صحيفة المثقف

"الكابتن مشاري": محاولة في تجديد الفن السردي / حسين سرمك حسن

رغم أنه متزوج ولديه أولاد بطول قامته. قلق المبدع مبارك لأنه مهمازه النفسي الذي يحفزه نحو طلب الكمال. وفي تكرار المراجعة نوع من التعوّد والإلفة مع النص الذي سيتحوّل إلى " آخر " يقوم الكاتب بمحاورته ومراجعته والتأمل الفاحص في ملامحه. إنه نوع من التثبيت إذا جاز الوصف يحصل على أي شيء تحوّله العادة إلى مرتكز نفسي ساند يخفف القلق ويفرجه ، أي شيء مهما كان بسيطا وقد تصل دلالاته السيكولوجية إلى مستوى المعاني النفسية " الفتشية " المعقدة، وتقع ضمن ذلك طبعا ظاهرة تغنّي الشعوب – الشرقية خصوصا - بتراثها وبـ "أعمدته" المؤسطرة. هذا التثبيت هو الذي لعب عليه "جابر خليفة" في استهلال قصته "الكابتن مشاري": (لم ينتبه المستشرق الروسي وهو ينسخ على الآلة الطابعة إحدى المخطوطات الفاطمية في مكتبة خان الخليلي إلى انزعاج نسّاخي الكتب المصريين منه وقلقهم على مصدر رزقهم من آلته الطابعة، لم ينتبه لهم، لكنه كتب في مذكراته – أوائل القرن العشرين: " لعل هؤلاء الذين أراهم في مكتبات القاهرة ينسخون الكتب والمخطوطات بأيديهم مقابل أجرة هم آخر ما تبقى من أجيال مهنة النسّاخين.. إنهم ثمالة الجيل الأخير). وحين نتوغل في مسارات القصة السردية اللاحقة سنجد أن القاص قد صمّم استهلال قصته كي يكون مدخلا للعبة تشبه لعبة "أحجية الصورة المقطّعة" التي نقوم بتركيب ملامح أجزائها المفككة التي قد تبدو عند بعض الحركات الخاطئة متناقضة ومضحكة، وهذا هو بالضبط الأساس الفلسفي لمفهوم وظيفة الحلم التي فجّرها معرفيا معلم فيينا. فـ "  المضمون الظاهر -MANIFEST CONTENT " للحلم - والنص هو حلم المبدع - مفكك ويبعث على السخرية، تتم إعادة ترتيبه، بعد تفكيكه أولا، للوصول إلى معناه الكامن -LATENT CONTENT  عبر عملية احتمالات تماثل - نسبيا - إعادة تركيب أجزاء أحجية الصورة المقطعة التي أحسبها واحدة من الإنجازات السردية لجابر خليفة والتي تناولتها تفصيليا في دراستي عن مجموعته / كتابه القصصي: "طريدون". لكن لو كانت الحكاية التي يقدمها جابر تسرد وفق هذه الطريقة لكنا نفضنا أيدينا من فن الحكي لأننا سنواجه سردا "فصاميا" مشوشا، إنه "يلظم" ثيماته المقطعة بخيط شبه خفي لكن متين من الإيحاءات التي على القاريء أن يلتقطها بذكاء، ومن دون هذه القدرة ستصبح القصة مجموعة مشاهد لا رابط لها ظاهرا، والمهم أن نؤكد أن القاريء الفطري، مثلما هو الكاتب الفطري، صار خطرا على الأدب الحديث، المبدع القديم يكتب من الذاكرة، لكن المبدع الحديث يكتب من اللاشعور.. والقاريء العادي - مع الاعتذار للسيدة "فرجينيا وولف" - يحتاج دائما لصورة مركبة وواضحة وملتحمة العناصر، وهذا ما لا يقوم به جابر خليفة أبدا.. هو يشكل حكايته وفق بنى محكمة: أفقية وعمودية ولولبية أشبعناها تفصيلا في دراستنا المذكورة، ويضيف إليها الآن البنية الدائرية المغلقة هذه البنى لا ترسم افتعالا بل وفق محدّدات فنية يحكمها الدافع اللاشعوري الذي صاغه الإستهلال عن المستشرق الروسي الذي يبتئس لحال نسّاخي المخطوطات المصريين في سوق الوراقين. هذا المستشرق لا يتذكر اسمه، الراوي، والأغلبية المطلقة من نصوص جابر، إن لم تكن كلها، تُسرد بضمير الأنا المتكلم، هو شاهد على تجربته، ومرعوب منها في الوقت نفسه، ويتوهج هذا القلق من خلال تساؤله الإنكاري عن أنه لا يتذكر اسم المستشرق الروسي ولا عنوان كتابه الذي قرأه منذ عشر سنوات، ولا يدري إن كان قد اشتراه أو أنه أُهدي إليه أو استعاره !! وكلها تفصيلات بسيطة لكن الدافع إلى نسيانها الانتقائي من بين كم هائل من المعلومات والقراءات هو الذي يدعونا إلى التساؤل العابر، مثلما يحيلنا بدراية إلى ذاكرة النسّاخين التي سوف تُعطب، أو أنها أعطبت فعلا، أعطبت عبر التثبيت الذي صار عادة "أمومية" تذكّر حين الاجتراء على اقترافها بالإنفصال الموجع عن الرحم الأمومي في "صدمة الولادة" كما يسميها "أوتو رانك". هذا الإنفصال المرجعي هو الذي يُقاس عليه قلق الراوي، راوي قصة جابر خليفة، من موجة أو، وهذا أدق، طوفان تقنية الأتمتة الكومبيوترية الكاسحة: (لا اذكر منه إلا جملته التي كتبها في مذكراته عن الناسخين ؛ فقط عبارته تلك تعيش معي الآن وترتسم أمامي كلما فكرت في هذا التحوّل المقلق -لي - من عصر الورق والكتب وأرفف المجلدات إلى عصر الرقائق الإلكترونية والأقراص الليزرية، أتذكرها كلما اضطررت لتصفح الإنترنت أو فتح البريد الإلكتروني، ينتابني شعور بالخوف من ضياع ما أكتب أو اختفاء ما يرد إلي من ملفات وصور ورسائل، شعور باللاثبات، كل شيء قد يمحي ويتطاير في لحظات..). إنه الإحساس بهشاشة الوجود.. الوجود القابل للإنجراح والضياع.. إنها مداورة مربكة عن قلق الإنسان المشتعل والمكتوم من محنة الفناء  وما أتعس أن تكون وريثا !! - معبر عنها هذه المرة ليس بتركيب سردي معقد كما هو الحال في طريدون، ولكن في "شكل" بسيط وفريد، دائري بالغ الكمال.هذا الشكل الدائري السردي ينطوي على دوائر ثيمات مصغرة، تنغلق على نفسها دلاليا مع الإبقاء - وفق تصميم الكاتب - على مسارب حلقية - دائرية أيضا - تتعشق من خلالها الحلقات الصغيرة لكي تكوّن الحزمة الدائرية الأشمل. فالنساخون الذين يشفق عليهم الراوي من خلال المستشرق الروسي صاحب الآلة الطابعة الصادمة بالنسبة للأداء اليدوي لهم آنذاك، هم صورة قلقه ولوحة مخاوفه المتجددة في الخشية من التهديد الإلكتروني العارم الجديد: (مكتبتي أحبها منذ صغري، تكبر كلما أكبر، عاما بعد عام تكبر معي، وكنت أحب سكانها، أصدقائي من مختلف الشعوب والبلدان، ودائما أختلي بهم، وحدنا نختلي، أسراري أبوح بها لهم وحدهم). إن الراوي يعلن - عبر التورية الإبداعية - عن رهبة الإنفصال عن الرحم الأمومي المعطاء الرحيم - كل مفردات الحب في الكون اشتقت من الرحم -، وليس الخوف من هذا العدو الشبحي الجديد ؛ الكمبيوتر - ولا أعتقد أن ثمة شك في أن المرأة - الأم هي التي صنعت الورق مثلما هي التي ابتكرت اللغة.. إننا "نتعاشر" على الورق مع الأفكار والكلمات.. ونرتبط معها بـ "حبل سرّي" نفسي شديد الوثوقية، وكامل الإحتضان.. منغلقين.. منحنين على الورقة كدائرة رحمية نخط على صفحاتها بأمان بـ "قلمنا".نخط على لوح" نعرفه" ولآخر ندركه تماما.ولكن في عصر الكمبيوتر اختفى الآخر، أنت تستطيع الحديث مع "آخر" في أي وقت، لكن الشرط المهم هو أن لا تراه.. أو تراه وهو غير موجود، لا يجلس أمامك،لا تستمتع بملمسه.،ملمس الورقة. في الإنترنت كما يقول أدونيس في كتابه "المحيط الأسود": "يصبح الآخر في آن قريبا جدا وبعيدا جدا، نراه لكننا لا نعرفه.هكذا يصبح البصر "عالما " والبصيرة جاهلة". على الكمبيوتر وشبكته العنكبوتية تفقد الخصوصية - privacy، ويصبح "مجالك الشخصي" مستباحا ومخترقا ؛ هذا المجال الذي ينغلق كتشكيل رحمي آمن ومطمئن حين تحتضن الكتاب أو الورقة. تصبح مهدّدا بـ "الإنكشاف" في أية لحظة،وهذا هو حال الراوي الذي يتأخر في الرد على رسائل أصدقائه لانزعاجه من كثرة الوارد من الرسائل.. وأغلبها تافه،لكن من بينها نوادر،ومن تلك النوادر رسالة جاءت تحمل اسم (مشاري) صديق طفولة الراوي:(في البدء لم اعرفه ولم أتذكر أني سمعت به، كما لم أكلف نفسي السؤال عنه، كنت متعبا، قرأت رسالته قفزا وبسرعة ثم أعدت إرسالها إليه - REply  مع كلمات شكر ومجاملة كعادتي مع أكثر الرسائل الواردة، لكن وأنا في الفراش وبعد تلاوتي سورة الواقعة كما افعل كل ليلة أضاء اسم مشاري ذاكرتي، من مشاري هذا ؟). وليس عبثا من منطلق الحتمية اللاشعورية التي أسسها التحليل النفسي كتفجير معرفي هائل - وكما أوحينا سابقا - في الحياة المعرفية الكونية أن يقوم الراوي بفتح حقل بريده الألكتروني فيجد رسالة موجهة إليه.. ويرد عليها.. فتعود إليه..  لقد كانت الرسالة مرسلة - وحسب بريده الالكتروني - من جابر وإلى جابر نفسه !هكذا تستطيع -عبر مدّ التكنولوجيا الكاسح -أن تخدع نفسك بنفسك.. في لحظة خاطفة.لم نكن نستطيع إرسال رسالة إلى أنفسنا بهذا اليسر على الورق. لابد أن يكون هناك وسيط هو ساعي البريد، الذي من دونه تصبح العملية مفارقة كوميدية أو لعبة "فصامية" في أحسن الأحوال. مع الكمبيوتر ألغي دور الوسيط وصار بامكانك أن ترسل رسالة إلى ذاتك.. يقرأ الراوي سورة "الواقعة"، كل ليلة ووسط قرائتها وهي سورة مهددة بالويل والثبور الإلهيين العظيمين.. يبزغ اسم صديقه القديم.. صديق الطفولة.. مشاري الذي سميت القصة باسمه.. وسنعرف لماذا بزغ اسم مشاري بعد أن أكمل الراوي سورة الواقعة، فهنا تداعي شرطي لأن قراءة السورة استدعت المصحف الذي أهداه النوخذة مشاري إلى مشاري الطفل بحضور الراوي أيام كانا في المدرسة الابتدائية. هنا وبعد أن قطعنا أشواطا مهمة من درب الحكاية، وهذا ما يقوم به جابر دائما حين يستدرج قارئه بمكر وهدوء.. ليوصله إلى مركز دائرة المحنة.. دائرة التغييب والدهشة.. فالرسالة صدرت عن الراوي وهو جابر خليفة وعادت إليه هو نفسه: FROM: JABIR--_ KH @YAHOO.COM TO: JABIR_ KH@ YAHOO.COM  لكننا سندخل عبر هذه الرسالة في حكاية جنينية على طريقة سيدة الحكايات "ألف ليلة وليلة" حيث تنمو وتترعرع أجنة الحكايات داخل الرحم الحكائي الأم. الكابتن مشاري هو - كما تذكر الرسالة الإلكترونية - صديق طفولة الراوي، يذكّره في الرسالة بأنه قد تعلق بعالم البحر وقرر أن يكون قبطانا عندما شاهد، وهو تلميذ في المدرسة الابتدائية، النوخذة / الكابتن "مشاري" في "الفاو" بلحيته البيضاء وقامته الفارعة: (حينها عبر رجل كبير السن،لحيته بيضاء، فارع القامة، قنطرة خشبية بين سفينته والشاطئ،عبرها بثبات ووقف البحارة احتراما له، سمعناهم يقولون جاء النوخذة مشاري جاء النوخذة، ولأن اسمه مشابه لاسمي انتبهت إليه، تركتك وذهبت إليه،قلت له السلام عليك نوخذة أنا مثلك اسمي مشاري. فانحنى علي، كان طويلا، وقبلني وهو يبتسم،ثم اخرج دراهم من جيبه فرفضت أخذها، رفضت بشدة،قال لمن حوله من البحارة: العراقيون خشومهم عالية حتى أطفالهم. فقلت له وأنا انفخ نفسي لأبدو كبيرا: - نوخذة أنا كبير..ابتسم بأبوة، أتذكر ابتسامته الحانية الى الآن، لمعت عيناه بشىء من الدمع، ابتسم وقبلني مرة أخرى وقال: إذن خذ هذه الدراهم من عمك مشاري. أنا عراقي أيضا يا ولدي ولكن من الشارقة.  فرفضت مرة أخرى، سكت النوخذة قليلا، أعاد الدراهم في جيبه وقال لي وهو يمد يده الى جيب صدريته الداخلي:                                                                               - هل تقرأ القرآن يا مشاري ؟ قلت نعم واليوم امتحنَا في سورة الكوثر، تلوتها عليه فدمعت عيناه وقدم لي مصحفه الصغير وقال لي: هذا كتاب الله القرآن كل شي في الدنيا يتغير وهو باقي، أدعو لي يا مشاري كلما قرأت فيه... وما زلت الى الآن احتفظ به وادعوا للنوخذة مشاري. حين عدت الى البيت، فرح أبي حين سمع بذلك، وجاء معي في الغد وهو يحمل على دراجته خصافة تمر وكيس من حناء الفاو العطرة. لكننا وصلنا متأخرين... كان البوم الكبير قد ابتعد عن الشاطئ قليلا، أشرعته ترتفع وعلمه الأحمر يرفرف من أعلى الصارية). حزنت يا صاحبي ترقرقت الدموع في عيني (أنا الآن اكتب إليك وابكي) تخيلت النوخذة ينظر إلينا ويلوح، تخيلت البحارة يلوحون.. فلوحت لهم بيدي وكنت ابكي رأيت أبي يلوح  أيضا). لكن مشاري الشاب أرسل رسالته هذه إلى صديقه الراوي بعد أن عرف أن الأخير صار قاصا شهيرا، يستطيع أن يصوغ حكايته مع النوخذة مشاري التي سيسردها في رسالته. أي أن مشاري القبطان الشاب يقدّم "مشروع" الحكاية التي على الراوي أن يطوّرها فنيا ويمنحها اشتراطات الحكاية. لكن ما الذي أثار فكرة الحكاية النواة في ذهن مشاري الشاب ؟ إنها رؤيته ظرف رسالة لأحد مسافري سفينته موجهة إلى العراق - الناصرية - شارع الحبوبي - قرب معرض الشارقة للسيارات، فتداعى ذهنه إلى الأيام التي عاش فيها في الشارقة في سنوات الحصار وكيف لاحظ وجود أسماء عراقية على الأحياء والشوارع: الحيرة، واسط، الناصرية.. أي أن الإسم المحفز: معرض الشارقة، الذي شاهده على ظرف رسالة موجهة إلى مدينة الناصرية أعاده إلى اسم الناصرية الذي شاهده في الشارقة.. وإلى النوخذة مشاري العراقي الساكن في الشارقة، والذي أعاد سيرته مشاري الشاب حين صار نوخذة وسكن الشارقة أيضا وكأننا أمام تناسخ أدوار وأرواح..  لعبة تداعيات مركبة.. فالمثير الجنيني قائم في رحم مدينة أم، تتحول بدورها إلى مثير جنيني في رحم مدينة أم تعود بدورها لتشكل محفزا جنينيا لذكرى أعمق تعود إلى أكثر من ربع قرن، أيام طفولة مشاري الشاب والراوي والكيفية التي التقيا بها بالكابتن مشاري الشيخ. يستعيد مشاري سلسلة الذكريات هذه وهو جالس في كابينة القيادة في سفينته المبحرة قبالة الساحل الهندي. والفكرة المركزية في ذكرياته هذه هي تماهيه مع الكابتن الشيخ بدءا من تطابق الإسمين: مشاري، إلى الإنبهار بمظهره وشخصيته. ومشاري الشاب يخبر صديقه الراوي بأنه سوف يرسل إليه حكايته بعد أن يكتبها على ورقة ويضعها في قنينة زجاجية ويرميها إلى البحر، فهذه هي الطريقة الشائعة في إرسال الرسائل بين البحارة وسكان السواحل. ستعوم الحكاية تتلاعب بها أمواج البحر العاتية، مثلما عامت مصائر شخوص الحكاية في عاصفة الحرب الكارثية التي خرّبت كلّ شيء:(أغمضت عيني عن شاشة الكومبيوتر قليلا، تذكرت مآسي الحرب، دماء الشباب، البواخر والزوارق الغارقة، بساتيننا المحترقة، مجازر النخيل، دورنا المهدمة، مدابسنا، ممالحنا، تذكرت كل شيء وتذكرت صاحبي مشاري). ومثلما ستتمزق مصائر ركاب سفينة مشاري الهاربين من العراق إلى استراليا.لقد تذكّر الراوي صاحبه مشاري الآن، ولكن مع حضور الذكرى يغيب الجسد، وكأن الذكرى يجب أن ترتبط دائما بالغياب، فخلال اغفاءة الراوي الوجيزة تصله رسالة من امرأة هندية هي " مدام شاري " - ولاحظ الذكاء في توظيف الإسم الذي يرتبط باسم مشاري - تقول فيها: (وجد حفيدي " شاندرا " هذه الرسالة في قنينة جام عند الشاطئ ومنها عرفت عنوانك فبعثتها إليك، أنا اعرف عربية زين شويه، زوجي كابتن وكنا في البصرة سنوات في الحرب عالمية التانية، آمل أنا حققت أمنية صديقك البحار الذي سمعت في أخبارT V قبل أشهر أن سفينة هو غرقت وهي تحمل مهاجر عراقيين الى استراليا، أنا علمت أن كابتن سفينة، صديق إنت، احد الغرقى I am sory for that أهل البصرة كثير طيب. الواجب يدعوني لأخبرك واعمل مسج اليك بالايميل).هكذا يغلق الكاتب دائرة حكايته على مستويات ثلاثة: الأول على مستوى اللسان السارد حيث أن الحكاية تبدأ من جابر وتنهي بجابر محكية بلسانه / لسان أناه رغم أنه يقدّم أشطار من الحكاية من خلال رسالتين لمشاري الكابتن الصديق ولمدام شاري من مدينة بومباي الهندية. والثاني يكرّر اللحظة الدرامية الانفعالية التي ودّع فيها مشاري الطفل بوم النوخذة وهو يبكي والتي استعادها وهو يكتب الرسالة إلى صديقه. هذه اللحظة تتكرّر - تُغلق إلى الأبد عندما تصل رسالة مدام شاري التي تعلن غرق مشاري ورحيله النهائي وكأن الراوي يقف ليلوح لصديقه الذي صار نوخذة في وداعه الأخير. أما الثالث فعلى مستوى الثيمة المركزية، الممثلة بالغول التكنولوجي الذي بات يهدد الإنسان وخصوصيته وروابطه النفسية والاجتماعية. هذا التهديد الذي مثلته آلة الطابعة للمستشرق الروسي تجاه نسّاخي خان الخليلي، حيث يعود القاص في ختام حكايته إلى التماهي بهم - مثلما تماهى مشاري الطفل بمشاري القبطان الشيخ -، والتماهي بمشاري القبطان صديق الطفولة الذي كان من المؤكد آخر الصامدين وهو يحاول إنقاذ المهاجرين العراقيين الهاربين من جحيم بلادهم، باحثين عن منفذ للخلاص في استراليا: (لعله حاول إنقاذ اكبر عدد ممكن من ركاب السفينة وكان آخر من بقي على متنها كما تقتضي أعراف البحر..                                                             قد أكون أنا أيضا آخر كتاب العصر الورقي). وإذا كان لكل قصة من بطل أو شخصية مركزية فإن بطل هذه القصة هو "الخراب" المعلن والمستتر.. الخراب المدمر العاصف الذي لا يبقي ولا يذر في الحالين.. ولكنه خراب لا نشعر به بحدّته الجارحة.. بل يمر هادئا إذا جاز التعبير.. وفي هذا يتمثل جانب كبير من رسالة القاص.. فاللعبة الكومبيوترية كفيلة بـ "تسطيح" المشاعر المحتدمة الموغلة في العذاب على "سطحها" الأملس الذي لا ينفعل، ولا يشتعل ولا يساعد على الإشتعال الروحي، أننا نقف أمام لعبة رسائل  inbox.. reply.. sent.. وليس أمام تبادل رسائل حقيقي اعتدنا عليه.. تضغط على لوح الجهاز فينبثق الحرف على الشاشة من أحشائها.. وليس مثلما ترسم أنامل روحك – مع رجفة رغبة بالالتحام  - الحرف على الورقة.. لكن اللعبة المشارية الغرائبية لا تقف عند هذا الحد، إنها تبدأ من هنا، وهي ليست لعبة مجردة رغم أن جانبا كبيرا من الفن ينطوي على لعب طفلي باذخ، فالحكّاء الأساسي هو في الواقع "مشاري "الحكاية المرجعية، هو العالم بكل تفاصيلها، والمحيط بمساراتها والممسك بخيوطها، وحين يصر مشاري الشاب على إرسال رسالته في قنينة زجاجية يلقيها إلى اليم، فإنه يعزّز موقف الراوي من عالم التقنية الذي يخشاه ويرسّخ لاثقته فيه بإصراره على توصيل رسالته بالطريقة البدائية. لكننا عدنا إلى نقطة تمفصل القلق الحاسمة، حيث لم تجد مدام شاري، بعد أن عثر حفيدها "شاندرا" - ولاحظ تركيز الكاتب القصدي على مسميات حرف "الشين" - على القنينة/ الرسالة، سوى الإنترنت - عدوّ الراوي اللدود - وسيلة تبعث بها برسالة مشاري إلى صديقه الراوي. لن تستطيع النظرة الشعرية الصمود أمام زحف الوحش العلمي المؤتمت.. وعلى طريقة اللعبة الروسية التي كلما فتحنا "رحم" دمية ظهرت لنا دمية أخرى، فإن لا الحكايات تتناسل في هذه القصة حسب، بل الأزمان كذلك. فبعد غفوة وجيزة عاد الراوي إلى جهاز الكمبيوتر ليجد أن رسالة صديقه مشاري التي ردّ عليها بإيجاز قبل قليل قد اختفت من صندوق الـ inbox  والـ sent .وتحولت إلى رسالة شخصية (دائرية) من الراوي وإليه، إننا نتخطى حواجز الزمن التقليدية هنا.. مثلما نتجاوز حدود مسمّيات الوجود الشخصي المادية، فعقب إغفاءة ثانية سريعة أيضا يستعيد فيها الراوي مآسي الحرب وويلاتها الفاجعة، تصل رسالة مدام شاري اللاحقة فورا وبصورة تثير دهشة الراوي الذي وقّت وصول الرسالة "الأخيرة" المكتوبة بخط اليد على طريقة النسّاخين المنقرضين القدامى مع وقت فاجعة غرق المهاجرين العراقيين، فقد استقرت قنينة الرسالة العائمة على الشاطيء الهندي ليلتقطها طفل بمحض المصادفة، المصادفة العمياء نفسها التي جعلت الكابتن مشاري الشاب يشاهد لافتة معرض الشارقة فيستدعي ذكرياته التي يرى أن صديق طفولته القاص الذي صار شهيرا فقط هو القادر على صياغتها في صورة حكاية، وهنا تتجلى براعة القاص، فقد صاغها وقدمها لنا على طبق سرد ذهبي من دون أن نشعر بوقفات زمان أو محدّدات مكان، لقد جرت وقائعها على شاشة الكمبيوتر دون أن نراها أو نرصدها، ولعل هنا يكمن جانب كبير من "فلسفة" القاص، والذي يتمثل في أن العصر الكمبيوتري هذا يحوّلنا إلى أشباح.. عظام هيكل الروح العظمي التي تظهرها الأشعة السينية كما يحصل في أفلام الرعب.. "يصبح البصر عالما.. في حين تعمى البصيرة" لكننا في الواقع لا نرى شيئا سوى كلمات "جابر خليفة"،آخر كتاب العصر الورقي.. الذي يوسّع الرؤيا فيتماهى مع المحنة الوجودية الشاملة التي استهلها بتهديد آلة طابعة المستشرق الروسي للنساخين، فبعد أن من واجبه أن "يكتب" حكاية صاحبه الكابتن مشاري مع النوخذة مشاري، آخر النواخذة، لأن تسطير هذه الحكاية هي فعل خلودي مقاوم للفناء.. فعل دفاعي في وجه الوجود الشبحي الذي يتوعدنا به غول عالم الأتمتة والرقميات: (ربما..سأكتب- اذن- حكاية صاحبي الكابتن مع النوخذة مشاري، اخر النواخذة،سأكتبها، لعلَنا نبقى).وحين نتابع نصوص جابر خليفة، فسنجد أن أغلبيتها المطلقة تجري وقائعها في "بيئة مائية"، هي من عطايا بيئة البصرة. ففي معظم نصوصه هناك مكونات المكان المائية: النهر والبحر والزورق والبوم والقبطان والنوخذة والبحارة والشاطيء والأسماك... إلخ. ولكن هذا التأثير لا يقف عند هذا الحد بل ينعكس على بنية قصصه التي صارت تأخذ شكل بنية "موجية" إذا جاز الوصف حيث تأتي كل دفعة من دفعات الأحداث في صورة "موجة" هادئة ترتفع نسبيا لتصل ذروة حدثية واطئة تعود بعدها لتستقر عند قاع بداية سردية جديدة تنطلق منها موجة " ناعمة " جديدة وهكذا، وقد لا ينفصل هذا التصميم عن المزاج الشخصي الهاديء للكاتب.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1527 السبت 25/09/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم