صحيفة المثقف

العرب والحداثة - بين تحصيل المعلومة وفقدان المعرفة / علي السعدي

ما يقود بمحصلته الى إرباك في الفكرة وتشوش في المضمون موضع البحث .

مما لاشك فيه ان المعرفة بمفهوم الحداثة، مرتبطة بنتاج الفكر اذ يصعب فصل المعرفة عن كونها منتج قابل للتحول الى معلومة تؤثر بدورها على تطوير المنتج المعرفي، وإذا أتيح لنا قبول مفهوم كهذا عن المعرفة، يمكن من ثم الدخول في شروط إنتاج المعرفة أو العوامل الدافعة الى أو المساعدة في حصول ذلك المنتج ونوعيته وجودته .

 لابد أن هناك مجموعة من العوامل التي تلعب دوراً فاعلاًً في الإنتاج المعرفي، يأتي في مقدمها مفهوم الحرية، سواء في أنساق المعرفة وأنماط الفكر، أو في تحويل المنتج المعرفي الى معلومة متحصلة أو يمكن تحصيلها، وعلى هذا ينبغي التفريق بين استخدام المعلومة كنتاج للمعرفة،  ومابين تحصيل المعرفة ذاتها، ففيما يبدو الأمر الأول متيسراً، يظهر الثاني بكونه مستحيلاً إذا فصل عن شروط إنتاجه  الموضوعية .

مايعانيه العرب في حالتهم الراهنة، يقع في تلك الإشكالية المفهومية ، فهم حين يستحصلون على المعلومة - دراسة أو إمتلاكاً للتكنولوجيا أو اطلاعاً عليها - فإنهم ينزعونها من عوالمها المعرفية التي ساهمت في انتاجها، ليدخلوها من ثم في قوالبهم الآيديولوجية او الدينية ، وهو ماتظهر محصلته في معادلة : استخدام المعلومة لمحاربة المعرفة  .

تلك حالة كانت وماتزال موضع بحث عنك المشتغلين العرب  في توليد الأفكار والنظريات التي تقولبت بمعظمها في نظرية المؤامرة التي تتعرض لها " الأمة "  في ماضيها كما في حاضرها، وهي مقولة أراحت الفكر العربي عن بذل جهد في البحث عن مجالات أخرى خارجاً عن ملامس تلك المقولة .

ينقسم العرب بصورة عامة حسب أنظمتهم السياسية الى : أنظمة راكدة وأنظمة مضطربة، يشمل الصنف الأول بصورة أساسية : الملكيات والإمارات، كالسعودية والمغرب وإمارات الخليج  والأردن، وهذه الدول رغم استهلاكها المفرط للمعلومة في تحسين أوضاعها المجتمعية، ورغم الإستقرار الظاهري – سياسيا واقتصاديا – الذي تتمتع به،الا انها في واقع الأمر راكدة معرفياً وبالتالي فهي الأكثر(إنتاجاً) لدعاوى التطرف المناهضة لعوالم إنتاج المعرفة والداعية الى محاربتها، ذلك لأن هذا النمط من الأنظمة قد يتسامح في أخذ الليبرالية بصيغتها الاقتصادية، لكنه يفصلها عن ليبراليتها الفكرية، كما يرفض بشكل مطلق منهج العلمانية في السياسة التي نشأت الليبرالية وتطورت كأحدى نتاجاتها أو في ظل تأثيرات أحداهما على الأخرى، إن الفارق بين الإستقرار والركود،هو كالفارق بين النهر الجاري والبرك الساكنة، ففيما يمثل الأول مبعثاً للاخضرار، تكون الثانية مصدراً للتأسن، لذا يلاحظ غياب الإنتاج المعرفي بصورة شبه تامة عن تلك المجتمعات، فيما تتصدرفيها دعاوى التكفير وأفكار التطرف وظاهرة الإنتحاريين،واجهة المشهد، لتبرز بإعتبارها المصدر والحاضنة لظاهرة باتت تتصادم والمجتمعات البشرية برمتها ، مسنودة بفتاوى دينية ودعم مالي وإنتحاريين منفذين، تأتي بمعظمها من الدول الراكدة معرفياً -.

في جانب آخر، تنظر تلك الأنظمة الى الحرية باعتبارها امتيازاً خاصاً لاينبغي منحه الا لطبقة معينة في الحكم أو قريبة منه، وعليه ففي الوقت الذي تستأثر فيه الطبقات الحاكمة بكامل منسوب الحريات السياسية، فأنها تقنن ذلك النوع من الحريات على المجتمع أو تسيطر عليها بشكل مطلق، انها تعمل بوجه الأجمال وفقاً لمقولة ولي الأمر الواجبة طاعته مادام يملك قوة الشوكة " من قويت شوكته وجبت طاعته " وبالتالي فبعض الأشكال من الممارسة الديمقراطية المسموح بها في بعض الكيانات السياسية – الكويت، الأردن – البحرين – لاتتجاوز في الواقع سقف الحقّ المطلق للاسرة الحاكمة، لذا تبقى الديمقراطية تعمل على مبدأ " الهبة " التي تمنح  بقرارمن  الملك أو الأمير غير المستمدة شرعيته من صناديق الإقتراع ، إنما يستند الى قاعدتين لاعلاقة لهما بالمجتمعية المحكومة : " التفويض الإلهي " وإرث العائلة المالكة، تلك التي أسست أو ساهمت في تأسيس ذلك الكيان – آل سعود – آل نهيان – آل تيمور – آل ثاني – آل القاسمي --- الخ – وبالتالي فتلك "الهبة" يمكن الغاؤها إذا لم تستخدم وفق إرادة الواهب، لأنها ليست حقا إجتماعياً مكتسباً دستورياً .

على ذلك،لم يسجل في ذلك الجزء من المجتمعات العربية، أية ظاهرة للإنتاج المعرفي، مقابل ظهورها كمستهلك نموذجي لنتاج المعرفة المتمثل بتحصيل المعلومة واستخدام التكنولوجيا – الجانب التطبيقي العملي – مع عزل شبه تام للجوانب الفكرية، لذا ندر ظهورمفكرين أو علماء اجتماع او فلاسفة أو ماشابه، أثروا الفكر الإنساني أو ساهموا بصنعه، وكل من ظهرعلى هذه الشاكلة، كان أقرب لإستهلاك المادة الفكرية ، منه الى مبدع أصيل للمعرفة رغم مايمكن ان توفره المجتمعات العربية من مادة أولية للإنتاج المعرفي، لذا امتلأت البحوث والدراسات والمؤلفات العربية، بهوامش واقتباسات واستشهادات وإحالات واسعة لمفكرين غربيين في مختلف العلوم.

الثنائية المقابلة في النظم العربية، هي مايمكن ان يطلق عليه : الأنظمة المضطربة،  وهي كلّ الأنظمة الجمهورية – عدا لبنان والعراق – التي تحكم بقية الأقطارالعربية استناداً الى قوتها في أجهزتها العسكرية التي أعدت أساسا لحراسة النظام .

وعلى رغم ان تلك الأنظمة لا تختلف في الجوهر عن الانظمة الراكدة، الا ان مجتمعاتها تبدو أكثر قدرة على الحراك، فهي في مستوى إقتصادي متدن قياساً بمجتمعات الأنظمة الراكدة، وبالتالي فما تستطيع الأنظمة الجمهورية تقديمه من خدمات الى مواطنيها، ليس متكافئا بما " تقدمّه " من قمع بالمقابل،حيث لاتمتلك وسيلة أخرى للحفاظ على الإنتظام العام، في وقت تفتقد فيه ماتملكه الأنظمة الراكدة من متكئات الحكم (الحق الإلهي ومفهوم العائلة المالكة) كما أسلفنا، لذا كان التمسك بالسلطة أكثر قابلية للإضطراب بإعتبار ان القوة وحدها يمكن ان تكون مصدراً لشرعية الحكم وهو ما بإمكان أي مغامر توفيره، لذا كان هاجس الانقلاب العسكري دائم الحضور في النظم الجمهورية العربية، فيما يندرذلك الإحتمال في النظم الراكدة الا في الأسر المالكة نفسها كما حدث مع ملك البحرين الذي انقلب على والده (يذكر هنا الإنقلاب الفاشل للجنرال محمد أوفقير في المغرب ضد الملك الحسن الثاني)  .

كان انقلاب عام 1958 في العراق، هو أحد  ثلاثة انقلابات ناجحة ضد الملكيات (انقلاب 1952ضد الملك فاروق في مصر – وانقلاب القذافي ضد ادريس السنوسي في ليبيا عام 1969) كذلك هو لانقلاب الوحيد في الجزء الآسيوي من العرب الذي يحمل أكبر قدر من الممالك والإمارات، وربما كان للوضعية الاستثنائية للأسرة الحاكمة في العراق دورفي ذلك، فهي الأسرة الوحيدة التي كانت تحكم بلاداً ليست منها، لذا سقطت بالسهولة التي جاءت بها لأنها لم تجد من القوى الإجتماعية من هي على استعداد للدفاع عنها  .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1504 الخميس 02/09/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم