ثقافة صحية

المناعة سلاح ذو حدين / فخري مشكور

عن رسول الله (ص)؟ فقال: «نعم. حدّثني عكرمة عن رسول الله (ص) أنه قال: خلـّتان لا تجتمعان في مؤمن» وسكت أشعب، فقيل له: وما هما؟ فقال: نسي عكرمة واحدة، ونسيتُ الاخرى.

تذكـّرتُ هذه القصة بعدما نسيتُ الحدّين لسلاح المناعة، فقد كتبتُ عنوان المقالة وقبل ان أبدأ بها شغلتني انباءُ الحرب على المنطقة التي تحتوي على أعلى كثافة سكانية في العالم، غزة التي تتعرض للقصف الاسرائيلي وهي تخلو من الملاجئ، ولم استطع استذكار عناصر ثنائية الحدّين في جهاز المناعة الا بعد استعراض نماذج من الثنائيات ابتداءً من الثنائي جواد وادي وعبد الواحد جمعة؛ الى الاخوين رحباني؛ مرورا بثنائية القطبين الذين حكما العالم؛ وصولاً الى ثنائية النعاج والذئاب، وأخيرا ثنايئة النعاج والاسود... وفجأة قفزَتْ الى ذهني ثنائية الحدّين لجهاز المناعة، انهما:

• الدفاع عن الجسم ضد الامراض في الحالة الطبيعية،

• ومهاجمة الجسم وتسبيب الامراض له في حالات استثنائية.

جهاز المناعة الذي يدافع عن الجسم من الغزو الميكروبي يمكن- بالتدريب- تحفيزه لتقديم خدمة أكبر من امكانياته الاولية. كما يمكن تضليله ليتحول الى عنصر مهاجم - لا عنصر دفاع عن الجسم- فيـُستخدم كقوات مكافحة الشغب للقضاء على أعضاء الجسم (داخل الجسم نفسه فقط، ولا يـُرسـَل الى الاجسام المجاورة).

جهاز المناعة اذن سلاح ذو حدين، كيف؟

يتم تدريبه فترتفع كفاءته في الدفاع (وهذا ما سنعرفه اليوم)، او يتم تضليله فيصبح عنصراً مُمرضا (وهذا ما سنعرفه في الاسبوع المقبل ان شاء الله).

تدريب الجهاز لرفع كفاءته

اعتاد الانسان المتحضر على عنصر التدريب لرفع كفاءة الافراد العاملين في كل مجال، فمن دون تدريبٍ يمارس العامل أعمالاً تكرارية ذات نتائج محدودة، وربما تكون ضارة او مدمرة. وعندما يصبح العامل غير المتدرب مسؤولا رفيع الشأن لا يمكنك ان تصل اليه، فإنه يتصرف كالريفي الذي فاز بسيارة فربط بها حمارا ليجرّها به.

من دون التدريب يصبح جهاز المناعة - المكلف بطرد الجراثيم الغازية- كالسلاح العربي المتطور العاجز عن تحرير الأراضي العربية المحتلة. التدريب سنة الله في الجسم، لقد خلق الله جسم الانسان في احسن تقويم، لكن الكثير من اجهزته تحتاج الى تدريب كي يرتفع اداؤها الى أعلى مستوى ممكن. العضلات مثلا تبقى نحيفة البنية ضعيفة الاداء من دون تدريبها، وقد أودع الله فيها قابلية التدريب حسب الحاجة، فالطفل مفطور على حب اللعب خصوصاً ألعاب الحركة كالركض والقفز، وباللعب تقوى عضلاته، والعامل تقوى عضلاته مع الزمن بممارسته العمل العضلي.

والعظام تتدرب مع العضلات، فكلما كانت حركة العضلات أكثر كانت العظام اقوى، فالعظام -التي لا تعقل- تدرك بالفطرة الربانية ما لا يدركه البعض بقواهم العقلية أن العضلات القوية تحتاج الى ان تستند الى عظام قوية، ولذا فالعظام تزيد من استخلاص الكلس من الدم كي تدعم بها ترسانتها الكلسية كلما كانت الحركة أشد، لذا نجد عظام الرياضيين والعمال اليدويين اقوى وأسمك من عظام المشتغلين بالفكر والعلم، ولهذا السبب يستطيع اصحاب العضلات ان يكسروا عظام أصحاب القلم.

والقلب أيضا يقوى بالتدريب، فالموظفون والنساء والطلاب والشيوخ إذا لم يمارسوا الرياضة فانهم؛ وبمجرد صعودهم السلالم أو ركضهم وراء باص للحاق به؛ يشعرون بدقات القلب السريعة التي تضايقهم، لكن الرياضيين يركضون لساعات عدة من دون ان تزداد ضربات القلب لديهم الا يسيرا.

وما يقال عن القلب ينطبق على الرئتين كذلك، فالرياضي لا يشعر بضيق النفَس بسبب الركض مثلما يشعر به باقي الناس الذين لا يمارسون الرياضة، لأن رئة الرياضي- وبالتزامن مع قلبه- قد تدربت لسنوات.

إن هذه الحقائق التي عرفها عليّة القوم عندما لمسوها بأنفسهم - بسبب عدم حاجتهم للحركة- جعلتهم يشعرون بالمسؤولية تجاه الشعب؛ ما حملهم على جعل رياضة الركض جزءًا اساسيا في برنامج الحياة اليومية للمواطنين العاديين، فاصبح المواطن يركض بين الدوائر الرسمية اسابيع وشهورا لانجاز ابسط معاملاته غافلاً عن الهدف السامي من ذلك وهو: تدريب عضلاته وعظامه وقلبه ورئتيه، لكنه - ولجهله بهذه الحقائق التي كتمها عنه الكبار تواضعاً- يمارس النقد الظالم وغير المؤدب أحياناً للنظام الاداري الراهن، وقد يصل به سوء الظن الى حد اتهام الموظفين بالفساد لا سمح الله.

لا نريد ان نستقصي برامج التدريب كافة في الجسم، بل نريد ان نشير الى تدريب جهاز المناعة، وانواع هذا التدريب ودوره في رفع الكفاءة.

 

التدريب الذاتي لجهاز المناعة

يتم تدريب جهاز المناعة بشكل ذاتي ومن دون تدخل الانسان، كما يمكن تدريبه أيضاً تدريبا محاكاتياً ضمن برنامج يضعه الانسان لرفع كفاءة الجهاز.

في التدريب الذاتي يواجه الجهاز عناصر الغزو الميكروبي الاول وخلاياه غير مدربة ولا تعرف إلا شيئاً واحداً هو: التمييز بين الذاتي Self والأجنبي Nonself، لكنها لا تعرف كيف تواجهه بطريقة استراتيجية، لذا تـُشاغلُه بتكتيكات تقليدية تضمن إعاقة تقدمه نحو المراكز المهمة و«عقد المواصلات» في الجسم، وذلك بتعبئة بعض الخلايا (الكريات البيض) كي تشتبك معه محليا لافتراسه، فان كان اكبر من قابلية الخلية المنفردة فان عددا من الكريات البيض تعلن «وحدة اندماجية» فتتصل مع بعضها وتسقط الجدران الخليوية (الحدود) لتشكيل خلية عملاقة قادرة على ما لا تقدر عليه كل خلية منفردة. في غضون ذلك تقوم خلايا تخصصية بفحص الجرثوم للتعرف على الصيغة الكيميائية لمكوناته، لغرض صناعة سلاح خاص به لمقاومته بطريقة استراتيجية، وهي العملية التي تستغرق حوالي ثلاثة اسابيع تبدأ بعدها أعداد الجرثوم بالفناء بصورة متسارعة.

خلال هذه الفترة يكون جهاز المناعة قد تدرّب على أفضل اساليب القتال مع هذا الجرثوم، واصبح على استعداد لمواجهته لو فكر مرة اخرى أن يغزو الجسم، ففي المعركة التالية لو دخل جرثوم من النوع نفسه الى الجسم فسوف لن ينتظر جهاز المناعة ثلاثة اسابيع كما في المعركة الاولى، بل ستـُعلـَن حالة التعبئة في خلايا المناعة خلال ساعات وتصبح الاستعدادات جاهزة لانتاج السلاح الاستراتيجي الذي وضعت مواده الاولية وطرق تصنيعه في مراحلها النهائية عندما خاض الجهاز معه معركته الاولى، ولا تمضي الا فترة قصيرة (ساعات الى ايام) حتى تصل الاجسام المضادة Antibodies الى ساحة المعركة كي تقضي على الجرثوم من دون مشكلة تذكر، أي من دون حمى أو آلام أو... أو... فالمعركة تحسم بسهولة لأن من يقاتل هو جهاز مدرب تدريبا الهياً لا تدريبا تعاقديا، والسلاح لم يتم شراؤه في صفقة فساد.

 

التدريب المحاكاتي لجهاز المناعة

الذي علّم الانسان ما لم يعلم علّمه الكثير من الفنون عن طريق محاكاة الفنون الالهية، فكما تعلَّم المهندسون الفرنسيون من عظم الفخذ كيفية صنع الدعامات الشبكية لتحمل برج ايفل الذي يزن عشرة الاف طن، كذلك تعلم الانسان من التدريب المحاكاتي ان يدرب جهاز المناعة على الاستعداد لمعارك فاصلة ضد جراثيم معينة بحيث يقوم الجهاز بصنع سلاح استراتيجي ضدها Antibodies من دون ان يكون الجسم قد تعرّض لهذه الجراثيم سابقا، بل يواجهها بسلاح متخصص وكأنه يخوض معركته الثانية معها، وبهذه الطريقة تم صنع اللقاحات التي تمنح الانسان الحصانة ضد العشرات من الامراض الجرثومية القاتلة.

في التلقيح تُدخل الجراثيم (او سمومها) الى الجسم بعد أن تجري عليها عمليات اضعاف او تحوير بحيث تفقد قابليتها على إمراض الجسم بينما تحتفظ بهويتها الجرثومية التي لا تخطئها خلايا المناعة فتهب لصناعة الاجسام المضادة لها خلال 3 اسابيع (لكن من دون اضرار الاصابة بالمرض) يصبح الجهاز بعدها مستعدا لصنع السلاح الاستراتيجي خلال فترة قصيرة جدا اذا تعرّض في المستقبل لجراثيم قوية من هذا النوع.

في اللقاحات تعلَّم الانسان كيف يدرب جهاز المناعة بمحاكاة التدريب الالهي الذي يضمن تدريبا حقيقيا لا تهدر فيه الملايين من دون نتيجة.

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2294 الثلاثاء 04 / 12 / 2012)


في المثقف اليوم