صحيفة المثقف

الانحدارية والفوضوية في الفن / كاظم شمهود

وما نشاهده اليوم في عصرنا من تطرف الا هو انعكاس لافكار قديمة جدا .  وحتى في مجال المنظمات الدينية المتطرفة التي تقصي او تعدم كل من خالفها في الرأي، لها جذور في فجر العصر الاسلامي كالخوارج  ......

(لعبت هاشم بالملك فلا   خبر جاء ولا وحي نزل)

ومنها نذكر الفلسفة السفسطائية التي ظهرت في زمن الاغريق ثم ظهرت بعدها الفلسفة الشكية والتي تزعمها وبشر بها  _ بيرون _ زاعما عجز الانسان عن اعطاء اي حكم على الاشياء ... وكانت السفسطة قد ولدت قبل الشكية بعدة قرون، حيث انكرت الحقائق العلمية والحسية كافة واتخذت مسلك الجدل حول مواضيع وهمية لا تفضي الى اي نتيجة . وذكر بان الشكية جاءت كحل وسط بين السفسطة والفلسفة .

وظهرت اليوم من جديد الفلسفة الشكية على يد الفيلسوف الانكليزي دافيد هيوم فاعلنت نظرية (لا ادرية) وحاولت تبرير ذلك باظهار تناقضات الحواس وتضارب الافكار التي  يسلب منها صفة الوثوق العلمي .. وقد جاءت ايضا الشكية الحديثة كحل وسط بين المثالية والواقعية . فالمثالية تزعم ان الواقع قائم بالشعور والادراك، والواقعية تؤكد على انه موجود بصورة موضوعية مستقلة، والشكية ترفض ان تجيب على المسالة لان الرد عليها مستحيل فلترجأ المسألة الى الابد ... وقد تبنت الماركسية فلسفة هيوم في بعض جوانبها ....

هذه الحركات الفلسفية القديمة والحديثة، انعكس تاثيرها على فعاليلات الادب والفن، فظهرت في القرن التاسع عشر حركة اطلق عليها بعض النقاد (بالانحدارية) واحيانا يطلق عليها بالداندييزم (الاناقة) وقد حمل لوائها  في الادب تيوفيل جوتييه وشارل بودلير .  وفي الفن  المصور الامريكي الاصل جيمس ايوت . وفي نفس الوقت ظهرت جماعة اخرى اطلق عليها ـ فن الصدمة ـ تزعمها عدد من الفنانين والادباء الشباب الذين  نهجوا اسلوب المصادمة مع الطبقة البرجوازية .

و هذه الجماعات الفنية والادبية كانت لديها رغبة جامحة بالخروج عن المألوف والاغراق بالاثم والمحرمات، فأتخذت صور شتى من الانحرافات مثل استعمال المخدرات والممنوعات من المغيبات مثل الحشيش والافيون والخمور والشذوذ الاخلاقي  وغيرها ... واعلن هؤلاء حربهم على جميع القيم التي يعتبرونها مزيفة فحاربوا المجتمع وحاربوا الاخلاق، ثم وقفوا في الحانات والملاهي الليلية والشوارع يفضحون زيف الحياة الاجتماعية، عن طريق الخطابة والتصوير معلنين ومبينين عبثية الحياة . وفي هذا السياق ظهرت فلسفة العبث والتمرد للبير كامو 1913 ـ1960 وقد بنى كامو فلسفته العبثية على اسطورة اغريقية قديمة ـ(اسطورة سيزيف)ـ وحكم من خلالها على ان الحياة شقاء وتعب ليس لها جدوى او معنى ...؟!

وانا لا افهم ولا اعرف كيف تعطى جائزة نوبل لصاحب فلسفة (العبث والتمرد) وكانها تشجيعا وتثمينا لافكاره العبثية المناهضة للاستقرار والسلام ولكل القيم الانسانية .؟ .... نعم لقد اعطيت لشخصيات سياسية ساهمت في جرائم حرب بحق الانسانية . ولم تعطى الى نجيب محفوظ الا بعدما بارك وايدي السادات في زيارته الى اسرائيل . مع احترامي الكبير الى عميد الادب العربي  نجيب محفوظ . وعندما كنا صغارا كنا نهيم حبا لقرائة اعماله، خاصة الثلاثية، والذي احبها وبكى عليها جيل من العرب ...

ولهذا كانت لوحات وادبيات هؤلاء جاءت مليئة بالخيالات والرموز  ومستنبطة من عالم الاحلام او اللاوعي او الغيبوبة وتحت تأثيرات المخدرات او بنوا افكارهم على اساطير قديمة ..  ومنها جاءت بعد ذلك السريالية فن العلاج النفسي فخرجت من  تحكم العقل الظاهري الى تحكم العقل الباطني اللاشعوري . .

هذه الحركات الانحدارية والفوضوية خلقت نوع من الشك والتسائل بمدى نفعية التمسك بالتقاليد الاجتماعية والفنية والقيم الجمالية العتيقة التي رسمها الاقدمون والتي سمحت للسلطة الحاكمة ورجال الدين من الحكم المطلق طيلة عدة قرون ..  من جانب آخر مهدت الطريق الى ظهور حركتين متطرفتين هما المستقبلية والدادائية .  وكانت المستقبلية قد بدأت باول بيان لها ظهر سنة1909   في ميلانو على يد الشاعر توماس مارينيتي ثم بعد عام تشكلت جماعة الرسم بزعامة بوتشيوني Boccioni وهي تيار ثوري نادى بمحاربة التقاليد والماضي وهدم المدن الاثرية واشعال النار في المتاحف والمكتبات .ولكنها جوبهت بالرفضت من قبل المجتمع ثم انهارت فانظم جماعتها بعد ذلك الى الحركة السريالية وقد سعوا ان تعبر اعمالهم عن السرعة والعنف والحركة الديناميكية والزمنية . بعدها ظهرت الحركة الدادائية بعد الحرب العالمية الاولى والتي تعتبر من اهم الحركات الثورية وقد ولدت في زيوريخ في سنة 1916 وكان مؤسسها الشاعر تريستان تزارا Tzara  وقد ظهرت صرخات للدادائية بانها فلشفية المانية حيث رفع الدادائيون الشعارات الفنية التي تبناها الحكم  السوفياتي الجديد  وسعوا ان تكون برلين معبرا روسيا للغرب ....

وقد اعطت هذه الحركة فوضى في الافكار ودعت الى هدم كل القيم والمعايير والنظم ومناهضت كل ما هو جميل . واستخدم الدادائيون تقنيات الكولاج ومواد رخيصة انتشلوها من الارصفة او صناديق القمامة . ومن ابرز الدادائين في كولون ماكس ارنست 1891 وكان قد درس الفلسفة وعلم النفس ثم اتجه الى الفن . وكذلك الشاعر اندري بريتون، ومارسيل دوشامب 1887 وجان آرب  وغيرهم ...

وفي سنة 1924 ظهرت الحركة السريالية وهي حركة فنية نتجت عن التحليل النفسي من خلال آراء فرويد ونادت بالتخلي عن الواقع الخارجي واستلهام مافي عالم اللاشعور وارتكزوا على اسس نفسية لا شعورية  او كما يدعون ـ اسلوب البارانوبا ـ وهو عبارة عن اسقاط الوهم والخيال على الواقع واظهار لتصورات خاصة .. وكان زعيم هذا التيار الشاعر الفرنسي اندرية بريتون  ثم انظم اليه كبار الفنانين امثال سالبادور دالي وبول كلي وغيرهم ..

ورغم ان هذه الحركات المتطرفة لم تعمر طويلا وسرعان ما انتهت بموت اصحابها ولكنها ادت بلا شك الى تحولات كبيرة في الفكر والشعور والمذاق والميل واثارت الوعي في المجتمعات  خاصة الطبقة المثقفة  نحو الميل الى التجديد الجارف الشديد  وعدم الجمود او الركود و لان طبيعة  العالم والكون  كلها في حركة متجددة . ....

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2166 الجمعة 29/ 06 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم