 مناسبات المثقف

الألفية الثالثة .. بمناسبة صدور العدد ألفين من صحيفة المثقف / صالح الطائي

saleh_altaeiمتى ما بدأ الإنسان مسيرة كفاحه الأزلي بخطوة واحدة فمعنى ذلك أنه ابتدأ مسيرة تحدي الصعاب لإثبات وجوده وفهم ذاته من خلال البحث عن طرائق يستكشف بها بواطن الأشياء وظواهرها.

فإن لم يسقط في خطوته الأولى أو يتعثر لا يعني ذلك أنه نجح بالإلمام بأسرار الكون، فهي مجرد خطوة ولكنها تعني الكثير، تعني أن هناك أمامه خطوات كثيرة يجب عليه أن يخطوها إذا ما أراد أن يصل إلى هدفه ويحقق غايته، خطوات تدمي أقدامه وتنهك روحه.

قد تكون الخطوة الأولى هي الأصعب، ولكنها لا تتفرد بالصعوبة بالتأكيد فهناك في مسيرة الحياة خطوات أشد منها خطورة وأكثر صعوبة، ليس لأن الخطوة الأولى تضع الإنسان غالبا في مواقف قريبة من الموت لأنه بدون تجربة، ولكن تكاثر الخطوات يدفع الإنسان بعد حين ليلتفت إلى الوراء فينظر إلى صور ورسوم الخطوات التي خلفها وراءه ويدقق فيها ليميز أيها التي جنبته مخاطر الانزلاق إلى الهاوية، وأيها التي قادته إلى الموت مرات ومرات، وأيها التي رسخت كطود شامخ يتحدى الصعاب.

الغريب أن من يدقق في أثر خطواته يجد أن هناك عشرات المحطات المرعبة التي قادته أقدامه إليها مرة بإرادته وأخرى قسرا وإكراها، والأغرب أنه تخلص من أجواء النفرة والخطر في تلك المحطات حتى دون أن يعرف كيف ومتى. وعليه أرى انه ليس من المهم أن نحصي عدد خطواتنا ونعجب ونتعجب من كثرتها ونفتخر، فقد يوصلنا الإحصاء إذا ما تكاثرت أرقامه إلى نوع من اليأس والقنوط ولاسيما إذا ما كان ما حققناه أقل كثيرا مما كنا نتوقعه أو نحلم به، وربما يصيبنا الغرور إذا ما كان النجاح أكثر من الإخفاق الذي كنا ننتظره.

وفي الحالتين ليس المهم أن نصاب باليأس فنقف ونرفض المتابعة، المهم أن نصمم على مواصلة المسير ما دامت قلوبنا تنبض ورئتينا تتقلص وتنبسط وتمدنا بسر الحياة، فذلك وحده يجعلنا في كل مرة نلتفت فيها إلى الوراء نرى (ألفا) جديدة تشع بالألق تضاف إلى ما سطرناه من آلاف من قبل، فحتى في الفخار تنافس.

إن من غامر للسير إلى كربلاء في أربعينية الإمام الحسين الشهيد عليه السلام لأول مرة أصيب بورم وتقيح في القدمين، وألم في الجسم امتدت شكواه لأسابيع بعد العودة، ولكنه يجد في التجربة الثانية أن أقدامه أقل انتفاخا وآلامه أقل وقعا وأقصر مدة، أما في الثالثة فإنه ينجح بالوصول والعودة دونما أورام أو أوجاع تذكر، وحينها يبدأ بابتكار أنواع جديدة من الخطى بما يمنحه نوعا من التفرد المحبب، وهكذا على مر السنين تصبح تجربة المسير إلى كربلاء محطات نجاح وتجارب غنية يضيفها إلى رصيد حياته فيما يجدها أكثر متعة من الجلوس على الفراش الوثير حتى يكاد يتمنى لو أن المسيرة تقام في العام أكثر من مرة.

وصدور العدد الأول من صحيفة المثقف تجربة فيها الكثير من التحدي والمخاطرة لكن وصولها إلى العدد مائة عنى أنها تجاوزت مرحلة تحديات الوصول وأصبحت أمام تحديات إثبات الذات، لكنها بعد الألف الأولى لم تعد ترى من هو أهل بالتحدي حتى لكأنها تسير لوحدها في طريق شقته بنفسها وزرعت على جانبية ما تحبه من الأزهار والأشجار وأجرت على جانبيه الجداول والأنهار، وهي فعلا ومنذ الليلة الأولى بعد الألف الأول نجحت بتجاوز رهانات التنافس وإثبات الذات حتى بدت وكأنها تتصدر السائرين وتنفرد لوحدها في المقدمة بثقة وفخر وخيلاء ولا تترك لمنافسيها سوى غبار جريها الحثيث.

إن انتظارنا لما بعد ألفيتها الثانية يعنى لنا جميعنا أكثر من معنى، يعني أننا نجحنا بتجاوز أشد المراحل صعوبة، فحرثنا الأرض ونثرنا البذر وسقينا البراعم ورعينا الأغصان، وأننا نحصد اليوم ثمار نجاحنا في الألفين الماضيتين، فهل من نجاح أكبر من أن يجد الكاتب والباحث والقاريء نفسه ضمن عائلة لا يعرف وجوههم إلا بالصور ولا يسمع أصواتهم إلا بالأحلام ولكنه يشاركهم ويشاركونه ليس الفرح والحزن فقط بل حتى في المصير وفي أدق التفاصيل؟ هل من نجاح أكبر من أن يجد المرء نفسه في دوحة غنّاء مسخرة له الأسباب ليعيش حياة الترف الفكري والنعيم الثقافي دونما عناء وكأنه في جنة عدن ما إنْ يتمنى حتى تتحقق أمنيته دون أن يدري، فهناك أكثر من سادن نذروا أنفسهم ليحققوا له الأماني السعيدة.

وإذا ما كانت (المثقف) قد حققت كل هذه النجاحات الفريدة في (الألفين) فماذا يمكن أن تحقق في الألفية الثالثة؟ هذا هو سؤال التحدي المطروح على المثقفين من أسرة المثقف والذي ممكن أن يجيبوا عليه من خلال نوعية أعمالهم التي سينشرونها مع بداية الألفية الثالثة لكي تبقى المثقف منبر الثقافة الملتزمة.

   

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2000 الجمعة 13 / 01 /