ثقافة صحية

المناعة وزراعة الاعضاء / فخري مشكور

من اي غزو اجنبي? تقوم به البكتيريا والفيروسات والفطريات والديدان وغيرها. لكن جهاز المناعة لا يرفض دخول الجراثيم فقط، بل يرفض أيضاً الوجود الاجنبي رفضا قاطعا، حتى لو كان هذا الأجنبي يريد خدمة الجسم، بل وانقاذه من موت محقق.

هذا الكلام ليس مجازاً ادبياً، ولا تصريحاً سياسياً. إنه حقيقة قائمة تتجلى في حالات «زراعة الاعضاء» التي هي باب النجاة الوحيد لبعض المرضى المشرفين على الموت، لكنَّ جهاز المناعة يرفض هذه الاعضاء رفضاً مبدئياً لا يتنازل عنه مهما عرضت عليه من مكاسب او أدوار.

ومعروف أن بعض المرضى يحتاجون في الحالات الميئوس منها الى زراعة اعضاء مأخوذة من متبرع متطوع، او من مريض «الموت الدماغي». والمرضى المحتاجون الى زراعة الاعضاء هم مرضى المراحل النهائية المصابون بعجز الكلى المزمن، وعجز القلب المزمن، وعجز الكبد المزمن، وعجز الرئتين المزمن، وهي الحالات التي يقف الطب امامها عاجزاً عجز بوركينافاسو عن مكافحة الفساد.

 

كيف نحصل على الاعضاء؟

مصدر الاعضاء يعتمد على العضو المطلوب زرعه. الكلية يمكن أخذها من متطوع سليم الجسم يقرر انقاذ حياة انسان بأن يتبرع له باحدى كليتيه ويعيش هو بالكلية الاخرى، فكلية واحدة تكفي الشخص عادةً.

اما القلب فلا يمكن اخذه من متطوّع، فقد قال الشاعر:

لو كان لي قلبان عشتُ بواحدٍ/ وتركتُ آخرَ يصطلي بهواكا

كذلك الرئتان لا يمكن أخذهما من متطوع، لأن الانسان لا تكفيه رئة واحدة، والأصح ان الرئة الواحدة لا تستطيع ان تعمل وحدها ولو ادّعت ذلك، لأن الرئة التي تبقى في جسم المتبرع سوف تتمدد في الصدر بسبب الفراغ الحاصل من استئصال الرئة الاخرى، واذا تمدّد العضو (أي عضو) في مكان اكبر منه فانه سوف يـَفسد ويـُفسد.

لهذا السبب لا يحصل التبرع برئة واحدة للمرضى المصابين بتلف الرئتين، ولمّا كان التبرع برئتين غير ممكن (لأن هذا يعني موت المتبرع) فان المصدر الوحيد هو مرضى الموت الدماغي، وهم المرضى الذين يموت دماغهم بينما تبقى سائر اعضائهم حية لبعض الوقت، وهؤلاء هم عادة ضحايا حوادث السير الكارثية، او مرضى اقسام الانعاش الذين يتوقف قلبهم فجأة وتفشل كل الاجراءات الطبية (والمباحثات السياسية) في اعادة تشغيله.

 

عملية الزرع

بعد طي بعض الاجراءات القانونية، يخدم مرضى الموت الدماغي كمصدر لكثير من الاعضاء، فمن المريض الواحد(ميّت الدماغ) تؤخذ:

- كليتان يستفيد منهما مريضان مصابان بالفشل الكليوي المزمن.

- وقلب (مع الرئتين بالضرورة) يستفيد منه مريض مصاب بعجز القلب المزمن، او مريض عجز الرئتين المزمن (ان لم يكن موت الدماغ بسبب توقف القلب).

- وكبد يستفيد منه مريض رابع مصاب بعجز الكبد المزمن.

- وقرنية عين يستفيد منها مريض او مريضان مصابان بعتمة القرنية، الخ...

بأسرع ما يمكن يُدخل مريض الموت الدماغي الى غرفة العمليات مع المرضى المنتظرين اخذ أعضائه كي يتم انتزاع الاعضاء من قبل فريق جراحي وزرعها من قبل فريق جراحي آخر في اجسام المرضى الذين يتلقون هذه الاعضاء.

طبعا هذا الاجراء يحتاج الى استعدادات سابقة واجراءات لاحقة، ومن الضروري ان يكون المرضى المنتظرون زراعة الاعضاء على اتصال دائم بالمستشفى بحيث يمكن نقلهم بسرعة عند حصول حالة موت دماغي، قبل أن تموت باقي الاعضاء. ومن المهم ان نؤكد على ان الذين تنفع اعضاؤهم لنقلها الى الآخرين هم المرضى المصابون بالموت الدماغي بسبب الحوادث او بسبب توقف القلب، اما موتى الدماغ الذين نلتقي بهم في حياتنا اليومية فأعضاء هؤلاء لا تنفعهم ولا تنفع غيرهم.

 

الرفض

 لكن المشكلة هي جهاز المناعة الذي يرفض ان يستقر عضو اجنبي في جسم الانسان، فاذا كنا نستنكر على البعض قبول شخص من غير اقربائهم او من خارج قائمتهم او من خارج مدينتهم، فان جهاز المناعة لا يقبل من هو خارج الجسم «ولو كانوا اباءهم، أو أبناءهم، او اخوانهم، أو أزواجهم، او عشيرتهم».

جهاز المناعة يؤمن بمقولة: «انا، أو الطوفان» فما لم تحمل الاعضاء المزروعة العوامل الجينية نفسها (الشيفرة الوراثية) التي يحملها جهاز المناعة فان الجهاز يرفضها بشكل قاطع ولو ادى ذلك الى الوفاة.

واذا قام شخص بعملية زرع من دون ان يراعي شروط جهاز المناعة فان هذا الجهاز - ومن خلال جولاته التفقدية بحثا عن اي عنصر اجنبي عن الجسم- سوف يمر على خلايا العضو المزروع ويطالبها بالـ«باج» الذي يثبت انتماءها الى الجسم من خلال حمل خريطته الجينية نفسها. وبمجرد اكتشاف اختلاف تلك الخريطة فانه يشن حربا شعواء لابادة خلايا العضو المزروع والقضاء عليه نهائيا، ولو ادى ذلك الى الموت، فجهاز المناعة يعتبر أن طرد الاجنبي هدف يستحق التضحية بالحياة من اجله.

وتشترط في من يزرع له عضو عدة امور:

1- ان زرع العضو هو ضرورة حياتية قصوى.

2- وان كل اشكال العلاج الاخرى فشلت.

3- وان لا أمل بتراجع المرض او تحسّنه بمرور الزمن.

4- وان المريض ليس مسنّاً جدا.

5- وانه سليم من الامراض الاخرى.

6- وأن لديه القابلية على الالتزام بتناول الأدوية التي تكبح جهاز المناعة بانتظام مدى الحياة.

7- وان يتفهم الطوارئ التي تستدعي الاتصال بالمركز العلاجي بمجرد اصابته بحمى او اضطرابات صحية اخرى.

8- وانه محبوب من اهله وعشيرته.

ماذا؟ محبوب من اهله وعشيرته؟

نعم، لانه من المفضّل ان يتبرع له واحد منهم بالعضو اللازم (الكلية عادةً)، لأن الخريطة الجينية لافراد العائلة الواحدة - رغم عدم تطابقها - تحتوي على عناصر مشتركة تقلل شدة الرفض، فجهاز المناعة يتصرف كبعض الجهات التي ترفض التعامل مع الأجنبي، لكنها ترضى بالتعامل مع ابناء العم من حلفائه الاقليميين. لذا فان لم يكن للمريض أخ توأم متماثل فالخيار الثاني هو الأخ الشقيق ولو لم يكن متماثلا، فان لم يكن فأحد الوالدين لأنه يتطابق مع ابنه في نصف الخريطة الوراثية، فان لم يمكن فأي فرد في العائلة، فان لم يتيسر فأي شخص غريب تتقارب خريطته من خريطة المريض الجينية (تماماً كما يفعل بعض المسؤولين في التعيينات).

 لكن أخذَ عضوٍ من القريبين جدا في العائلة لا يعني موافقة تامة من قبل جهاز المناعة، بل يعني ان ردة الفعل ستكون أضعف مما لو اخذ العضو المزروع من شخص اجنبي عن العائلة.

 

ماذا نعمل لمنع المناعة من رفض الاجنبي؟

التوائم المتماثلة حالة نادرة جدا، لذا يضطر المرضى لأخذ عضو من جسم أجنبي عن بدنهم. ولأن المناعة لا يمكن اقناعها بترك مقاومة الاجنبي، ومهما حاولنا فانها لن «تصحو»، كما أنها لا تقبل بوظيفة اخرى في البدن، فان الحل الوحيد هو منع المناعة بالقوة، ويتم ذلك عن طريق أدوية خاصة تشن «صولة» على هذا الجهاز فلا يتمكن من القيام بوظيفته، فاذا اعطينا المريض الذي زرعت له كلية (او اي عضو آخر) احد كوابح المناعة  Immunosuppresive drugs  فان خلايا المناعة سوف تفشل في التعرف على هوية العضو الاجنبي فلا تقوم بأي عمل عدائي ضده.

يعطى المريض عادة عقاران كابحان للمناعة: أحد مشتقات الكورتيزون مثل الـ prednisone وأحد الادوية المضادة لانقسام الخلايا مثل الـ Cyclosporin، فهاتان المجموعتان تكبحان جهاز المناعة وتوفران للعضو الاجنبي الحماية اللازمة. وعلى المريض ان يتناول هذه الادوية كل يوم طوال عمره، لأن التوقف عن تناولها يعيد النشاط الى المناعة المشلولة لتقوم بالتعرف على العضو الاجنبي وتحطيمه بصورة كاملة.

اما اذا كان الشخص جاهلا لا يعرف كيف يتصرف بالعضو المزروع فانه سوف يخسره ويخسر حياته، كما يحصل مع كل من يحصل على شيء لا يعرف كيف يحافظ عليه.

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2285 الاحد 25 / 11 / 2012)

في المثقف اليوم