صحيفة المثقف

العراق وظاهرة الكتّاب السياسيين– بين صلعة برنادشو ولحيته .. وفرة في الاسماء وسوء في الاداء / علي السعدي

التاريخ في العراق، لايتعلق بحوادث وقعت، ولا بأزمنة مضت بما فيها وعليها، لكن المفارقة ان التاريخ العراقي هو الحاضر بل والمستقبل كذلك، إذ بإمكان الباحث المدقق ان يستخرج مفردات المستقبل من وقائع الماضي وحيثيات الحاضر ليدخلها من ثم في علم التاريخ من دون خشية من خطأ كبير .

ولكي لا نتوه في الإستطرادات، سنبني على ماقاله رحالّة بريطاني في ثلاثينات القرن المنصرم وهو يصف حالة العراق في أهم مظاهره – الشعر – فقد لاحظ ذلك الرحّالة، الكثرة الهائلة من الشعراء في العراق فوصف ذلك بما مضمونه : كأني أرى في العراق شاعراً تحت كلّ نخلة .

لاشك ان الرحّالة كان مبالغاً فيما ذكره، لكن قوله ملىء بالمفارقات ذات المغزى، فقد كانت النخيل العراقية تزيد عن ثلاثين مليون نخلة مثمرة تحمل أجود أنواع التمور وأكثرها شهرة، في بلد لم يتجاوز عدد سكانه آنذاك، الخمسة ملايين نسمة، نسبة الأمية فيهم تقرب من 90 %، لكن قلما تجد فيم من لاينظم الشعر أو يحفظه أو يستهويه سماعه.

الشعرله خصوصيته، فقد كان الشاعر ومايزال، مجبولاً على الموهبة الفطرية والذكاء اللماح وحسن الاتعاظ من دروس الحياة ودقة الملاحظة، ثم يأتي التعليم ليصقل تلك الصفات ويغنيها، لكن التعليم في كلّ حال لم يكن شرطاً ليشق الشاعر الموهوب طريقه نحو الشهرة رغم ندرة وسائل النشروبالتالي صعوبة الإنتشار .

مايميز الشعر هو تعدد مواضيعه وان تمحورت حول أربعة أغراض رئيسة كما في الشعر العربي عموماً : المدح – الهجاء – الغزل – الرثاء – لكن فطاحل الشعراء كانوا يبرعون في ابتكار الصورة والتقاط الجمل الحلوة العذبة ضمن تلك الاغراض .

بعد التغيير العاصف في التاسع من نيسان 2003، وجد العراق نفسه في معطيات أخرى مختلفة، لقد ارتفع عدد السّكان الى ما يتجاوز 30 مليون نسمة، تزيد نسبة المتعلمين منهم عن النصف، فيما هبطت أعداد النخيل بشكل كارثي لتصبح بحدود 7 ملايين نخلة جلّها غير مثمرة أو رديء الثمر..

 

في المقابل، غصّ العراق بماسمي ( الكتّاب) السياسيين، فقد تكاثرت وسائل النشر الى درجة مدهشة، عشرات الصحف اليومية التي تصدر في العراق، وعشرات الآلاف من المواقع الالكترونية وكلها مستعدة لالتقاط مايكتب بصرف النظر عما يحتويه ومقدار مافيه من أصول الكتابة ناهيك بالابداع الفكري أو التحليلي أو الرؤيوي أو ماشابه من حيثيات الكتابة وجدواها .

اكاد اجزم ان ايما (رحّالة) في مواقع الإنترنيت العراقية المتكاثرة بشكل مفرط، قد لا يقع في خطأ كبير اذا استنتج بان كلّ من يجيد القراءة والكتابة في العراق صاركاتباً .، اما اذا كان يملك خطاً للانترنيت أو يجيد استخدامه، فهو حتماً في مصافّ معشر الكتّاب أو يحاول ان يكون كذلك .

تلك ظاهرة ايجابية بعمومها، لكن الاشكال فيها ان الكتابة لم تبتعد عن أغراض الشعر الا في موضعين : فقدها للجمال الذي يحمله الشعر واقتصارها غالبا على المدح والهجاء .

عهود طويلة قضاها (الكتّاب) في تدبيج المقالات والدراسات والبحوث التي تظهر عظمة القائد صدام وحزبه المظفر، كانت طريق الشهرة أمام اولئك الكتاب ميسرة، يكفي ان تستجلب الجمل والسطور وتختار أحسن ماقيل في المدح وترصفها في مقال ثم ترسلها الى العدد القليل من الصحف العراقية يومها، وسيكون رئيس التحرير ملزماً بنشرها لتأتي من ثم الردود والاشادات من كتّاب آخرين تمدح ماجاء في مقالة المادح، وما يكاد ينشر بضع مقالات من هذا النوع، حتى يصبح كاتباً مرموقاً وصحفياً لامعاً .

بعد 2003، انقلبت حال الكتابة ظاهراً، لكنها في الجوهر بقيت تنهل مما كان، تغيرت الأغراض ولم يتغير الأساس، اصبحت البوصلة تشير الى الهجاء، ليس مهماً ماتقول ولا ماتحويه مقالتك من اضافات يمكنها ان تشكل وعيا أو تخلق معرفة، يكفي ان تهجو الحكومة والعملية الديمقراطية وتهاجم القائمين عليها، وكلما ازدادت شدة هجومك –وان كان مبالغاً فيه او ملفقاً – كلما كنت اقرب الى الشهرة، ولن تحتاج الكثير لتجمع مادتك، سواء كنت تعيش في العراق وترى بنفسك ماتريد ان تراه، او كنت تعيش على بعد آلاف الأميال من العراق وبالتالي يفترض موضوعياً انك لاتعرف حقيقة مايجري على وجه الدقة – بل حتى لو لم تكن عراقياً ولم تزر العراق يوماً – فكل ذلك ليس مهماً ولن يحاسبك عليه أحد، المهم ان تكتب ضد العملية السياسية في العراق والقائمين عليها، بل لابأس ان تتجاوز ذلك الى مهاجمة كلّ مافي العراق حتى شعبه ونخيله .

لحظة زمنية بالغة الكثافة، تجتمع فيها السايكولوجيا وما تفرزه من عقد نفسية عميقة الغور، مع الايديلوجيا وماراكمته من موروث، طالما لعب دوراً سلبياً في مصادرة الإدراك، يضاف الى ذلك، الدوافع الذاتية في البحث عن الشهرة من أي سبيل .

الكاتب العربي عموماً والعراقي بشكل خاص،مازال غارقاً بما تركته الدكتاتورية من أثر في سلوكياته حيث تبرز الازدواجية في أهم مظاهرها . كانت مهاجمة السلطة في ذلك العصر، تعتبر بطولة بقيت في اطار المتمنى والمكبوت، فيما كان الكاتب في الواقع يمارس الإزدواجية طوال عهود الدكتاتورية، حيث تحولت فيما بعد الى سلوكية خاصة، اي ان الإزدواجية اصبحت بمثابة إدمان، وبالتالي فهو يقنع نفسه ان ما يكتبه اليوم، هو ما تمليه عليه قناعاته كما كان يفعل بالأمس، انه تكييف للذات خوفاً من اصطدامها بالموضوع الذي يقع غالباً خارج ادراك ذلك النوع من الكتّاب .

ما يزيد الطين بللاً، ان العملية تتكرر في أهم مفاصلها : كاتب يشحن كلّ ماتراكم في ذاته المقموعة سابقاً، ليزجه في مقالات نارية عن ثلب كلّ مايجري في العراق وضمن مفردات غاية في الفقر الرؤيوي : عملية ديمقراطية فاشلة – سياسيون فاشلون – أمن فالت – خدمات متردية – شعب مخدوع، الخ - وبالتالي فهو يصف مايطفو على السطح من دون التعمق برؤية المستقبل واحتمالات تطوره، ليسمن موقع التمنى، بل في قراءة الوقائع والتقاط ما يمكن ان تتجه اليه حال العراق خارج ما هو ظاهر .

لم يحدث فرق كبير عند بعض الكتاب، سوى نقل مواضيعهم من كتف الى أخرى، كانوا في العهد القديم يقيسون الوطنية بمقدار المدح للقائد المظفر وحزبه الميمون، ومن يخالف ذلك فهو عميل وخائن وغير عراقي وشعوبي – الخ من المواصفات الجاهزة في قاموس اولئك الكتاب زمن العهد الصدامي،أما اليوم، فقد إنقلب الموقف عند هؤلاء، فلكي تكون كاتباً وطنياً، عليك بمهاجمة كلّ ما في العراق، ديمقراطيته الوليدة مجرد كذب وخداع، القائمون عليها خونة وعملا للمحتل جاءوا على ظهر دبابة وفاسدون ومرتشون وسلاطين جدد في افضل وصف من دون ان يتعب الكاتب سطوره في معنى كلمة سلطان ومتى ظهرت كي تعرف الناس حقيقة وصفه – أما الشعب العراقين فهو بين متقلب ومرتش ومجرم ومنافق وساذج ومخدوع -- الخ من قاموس الشتائم الذي طالما أثارت الغثيان بسماجتها .

ولكي يرتب اولئك الكتاب أمورهم ويبقون في صدارة المشهد الجديد كما تصدروا المشاهد القديمة، فلابد ان يحاصروا أية كتابات قد تشذ عما يرسمونه من قواعد، وبالتالي فكلّ من لاينسج على منوالهم ويحاول ان يرى الامور بغير منظارهم، فالمواصفات القاموسية ذاتها تحضر كذلك لتلصق به، لذا يصبح مؤيداً للاحتلال أو يحاول التقرب من السلاطين الجدد أو وصولي أو انتهازي – الخ من مفرادت يستحضرها هؤلاء في كلّ مناسبة، أي انهم ينزعون ماهو فيهم ليلصقونه بالآخرين الذين لم يتعودوا ما عود اولئك الكتّاب انفسهم عليه .

وهؤلاء لايبقون وحدهم في الساحة، فماداموا يلجأون الى السائد من الامور والسهل الذي لايتطلب سوى المهارة في معرفة اتجاه الريح ورفع الراية حيث تشير، لذا يستقطبون الى جانبهم كتّاباً جدد يغرفون من المنهل ذاته مادام ميسراً ودارجاً ويوصل كذلك الى الشهرة وجلب الانتباه كما كان مديح النظام السابق يجلب لصاحبه الانتباه والشهرة .

الجدير بالملاحظة، ان معظم هذا النوع من الكتّاب هم: اما تابعون لأحزاب وقوى منافسة للحكومة وبالتالي يعتبرون كتاباتهم مما يحتمه واجبهم في اطار اللعبة السياسية، أو مرتبطون بمشاريع اقليمية يرون في كتاباتهم ماتراه هذه الدولة أو تلك، أو قاطنون في دول غربية أو عربية وبالتالي يلتقطون من اوضاع العراق ماتنشره وسائل اعلام عربية مقصود بمعظمه لتقديم صورة مغايرة عما يجري في العراق،أو كتاباً مستقلين فعلاً، لكنهم يتأثرون مما يسمعون ويرون من مشاهد يعيشها العراق واقعاً، وهكذا تدور الكتابة على نفسها لتعود كما كانت :رادحة أو مادحة .

الخلاصة من ذلك، ان الغالبية الساحقة من الكتابات السياسية، قد تنمطت ضمن هذه المقولات واصبحت تكرر نفسها في رتابة مملة، من دون ان يبرز في الافق مايشير الى تبدل في العقليات التي تقف وراء الكتابة .

بإمكان ايما متابع ان يجمع مئة مقال من كذا موقع الكتروني ومن ثم يلخصها في مقالة واحدة لاتحوي بدورها الكثير من المضامين خارج ما هو مألوف ومتداول في ذات السياقات والمصطلحات .

تلك الكتابات أفرزت بدورها مجموعة من الظواهر المرافقة يمكن اجمالها بما يلي :

1-   السطو : يحرص معظم كتاب الانترنيت حرصاً مرضياً على ابقاء اسمائهم، دائمة الحضوربشكل يومي- وأحيانا أكثر من مقالة في اليوم الواحد - ولما كان أكثر عباقرة الفكر في العالم، لايستطيع ابتكار موضوع جديد كل يوم، لذا لجأ أكثرالكتّاب الى تكرار موضوعاتهم مع استبدال عناوينها، ثم امتد ذلك الى السطو على مقالات كتاب آخرين مع تغيير العنوان وبعض المفردات، ومادامت مواضيع ايما كاتب، تشابه الى درجة التطابق، مع مواضيع كاتب آخر في معظم الاحيان، لذا قد لايلاحظ أحد ما قد ينقل او يستنسخ --- وهكذا .

2-   تبادل المنفعة :لما كانت كثرة التعليقات تدل على شهرة الكاتب، لذا لجأ البعض الى تواطىء ضمني على قاعدة الحكّ المتبادل – يختار كاتب مجموعة من الكتّاب ليرسل تعليقاته على مواضيعهم بشكل منتظم، ما يؤدي بدوره الى مقابلته بالمثل، وليس بالضرورة ان تكون التعليقات من النوع المادح – وان كانت هي الغالبة – بل قد تكون احياناً مناكفة أو مناقضة، كي تستدرج من ثم تعليقات مشابهة، المهم ان يحظى المقال وصاحبه بالإهتمام، وانطلاقاً من ذلك كثرت المقالات التي تستجلب التعليقات رغم سطحيتها وخواء مضمونها .

3-   الألقاب الكبيرة : ( قيصر الموقع كذا – نجم الموقع كذا – ملك الكتابة – أفضل كاتب – سيد المقال - الخ ) كلها القاب رافقت الكتابة في المواقع الالكترونية خصوصاً،قد يكون من أطلقها أصدقاء مقربون من الكاتب، وربما الكاتب نفسه بإسماء أخرى – وهو اسلوب لجأ اليه بعض الكتاب، سواء بالتعليقات على موضوعاتهم بإسماء مستعارة ومن ثم الردود عليها، أو بكتابة مقالات لأنفسهم تشيد بالكاتب وموضوعه -.

4-   مازالت لغة الكتابة السياسية هابطة بمجملها في بعض المواقع، فهي اضافة الى خواء محتواها، غالباً ماتكون مليئة باللغة السوقية والشتائم الشخصية وتقليب المثالب والبحث عن الاخطاء أو القضايا الخاصة من اجل النيل من المختلفين معهم، وعلى ذلك يمكن التأكيد ان لاشيء تغير في واقع الامر سوى ان الرادءة وجدت متسعاً للظهور .

5-   ساهمت المواقع الالكترونية في هبوط مستوى الكتابة عموماً، فقد افلتت الكتابات من تدقيق محرري الصحف المرموقة التي كانت تخضع المقالة المرسلة الى فحص مجهري في المضمون واللغة والسياق والجدوى، قبل ان تسمح بنشره، كي تحافظ من ثم على سمعتها ومستواها ولا تسمح للمتطفلين على الكتابة ان يمروا عبر صفحاتها، وعليه كان النشر في صحف بعينها، بمثابة شهادة للكاتب واعترافا بمقدرته الكتابية .

6-   لا تتساوى جميع المواقع الالكترونية في مستواها، فهناك من حافظ على مستوى لائق وبالتالي استقطب اقلاما جادة وكتاباً مرموقين شكلوا مايشبه خلية فكرية أو ثقافية استطاعت ان تجعل من الموقع مجتمعاً متنوعاً وحيوياً تتعرف فيه على اناس لم يسبق لك معرفتهم وقد لا يتاح لك ذلك في الحياة .

لكن لكل ظاهرة سلبياتها وايجابياتها، والسلبية في كثرة الكتّاب وتعدد وسائل النشر، انها جعلت من الكتابة السياسية – خاصة فيما يخص ّ العراق - موضوعا سهلاً لايحملّ كاتبه اية مسؤولية من اي نوع - وبالتالي اختلط حابلها بنابلها على حدّ ما جاء بالمثل القديم، وكما تصاب بالعطب كلّ مهنة يدخلها الطارئون عليها، كذلك اصيبت مهنة الكتابة السياسية في العراق، وهاهي تأن تحت وطأة هذا الكمّ الهائل من الكتّاب السياسيين .

الجدير بالذكر، ان الكتابة في مجال الأدب من شعر وقصة ونقد، بقيت بمنأى عن ذلك الوهن، بل شهدت تطورا رائعا في المضامين كما في التجارب الابداعية في مختلف النصوص، وتلك حالة يحتاج تبيانها الى مقال آخر .

   

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1454 الاحد 11/07/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم