صحيفة المثقف

حركة الترجمة واهميتها الحضارية .. أين نحن منها الآن؟ / عبد الجبار العبيدي

في مختلف الميادين الاجتماعية والسياسية والقتصادية والثقافية، وهو بناء المؤسسات العلمية لترجمة العلوم والآداب والفنون من اللغات الاجنبية الى اللغة العربية.ولغتنا العربية وما فيها من مفردات واسعة مستعدة لاستيعاب كل المصطلحات الاخرى المترجمة اليها.

 

ونقصد بالترجمة نقل الكلام المسموع والمكتوب من لغة الى لغة اخرى. والترجمة حضاريا، هي نقل التراث العلمي والادبي من اللغات القديمة التي كان مدونا بها الى اللغة العربية تمهيدا لادخاله في الفكر العربي الاسلامي، ليسهم في اغناء حضارة عربية اسلامية متميزة.

 

والترجمة فن عريق ظل ملازما للحضارة الانسانية عبر تاريخها الطويل .فمنذ ان انتشر الانسان على الارض، ونشأت الامم والشعوب واللغات المتباينة، ظهرت الحاجة الى الترجمة للتعرف على اراء واسلوب تفكير تلك الشعوب المختلفة، لذلك عملت الترجمة على التقريب بين الثقافات وربط شعوب العالم لزيادة التفاهم بينها حفظا للتقدم والسلام.لذا كانت الجسر الذي عبرت من فوقه انجازات الامم وتفاعلت ونضجت وأنتجت الحضارة الانسانية العظيمة.

 

ويؤكد علماء الآثار والتاريخ، ان الحضارات القديمة قد عرفت الترجمة منذ القدم، وان اقدم آثارها يعود الى 3500 ق.م، اذ وجدت نقوش مكتوبة بلغتين في جزيرة فيلة بالقرب من مدينة اسوان في المملكة المصرية القديمة .وفي القرن الرابع قبل الميلاد قام الرومان بترجمة اهم المؤلفات الاغريقية الى اللغة اللاتينية. وفي العصر الاموي بدأت حركة الترجمة في الدولة الاسلامية منذ عهد الخليفة عبد الملك بن مروان (86للهجرة)، حين ترجمت الدواوين الادارية والمالية من اللغات القديمة الى اللغة العربية رغبة منه في تطوير مؤسسات الدولة الاموية(3) . وفي العهد العباسي بلغت حركة الترجمة ذروتها العلمية والادبية التي رعاها الخليفة المآمون بأفتتاحه بيت الحكمة البغدادي سنة 219للهجرة.

والترجمة هي فن وعلم ومهارة شخصيةتتطلب معرفة تامة باللغة المترجم منها والمترجم اليها.وقدراٍ كبيراً من الابداع والذكاء والذوق السليم والثقافة العامة، والحس اللغوي السليم الذي لا يجعل القارىء يشعر ان النص المترجم منقول من لغة اخرى.هذا هو مقياس النجاح في اي عمل يخص الترجمة.ان الهدف الرئيسي في الترجمة هو التأثير على القارىء بنفس درجة تأثير النص الاصلي على قارئه.هذا الشرط لم يكن متوفراًبدرجة عالية عند المترجمين للتراث القديم بشك خاص لاسباب اهمها:

 

- عدم وجود معاجم للكلمات الاجنبية للرجوع اليها عند الحاجة .

- اعتماد المترجمين على الحفظ والحافظة في استخدام الرصيد اللفظي من اللغات الاجنبية التي ينقلون عنها، لذا صادفتهم الكثير من العقبات اثناء حركة النقل.

- ظهور طريقة الاجتهاد الفردي، لذا لم يكن للمترجمين مبدأ معين ملزمين به، فسادت الفوضى في الترجمة احياناً.وهذا ما يحصل في كل عهد تستخدم الترجمة فيه بشكل فوضوي وتلقائي لتحقيق اغراض معينة سريعة كما في الحروب والغزوات التي تحدث في العالم.العراق وافغانستان اليوم مثالا.

 

لكننا وبأمانة علمية تامة نقول: ان الترجمة في العصر الاموي انتقلت الى فكرة التطبيق العلني لها حين بدأ خالد بن يزيد بنقل كتب الطب والفلك والكيمياء الى اللغة العربية، فكانت هذه البداية هي حجر الاساس في الحركة النقلية الكبرى التي حصلت في الدولة الاسلامية. ثم اعقبتها حركة التعريب في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان حيث عربت الدواوين والنقود والطرز في المباني العامة وملابس الجند، ثم انتقلت في عهد هشام بن غبد الملك الى التنظيمات الادارية، حتى اضفت الترجمة الطابع العربي الحضاري للدولة.ومع كل هذه الجهود المبذولة لم تظهر على مستوى الدولة الرسمي مثلما ظهرت في عهد العباسيين .

 

اما في العصر العباسي فقد نشطت الترجمة من التراث الاغريقي والفارسي والهندي والروماني الى اللغة العربية .ففي عهد الخليفة المنصور ( ت158للهجرة) .ترجمت كتب أبقراط وجالينوس في الطب، وكتب أقليدس في الهندسة، ومجموعة كتب الفلك، لولع الخليفة بعلم النجوم، كما نقلت كتب السلوك مثل كتاب كليلة ودمنة لبيدبا الهندي الذي نقله عبدالله بن المقفع وكتاب السند هند الخاص بعلم النجوم، وفي عهد الرشيد ازدادت حركة الترجمة الى العربية فنقلت كتب الكيمياء والطب والادب حتى سمي عصره بالعصر الذهبي رفاهاً وعلماً.

 

لكن الترجمة لم تظهر على مكانتها العلمية الزاهرة الا في عهد الخليفة المآمون (ت198 للهجرة). حين ظهرت كتب الفلسفة واصبح بيت الحكمة البغدادي مقراً رئيساً لها، ومن اشهر مترجمي عصر المآمون حُنين بن اسحاق الذي نشر كتاب العشر مقالات في العين، ونشرت كتب الفلك لبطليموس ومجموعة الكتب الطبية الخاصة بجالينوس وكتب المنطق لارسطو وكتب السياسة لافلاطون، لكن الذي يميز هذه الفترة هو بروز ظاهرة الترجمة التخصصية.اي لا تترجم الكتب بالتداخل ولا تعطى الترجمة العلمية الا لمتقنيها علما ولغة في التخصص العام والخاص، وتلك ظاهرة فريدة نلمسها لاول مرة في عهد المآمون ودليلا على التطور والرقي الذي وصلت اليه الحركة في عهده. ثم نقلت العلوم القديمة بلغات مختلفة واستمرت حتى العصر العباسي الثاني.

 

ولا يفتونا ان نذكر في هذا المجال المدارس التي اعتمد عليها في نقل الترجمات الى العربية.وتقف مدرسة الاسكندرية وانطاكية وحَران ونصيبين وجند يسابور وبيت الحكمة البغدادي في المقدمة.

 

ومن اشهر المترجمين، حُنين بن اسحاق، ويعقوب الكندي وثابت بن قره، وقسطا بن لوقا وعبد المسيح الحمصي وغيرهم كثير، ولقد اتبع هؤلاء طرقا وخصائص مختلفة في الترجمة منها:

 

الترجمة الحرفية وهي ترجمة النص الاصلي كلمة بكلمة حتى ياتي الناقل على الجملة مجتمعة لا على الكلمة منفصلة حتى نهاية الكتاب ثم طورت فيما بعد ومن مترجميها يوحنا بن البطريق. ثم ادخلت عليها طرقا اخرى في الترجمة كالترجمة بالمعنى وتقوم هذه الطريقة على المعنى الشامل لكل جملة ثم ربطها بالجمل الاخرى حتى يتكون مضمون الكتاب.وهناك الترجمة بالتلخيص والاختصار، وقد دلت على قوة الناقل او المترجم في اللغة المنقول منها واللغة المترجم اليها. ثم اتبعت طريقة الترجمة من اللغات القديمة الى العربية عبر اللغة السريانية .

 

لكن الملاحظ ان حركة الترجمة لم تكن مقصورة على القطاع الرسمي في الدولة بل تعدتها الى القطاع الاهلي، وتقديم العون المادي للمترجمين وجلب المخطوطات الخارجية ومن هذه القطاعت عائلة موسى بن شاكر واولاده محمد واحمد والحسن وقدموا للحركة مالم تقدمه دولا في هذا المجال وكلهم عراقيون من بغداد ومن رعاة مدرسة دار الحكمة البغدادية .تلاهم محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم والواثق وجهات اخرى لا يسع المجال لذكره.لكن مع الأسف لم نرَ مثل هؤلاء في العصر الحديث رغم تقدم الزمن وزيادة المعرفة العلمية والانسانية والامكانات المتوفرة عند الكثيرين اليوم.نحن بحاجة الى توعية رسمية وأهلية للتوجه بهذا الحقل العلمي الهام، لا سيما وان النظريات العلمية اصبحت تأتي على كل جديد في مجالات العلم والتكنولوجيا.

 

لقد افرزت حركة التجمة افرازات علمية كثيرة منها ظهور العلوم التطبيقية والحركة الادبية والاجتماعية والفلسفية في الدولة وظهور طبقة النقلة المهنيين والعلميين التي وفرت العبقريات العلمية الجديدة التي ابدعت في مجال البحث العلمي، ودخول العلم مرحلة اختبار النظريات والقواعد لاثبات صحة الصحيح وتعديل الخطا، ووضع البديل للنظريات الخاطئة متمتعين بحرية الحركة والقول، وظهور حركة التصنيف الكبرى للعلوم التي بينت مصادر الكلمات غير العربية وتعريبها فيما بعد، بالاضافة الى ازدهار حركة الوراقة والوراقين وتكوين المكتبات الكبرى فاصبح لبغداد تاريخ فيها.

 

وعلى هذا الاساس اتاحت حركة الترجمة مادة حضارية للاجيال اللاحقة مما ولد الحركة العلمية التي نراها في الوقت الحاضر، والتي ادت الى ربط الجسور العلمية بين الامم والشعوب بعضها ببعض، فساهمت بعملية التطور والتقدم الحضاري في المجتمعات الانسانية .

 

على اقسام اللغة الانجليزية في الجامعات والمعاهد العراقية اظهار التوجه نحو ترجمة النصوص الاجنبية الى العربية وبطريقة الترجمة الفورية والبطيئة وخاصة من المواقع العلمية للترجمة مثل موقع (آد كايروadcairo ) وموقع ( ميوزك music) وموقع )الموسوعات الحرة(encyclopedia .هذا التوجه سيغني المكتبة العراقية بالكثير من العلوم الحديثة والتي ستمكن الطالب من زيادة معرفته واطلاعاته العلمية. بعد ان سطا اللصوص على مكتباتنا فعاثوا فيها فسادا ونهبا، فهل لنا ان نعيد ما فقدناه.هذه هي احدى مهمات الجامعات العراقية اليوم. وستبقى بغداد مركزا للعلم والحضارة على مر الزمن فمن ارضك ظهرت الكتابة ومن قصبك صُنع القلم والكتابة والقلم هما اصل الحضارةالعراقية القديمة.

 

د.عبد الجبار العبيدي

 

للاطلاع

 

المشروع العلمي لتأليف الموسوعة العلمية للجامعات العراقية  / د. عبد الجبار العبيدي

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2003 الأثنين 16 / 01 / 2012)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم