صحيفة المثقف
شاعرٌ لمْ يلْتَقِ .. بِظـلّه / ياسمينة حسيبي
ذبحوا قصيدتَه من اليمين إلى اليسار،
ومن اليسار إلى اليمين،
ورموا - بِـإِسْمِه - في غياهب النّـسيان..
رآهُ الناس يتسكّع في شوارع المَـنافِي - مُبْتهجًا -
لا تستغربوا ! فهو مقتنعٌ جدًّا ...
بِأنّـه ما زالَ على قيْـد الحياة !
******************
قالوا لـه: لمَ لا تكتبُ شيْـئًا عن الوطن؟
فأخرج من جيبه قصيدة قديمة كتَـبَـها في مطلع الثّمانينات ...
وبدأ (يُـرقّعُ) في كلماتِـها لِتَتماشى مع " التغييرات الجديدة"
ضحكَ القوم حتى دَمَعَتْ أعيُنهم ...
ثم أجهَـشَ (الجميع) بالبُكاء المرير!
*****************
التقيتُه مرّةً بقِـسم المستعجلات (البطيئة)
كان يحمل بين يديه قصيدةً صغيرة تَـنْزف دمًا،
تمتم في حزن :
لقد تَـعَثّـرَتْ بـِـــ (الوطن) وسَـقَـطَتْ
أجبْـتُـه وأنا أمضي لحالي :
لنْ يستطيعوا من أجلها شيئًا أيها الشاعر ..
فــ (جراحُ) الوطن لا تُشفى أَبَــــــــــدًا !
*******************
قالوا له: ما تِلك بيمينكَ أيّها الشاعر؟
قال : هِيَ قصيدتي أتوكأُ عليها في منفايَ
وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى جراحي .. وَلِي فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى
وطبعًا ... لم يُخبرْهم عن (المآربِ الأخرى) !!!
******************
سألَتْـهُ صَحفيّة مغمورة عن أحبّ القصائد إلى نفسه ..
فردّ دون تفكير : تلك التي نظَـمْتُها في أحلامي ...
وفي غفلةٍ من أعْيـُن (الرّقيب) !
*******************
وكل مساء، كان يجهّز حقيبة السفر...
يحضّرُ بدلتهُ القديمة / الجديدة،
يلمّع حذائه المغبّر،
يضع أوراقه (الْشِبه ثُبوتية) بعناية على الطاولة،
يتسلّـلُ تحت غطائه،
يقرأُ دعاء السفر،
ثم ينام ... ليحلمَ بأنّه قد عاد إلى الوطن !
****************
لم يرزقه الله بالأطفال...
فتكفلت زوجته (من شدّة تعلقها به) بتربية " بنات أفكاره"
وعندما اشتدّ عودهنّ، وَظهرت مفاتنهنّ،
اغتصبهنّ ... السّلطان !
******************
جلس في غربتِـه مُقرفصًا ...لسنين طويلة
مصوّبا نظراته ...
نحو وطنٍ لم يكن يـَـراه أو حتى يلاحظَ وجوده !
*******************
كلّما قرر كتابة قصيدة عن الوطن ..
أعدّ كأسًا من الشاي السّاخن...
يندلق الشاي على الورق فيتبلّـل..
يتأفف الشاعربعصبيّة ثمّ يلعن الشاي !
(بيني وبينكم ... كان يرتَـعِب من فكرة فتح جِـراح الوطن
فيَدلـق الشاي على الورق -متعمّـدًا- حتى لا يكتبَ شيئًا) !
******************
يَتلمّظ جروحه كل صباح على الرّيق،
ويشْفط ذكرياته الموجعة مع القهوة الباردة،
يسكُـب حنانه (المتبقّي) على - لاَ أحد -
يفتح الباب ويغلقه عدّة مرّات في اليوم
مُتوهّمًا أن أحدًا ما طرقَ الباب ..
وعندما يُـصِيبُـه? التّـعب (من نفسه)،
يقوم بـــ (تمثيل) جريمة .. يُقيّدها ضدّ مجهول
ويكون هُـوَ : المسرح ... والجثة ...وأداة القتل !
آهٍ من خياله الواسع .. ذاكـَ الشاعر
********************
أقصى ما استطاع إنجازه وهو بالمنفى...
مشاركته بدفَـن أمّه (التي ماتت قـهرًا عليه) ...
عن طريق - البريد التّالي -
أيْ وصلتْ بطاقته في الساعة العاشرة من صباح اليوم التّالي .... لِموتِها !
******************
وحده هذا الشاعر رأى دمه يرقُص على صفحة الماء وهو يغادر الوطن !
وفطن الى ذبيب النّمل في جسد الوقت فوخزه بأصبعه متعمّدا !
وحده هذا الشاعر... استطاع أن يفكّ أزرار القصيدة بيدٍ واحدة !
وتيمّمَ للصّلاة وهو عائمٌ في الماء
استلذّ هجعة الساعة السادسة مساءًا في سريرٍ يطفو على بِرْكةٍ من موت !
ونجحَ في تَكبيلُ الضوء بخيطٍ من فراغ !
لكنّـه المواطن الوحيد الذي تاهَ عن الوطن
وعندما اهتدى أخيرًا الى ربُـوعــهِ،
كان الوطن قد حَــزم حقائبَـه
... ورَحــــــــــل !
ياسمينة حسيبي
تابع موضوعك على الفيس بوك وفي تويتر المثقف
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2152 الجمعة 15/ 06 / 2012)