 مناسبات المثقف

عندما أجهش بالكتابة

wafaa_albuesiللإلتحاق بالاحتفالية الخامسة للمثقف

لطالما حلمت أن أكتب بصوتي، وأن أرصف الكلمات التي تنتمي ليّ وحدي، ولطالما ظننت أنني أستطيع، لكنني ـ بالمطلق ـ كنت مخطئة، حتى بت أتسائل، أبوسع الروائي أن يكون حيادياً؟ أبوسعه حقاً أن يكتب بصوته وحده؟ وأن يُجيد الوقوف دائماً، في منتصف المسافة بين السرد والافضاء؟ 

 

منغمسة أنا حد الجموح، حد التورط، في الانجرار خلف شخوص من حبر، أنسج دمهم وملامحهم بجرة قلم، فيصيغون هم لي همومي وأحلامي.

 

كم يحلو لهم أن يغرسوني في ذاكرة السطور، في فنجان القهوة، الذي يبرد عشرين مرة قبل أن أقرر أخيراً أرتشافه، في الأوراق المبعثرة أمامي على الطاولة، تُصر على أن تلاحق أحزانهم وخيباتهم ومشاريعهم الصغيرة، في قمر الليل المتربص على الشرفة ضِجراً حين يسقط الثلج في ليل هولندا القارس، في صحن الفاكهة المسترخية أمامي، تمارس انتظارها الرتيب، لكنني أخذلها كفنجان القهوة، أخذلهما معاً حين أُفضّل تذوق ملذاتهم السالفة، حين أُقدّم اكتشافهم على كل ما عداه، حيث لا حدود أبداً لشيء، حتى لتلك العبثية في أن أخلق شخوصاً من حبر على واجهات من ورق، فيرسمون هم لي لون دمي، رنة ضحكتي ونزق طباعي.   

          

كم يحلو لهم أن يبتعثوا من جديد هوسي وجنوني، كم يحلو لهم أن يأججوا عطشي الدائم، لمحض المغامرة معهم حتى النهاية، المغامرة حتى تخومها القصوى، غير عابئة ولا مقدرة عواقب ما يجعلونني أقدم عليه في خلوتي معهم.  

يُجيدون التسلل إلى فراشي، يجسرون وسط العتمة على تنبيهي، يفعلون ذلك كثيراً ويفضلونه على المجيء في وضح النهار، يتسربون إلىّ من جميع الشقوق، من فرجات النوافذ التي أتركها مواربة في الصيف، من ثقوب الأقفال، من أسافل الأبواب التي أوصدها، يفعلون ذلك دون ضجة، لا يتركون أثراً، لا يخلعون قفلاً أو نافذة، لا يخلّفون فوضى.    

 

أولئك اللصوص، كم هم خِفاف ودبقون، كم هم طريون وطازجون، لكنهم يملكون هذا الكم من القوة، لجعلي أقوم من فراشي لأعيد صياغة كلماتهم وأحزانهم وأحلامهم التي بلا صوت، مثلي.

 

لكنهم رغم ذلك يُشعرونني بالحرية، حين يتهيأ لي أنني أركض معهم، إلى الجهة المعاكسة للرضوخ، وأنني قادرة بصلابة، أن أجعل الخوف من البوح ينسل هارباً إلى الركن المغمور، وأن بوسعي تقديم معنى آخر للكتابة، غير الترتيب المتجاور للحروف، معنى آخر غير ذلك المذعن لاشتراطات المشائخ وحرس النوايا.

 

أولئك الراكضون بجانبي دون أن أراهم، المتنزهون في تفاصيل المكان حولي دون أن ألحظهم، الذين يصرون على الحديث لي حين أريد أن أغفو، والذين يحسنون الكلام عني حين أقرر أن أصمت، أولئك، قادرون رغم كل شيء على إشعاري بأن ألف قيثارة يمكن أن تنبت في راحة يدي، وأني قادرة على عزف شارة تحيل إلى فراديس غير مأهولة.

 

كاتبة ليبية مقيمة بهولندا

[email protected]

 

خاص بالمثقف

..................................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: المثقف .. خمس سنوات من العطاء والازدهار: 6 / 6 / 2011)