..؟؟

أندفع إليه بكل شغف وجنون وكأني لا أعلم هذه الحقيقة أو كأني لا أريد أن أعرفها.

يأل هذا الإنسان المسكين إنه وحده من يصنع أكواخ الوهم ليقيم فيها ظنا منه أنه يسكن قصور الحقيقة...هل كنت أعلم...؟ وهل كنت أحلم...؟ ربما سيكون الحلم أفضل ألم يقل شاعر ألمانيا العظيم هولدرلين "إن الإنسان يكون إله حين يحلم ويكون شحاذا حين يفكّر "...؟

. عج ذهني بصورك المتقاطرة على خيالي وهي تتزاحم كلحظات منفلتة من لظى الإهمال تطفو على سطح الوعي الغارق في خلجان روحك ولا أجد حرجا في ممارسة فن الضياع معك وفيك، أهيم في تفاصيل مدينتك المضاءة بفوانيس الحب والرغبة. باحثة عني فيك وباحثة عنك فيا فأي ضياع أجمل من هذا؟ وأي تسكع أجمل من التسكع ركضا في شرايينك العبقة بريح القرنفل؟ كل ما أعلمه وما أريد أن أعلمه أنك كلما أمعنت غيابا كلما ازددت جلاء و حضورا وحضورك الغائب في غياب الحضور كاد ينسيني برودة الطقس في الخارج و الليل القارص المنتشر على أسوار مدينة النور لشيء بسيط أنك منتشرا في روحي لهبا يلتهم صقيع المكان ويفتت مستنقع الزمن الآسن بألم تأجج الحرمان.

رغم كل الذي حصل وما لم يكن ليحصل لأنه لن يستطيع غير أن يحصل فإنك لزلت منتصبا في روحي كتمثال بوذا وعندما أستحضر غيابك أشعر وكأني في زيارة مكان مقدس حيث استحم في أحواضه المباركة وأتلو بعض التراتيل والكلمات غير المفهومة المتمتمة أمارس طقوسا وثنية حتى لا أشفى من نسيانك.

ومن قال لك أني أريد أن أشفى منك؟؟؟ ومن قال لك أني أبحث عن وصفة لأنساك وأرمي بك في حديقة ذاكرتي الخلفية؟؟؟

مساكين من يبحثون عن قنينة النسيان كمن يبحث عن لقاح التفويد أترى يرون في الحب وباء أخطر من أنفلونزا الخنازير؟؟؟

غرق المكان في حرمان متزمت ولم يبقى أمامي من حيلة أغالب بها ضجر الليل سوى أن أشرب نخب الوحدة ونخب بعض ظلال ذكريات ما تفتأ تتهاوى ساقطة أمامي ممددة كجسد هامد أعياه الإعياء. لم أنتبه إلى حضورك الحارق بين نتف الثلج المتساقطة كحبات اللؤلؤ على بساط الريح الوردي. ولم أتخيل أن صقيع المكان يمكن أن تنبعث منه روائح وجهك الدافئ وتفرض علي أن أتنسم هواء حضورك العنيف حتى وأنت غائب بل لولا الغياب لما كنت لأمتلئ بحضورك حتى أني أكاد أجزم أنه لم يكن لحبك كل هذه الكثافة لو لم تكن بعيد المنال لأمر بسيط أن الحب ما هو إلا حالة من الانفتاح الشعوري بلا ذات حيث تحكم الذات على ذاتها و تجبرها على الإقامة الجبرية داخل معتقل الحب ألإنفرادي، في هذا المعتقل يوجد سلم أحده ينزل بك إلى باطن الأرض حيث تدفن الأحلام و الآخر يصعد بك إلى السماء حيث تتلاشى مشاعر الحب كما تتلاشى الغيوم الكاذبة الجدباء... فكرت أن أقترض من شريط الماضي بعض الحنين أتدفئ به من قيض البرودة الملتهبة في روحي وأداري وحشة المكان.............فهل سينفع مثل هذا الاقتراض و هل يمكن أن يسدد ديون فاتورة الحب الباهظة؟ أعتقد جازمة حينما نكون لا يكون الحب و حينما يكون الحب لا نكون....

و مع ذلك أعترف أني بكل ما أملك من أسلحة أحاسيسي المغتسلة في بحر الانقلابات وهي ترتدي تيجان هوس أمواجه المتكسرة على صخور الوهم أنني لم أفلح ولن أفلح في دفن صورتك في مقبرة النسيان ربما لأني لم أكن أريد نسيانك. كان كل شيء منك يحاصرني يقبض علي ويصادر أنفاسي ويتعقب حشرجة حاستي السابعة... الحب.. ولا شيء غير الحب هو كل حواسي حتى إني حاولت الهروب من كل الأمكنة فلم أفلح وكيف تريدني أن أفلح وأنتصر وأنت من خلق أمكنتي وأزمنتي؟؟؟؟؟ يا إلهي كم أشعر أنني في ورطة حين أود الهروب منك أجد نفسي قد هربت إليك؟ هل من المعقول كلما هربت منك باحثة عن الاقتراب من نفسي لم أجد في قربي من نفسي إلا اقترابا منك أي سجن ممتع وجميل أنا فيه؟ و ها أنت لا تنفك عن مطاردتي كأشباح من العالم الآخر يصعب إمساكها أو حتى رؤيتها علي أقنع نفسي بأنها مجرد خيال. هل كنت أحتاج إلى مثل هذا الدليل حتى أتخلص من شبحك الذي لا يكف عن القهقهة سخرية من محاولاتي العابثة في التخلص من نار ذاكرتك التي تلتهم عالمي دون شفقة.

كنت لا تفك عن مغادرتي ولم تمر ليلة لم تنم في سرير عينيّ الحريري ولم تتوسد وسادة أحلامي المنتفخة بريش نعام الأحلام. هل ترى خلق الله لعيوننا أهدابا كي نظلل بهما من نحب؟

كنت أطبق جفنيا بكل حنان حتى لا تخطفك أضواء وضوضاء العالم الخارجي وتذوب وسط عالم غرق في فلسفة الرياء والنفاق. أتراك سقطت في وحلها أنت أيضا....حاولت بكل ما أملك من طاقة أن أنزع قناعك ولكن اكتشفت أن وجهك صار قناعا أو أن القناع صار وجهك. الحقيقة أني لم أعد أعرف من كان الوجه ومن كان القناع؟

ورغم كل شيء لم أرغب لحظة في إسقاطك من ذاكرتي ليس رأفة بي بل رأفة بك لأني كنت أعلم مدى حاجتك أن أكون معك وكنت مجنونة تهوى اللعب بالمستحيل وتهوي القفز على مرتفعات التحدي وترفض العيش بين حفر التاريخ ومستنقعات الهزيمة حتى أني لم أهدأ يوما ولم أكف يوما عن استحضارك في واجهات الذاكرة وكأنني أقف مبهورة أمام واجهة محل مختص ببيع الحجارة الكريمة والنادرة أتأمل لمعانها المغري هكذا كنت أنت فلم تمضي لحظة ولم تحطّ فيه بريق ذكراك بكل ثقلها على كتف ذاكرتي المتعبة بأوزار الحنين.

لم أكن أعلم حين اندفعت نحوك بغريزة حب طفولي أني كنت طفلة لا تملك أي منطق حين تحب أشياءها سوى منطق أن كل ما يقع عليه نظرها ويجتاحها عاصفة حبها فهو ملك يمينها وتستطيع أن تستحوذ عليه بكل عنف الحب وأنانيته أليس الحب أنانية مقلوبة...؟؟

الحب هو الأنانية فمن سيصدق ذلك؟؟ ولكن بالتأكيد هذا ما يعلمه لنا الأطفال وهم يحبون بكل براءة بقدر ما نحب نكون أنانيين أكثر في حبنا لدرجة التدمير...وهذا ما فعله حبي الطفولي نحوك وما علمني إياه أن تحب معناه أن تدمر؟

هذا ما حدث معك لأني أحبك بكل عنف فأنني لهذا السبب يمكن أن أدمر نفسي وأدمرك معي لا منطق للحب والمنطق الوحيد الذي يملكه أن ليس له منطق فلا معنى لقول " علي وعلى أعدائي" في جمهورية الحب" بل عليا وعلى من أحب، ولا مجال فيه لديمقراطية المشاعر ولا حرية الأحاسيس فبمجرد أن تقبل الانضمام لهذه الجمهورية تكون قد قبلت العيش بين جدران نظامه الاستبدادي وقبلت أن تكون خاضعا مطيعا لسيادة دولة الحب ولحكم فردي يستبد بك لتستبد به.

إنه خضوع وامتثالية.ولكنه خضوع نعشقه وسير حثيث الخطى نحو حتفنا المجنون.

فهل كنت أعلم أني وأنا أمارس عجرفة الحب بأني أمارس لعبة خطرة وأني كمن يمشي على زجاج ماء مهشم حافيا أحث السير إلى مدينة مجهولة العنوان سكانها من المجانين والمعتوهين والتائهين؟ فهل حينما قررت أن أحبك كنت حقا قد قررت أن أحبك فعلا أم أن حبك حل علي دون أن أختاره كالقدر حين يتفنن في انتقاء ضحاياه ويحط بثقل رزاياه ساخرا هازئا؟

هل كانت لحظة حبك قدرا أم حرية وهل عندما اخترت أن أكون ضحيتك أو شاء القدر أن أكون ضحيتك كنت وقد أعلنت حبك راضخة وحرة بهذا الحب أشتري سمكا تحت الماء أو أطارد عصفورا في السماء؟ هل كنت أعلم أن الطريق المؤدي لحدائق عينيك المعلقة لا تعدو أن تكون تيها معبدا دموعا وقسوة وأحزانا؟ ماذا كنت سأسمي هذا العشق المجنون الذي كان يختفي في أدراج الصمت ينتظر لحظة انبلاج فجر حريته وانطلاقه كحمائم بيض مجنحة الخيال. أجدني وأنا أستحضر صورتك المنقوشة بداخلي تنازعني أهواء متناقضة وأدخل في صراع أليم مع انفعالاتي وأحاسيسي وهي تحاول أن ترشيني بضرورة هذا الحب وأهميته ولسان حالها يقولوا:" أحبوا تصحوا" وبين تجاربي الصاخبة معك وتكسر أمواج حبك الجارف على صخرة لا مبالاتك وما جلبته من متاعب.

في هذا المكان المكفهرّ انبعثت روائح عذابات الوحدة كانت ستغرق المكان في صليل الأحزان وضجيج العبث لولا هذا الانبعاث المفاجئ والمسلي لصوت ملائكي يخفف وطأة الحرمان الذي بدأ يتحول مع مرور الوقت إلى جبل شاهق يفوق ارتفاعها ارتفاع جبال الهملايا.

انساب الصوت الملائكي يداعب ذاكرة الوجع يهيج أشواق الليل للقمر حينا ويطفئ لهب العشق أحيانا وراء جمجمة الماضي. انبعثت من الاسطوانة التي كنت أسمعها عشرات المرات بل مئات المرات صوت فيروز المدغدغ لحاسة الحب إنها الحاسة السابعة التي ما فتئت تذكرني بأن انتظارك شتاء ضاجر لا ينتهي وأن رحيلك بمثابة رجع شتاء أمطاره من الجصّ الأبيض كتلك التي تبنى منه قبور الموتى وسرحت مع كلماتها " يا حبيبي الهوى مشاوير قصص الهوى مثل العصافير لا تحزن يا حبيبي إذا طارت العصافير غنية منسية على دراج السهرية...رجعت الشتوية ظلّ أفتكر فيّا "... كم تشعرني هذه الكلمات أنها تعنيني أكثر مما تعنيك رغم أنها من المفروض أن تعنيك أكثر. فهي تقضم ما تبقى من حاضر ماثل في الماضي.

 

وإذا كنت أشعر بأنها تعنيني فلأني قبلت عن خطئ أن أكون مومياء أنتظر دوري في الموت خلف قضبان تمردك الطفولي وثورتك المجنونة. هل تود أن تفرغ فيّا رصاص مسدس عشقك؟

أذكر آخر رصاصة حب منك إنها استقرت في شراييني المؤدية للقلب وعلقت على جدرانه كلوحة رسمها دي فنشي أو مجنون العبقرية دالي. صار حبك موناليزا تزين جدران قلبي في بهو التاريخ الخالد الذي سيتحول حتما إلى مزار للعاشقين في يوم ما وستقام على حوافه الولائم والكرامات وسيزورنه العشاق بالآلاف لتقديم النذر ولإيقاد شموع الحب في ليالي أعياد الميلاد وفي ذكرى سان فلانتان.

قد لا يعنيك ما أقصه ولكنه يعنيني لأني اخترت من وجهك المراوغ معتقلا لروحي وجعلت من عينيك منفى لأحلامي وأيامي.

نزحت إلى قلبك متعطشة لسماع همس دقاته عله يزل ببعض الهذيان، بشيء يذكرني بنفسي عندك كان كل همي أن أستوطن في مرافئه وأن أطل من شرفته الوردية على جزيرة السعادة.

لم أتوقع أن الحب كلما كبر إلا وضاقت به صدورنا وشعر أنه في ورطة وأننا لم نعد نمثل بالنسبة له سوى سجن أو قفص تحبس طيور مشاعرنا. هل من المعقول أن تكون عواطفنا شبيهة بالعصافير المهاجرة التي لا تحن إلا إلى الرحيل وأن السقوط في فخ الحب لا يعني سوى الهجرة من وطن إلى وطن كلما بنا الحب عشا له إلا وهجره بعد حين باحثا عن عش آخر؟

تذكر كيف كان يأتي صوتك رقراقا كنهر من عسل الفردوس كلما نهلت منه إلا وازددت شوقا لمزيد من الشراب وازددت عطشا ولهفة لسماعه.

كنت تعلم أنك كأسي وخمرتي المعتقة التي لا أمل معاقرتها إذا ما اقتحم طيفك فجأة جدران وحدتي وأغرقني الشوق إليك. فتسكن نفسي إليك تهرع إلى حانة ذراعيك وتلقي بحمل الحب على صدرك. عطر شفتيك كان ينفذان بكل عنف من شقوق الذاكرة يغريانني بتمزيق حمرتهما وبملامسة عناقيد زبد الشوق المرتسم على ثغرك المتوهج كاحمرار الشفق وهو يتوارى خجلا في حضن الليل.

خلف أسوار الوحدة بينما كنت منشغلة بتفاصيلنا رن جرس هاتفي ليفسد علي طيف أحلام اليقظة ويقطع شرشف الذكريات الجميلة. إنها صديقتي مرام تعلمني بخبر زواج صديقتنا من حبيبها بعد قصة حب امتدت على عشرين سنة.

نزل الخبر عليا كحمم بركان متفجر، رديت عليها: ماذا.......؟

يا الهي هل قلت قد تزوجا بعد قصة حب أسطورية امتدت على عشرين سنة....مات الحب إذن....سقطت أسطورتهما....

-انبعث صوتها من الجوال مضطربا ربما لم تصدق ما سمعته مني:وقالت في حيرة ":هل تعنين ما تقولين؟ أمعقول ما تقولينه.....ربما خيل إليها أنها تتحدث مع شخص آخر غيري مع أحد مجانين العالم المنتشرين في العالم والذين فتك بهم الجنون بسبب الحب أو السياسة أو ظنتني أني جننت

-أو ربما أهذي كما يهذي بعض الفوضويون الروس حين اعتبروا أن زوجا من الأحذية أنفع من شكسبير كله.

-سألتني: لما كل هذا التشاؤم؟

-تشاؤم؟؟؟؟ ربما... لما لا تقولي واقعية؟ أليس المتشائم هو مثالي مست كرامته " ولا أعتقد إني مثالية...و انفصل الخطّ و انقطع الاتصال مع صديقتي... ربما أرادت التقنية أن تتضامن مع أفكاري و تخلصني من ثرثرة هذه الصديقة التي ربما لن تفهم قط أن لعنة الحب تحل عند ساعة الزواج...و عندها فقط يتحول الحب إلى زنزانة للحبس ألإنفرادي....

 

كاتبة تونسية

خاص بالمثقف

..................................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: المثقف .. خمس سنوات من العطاء والازدهار: 6 / 6 / 2011)