صحيفة المثقف

فصل آخر من تاريخ الحركة الاسلامية في الرفاعي / د.عبد الجبار الرفاعي

كانت تربطني بالمرحوم الشهيد عبدالأمير فرهود الركابي "أبوتماضر" علاقة عميقة وحميمة, نلتقي في الرفاعي بشكل دوري, ثم تكثفت لقاءاتنا في بغداد, بعد انتقاله وعائلته للسكن بجوار محل عمله فيها. وعندما انخرطت في الحوزة العلمية في النجف عام 1978 واظب أبوتماضر على زيارتي, وعادة ما كان يبيت في منزلي, فنمضي الليل حتى نصلي الفجر في الحوار والنقاش في مختلف الموضوعات الحركية والسياسية والاجتماعية. تميز أبوتماضر عن جيله بعقل متوقد, لماح, سريع البديهة, يحرص على مواكبة ما هوجديد من مطبوعات, بالرغم من شحتها وقتئذ في العراق, يلتهم الكتب ويستوعب مضامينها, خبير في توظيف ما يتلقاه من مناهج ومفهومات في صياغة رؤى وتفسيرات للظواهر الاجتماعية والعلاقات الدولية والمواقف السياسية, ينتقل في تفكيره من الجزئي الى الكلي, ومن التفاصيل الى المشتركات, يكتشف الكليات, ويطبقها في فهم وتحليل الواقع واكتشاف متغيراته. كان الوحيد من زملائنا في تلك الفترة الذي يستند في التحليل السياسي الى معايير علمية, ويطبق أدوات مستقاة من الفكر السياسي الحديث, يدرك تناقضات الواقع ومنعرجاته, ويستشرف المستقبل بذكاء, يتنبأ بما تخبئه بعض المتغيرات السياسية, نبهنا الى خطورة صدام حسين مبكرا, وكان ينذرنا بدخول العراق وديان النار بعد صعود صدام الى السلطة وتنحية البكر, كأنه يرى عنجهية صدام ورعونته وتهوره ودمويته, وما يفضي اليه من مآلات ومصائر للعراق والنظام الاقليمي والمنطقة .

ارتبط ابوتماضر بحزب الدعوة الاسلامية من خلال خط التنظيم العسكري, الذي كان يضم المنتسبين الى الجيش فقط, واصبح أحد كوادره الهامة. تنظيم الحزب في الرفاعي لا علاقة له بالتنظيم العسكري, لكن عبدالامير أدرك بذكائه الفطري اني مسؤول عن حزب الدعوة في الرفاعي, فبادر بالانفتاح علي, بالرغم من ان ذلك _ للضرورات الأمنية _كان من المحرمات الحركية. هيمنت الدعوة على تفكيره ومشاعره وعواطفه, ولست مبالغا لوقلت: لم أر أحدا من الدعاة عاشقا متيما بالدعوة كعبدالأمير, يسعى لتجنيد كافة خبراته وطاقته ووقته لها. كان يحرص على تنظيم ميزانية لوقته, طبقا لخطة تستوعب ساعات كل يوم منذ صلاة الفجر, يدون فيها ما ينبغي انجازه حتى منتصف الليل, ويصر على تنفيذها بصرامة, ساعات الصباح للعمل في القاعدة الجوية, والعصر لدراسة العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية, والمساء للمطالعة والعائلة. كان يعرض علي ميزانية الوقت لشهر, ويطلب مني تصويبها واثرائها, وملاحظة الزمن المخصص للدعوة كل يوم, فكنت أُبدي إعجابي وثنائي على إبتكاره ميزانية الزمن هذه, الغريبة على ثقافتنا وعالمنا, الذي لا قيمة فيه للزمن. طالما سألته: لماذا تستنزف الدعوة منك كل هذا الوقت يوميا, فيما تهمل نفسك ولا تمنحها فرصة للاستراحة اوالاستجمام, وهكذا تفرط بحقوق عائلتك؟

فيقول لي: انا أتلذذ بالعمل للدعوة, وأشعر ان العمر قصير جدا, نحن في سباق مع الزمن, انا متفق مع عائلتي بأني نذرت نفسي للعمل في سبيل الله.

لا ينفرد ابوتماظر بميزانية الزمن وانما كان يضع ميزانية دقيقة لنفقاته الشهرية, تتعادل فيها النفقات مع الدخل الشهري, فقرات مدروسة تتضمن تخصيصات: "العائلة, الجامعة, نفقات دراسة خالد "الشيخ أبوباقر", الدعوة, شراء الكتب،...الخ". الميزانية المالية مدروسة بعناية بالغة, لا تهمل تفاصيلها الأشياء الصغيرة. أعثر فيها مرة أخرى على فقرة بتبرعات تطوعية شهرية للدعوة, مثلما وجدت وقتا مخصصا لها كل يوم في ميزانية الزمن. يفاجئني أبوتماضر بموهبته في التخطيط, واسلوبه الرائع في الإفادة من أشياء تبدولنا ليست ذات جدوى, ووضعها في محلها المناسب, حتى الأفكار والمعلومات الهامشية التي يستقيها من مطالعاته, يبرع في توظيفها في التحليل والتفسير. وكأنه ولد وتربى خارج مجتمعنا الذي يهدر كل شئ, ولم يدرك أية قيمة للزمن أوسواه.

أراني ساعة يلبسها, وهي ساعة عادية, غير انه كان يقول: انها أغلى شئ عنده, لأنها هدية الدعوة. حكى لي: كيف انه تأخر أحد الأيام عن موعد اجتماع الدعوة مدة محدودة, فاستفهم مسؤوله عن سبب تأخره, فأخبره بخراب ساعته, فما كان الاجتماع الثاني الا وأهداه المسؤول هذه الساعة.

يتقن أبوتماضر فن الاصغاء الى متحدثه, وبعد فراغ المتحدث عادة ما يثير عدة استفهامات, تضئ ما هومضمر أومسكوت عنه, مضافا الى رفد الموضوع بمصفوفة من الإضافات, تثري الموضوع وتتناول مختلف أبعاده.

يحرص على ملاحقة الشأن الديني في الرفاعي حينما نلتقي, ويهتم باختبار مواقف واتجاهات الشباب, ويطلب مني ان نفكر معا في رسم خطط مرنة للاهتمام بهم, وتنمية تربيتهم الايمانية وثقافتهم العامة والاسلامية.

عدد المتدينين بين النخبة في الرفاعي وان كان محدودا, لكن يمكن تصنيفه الى فئات ثلاث:

1-   الأخوة الذي يكبرونا بعقد من السنين, وهم مجموعة من المعلمين والمدرسين, كالاصدقاء المرحوم عزيز خضير حيدر, وفائق إرزيج, وهاشم حسين.

بعد مداولات كثيرة مع عبدالامير فرهود توصلنا معا الى ان نعزز علاقتنا بهم, ولا نفكر يوما في مفاتحتهم بالانخراط في التنظيم, ذلك انهم يمثلون الواجهة الاجتماعية الدينية في المدينة, وكل شئ في عملهم اليومي وحركتهم ونشاطهم مكشوف ومراقب من جهاز الأمن وحزب البعث. كنا مطمئنين بأنهم أكثر واقعية من رومانسيتنا المتدفقة وجسارتنا المنفلتة, ونحن بمرتبة تلامذتهم, وربما كانت لبعضهم تجارب موجعة في الحركة الاسلامية, كما سمعنا عن المرحوم عزيز خضير, فمن الصعب ان يتقبلوا ما نقترحه عليهم. تواصلت علاقتنا الايمانية بهذه المجموعة من دون أية مشاكل أوحساسيات, بل كنا نتشاور ونتعاون في الشأن الديني العام.

2-   الأخوة من جيلنا: حسين علي البهادلي, رشيد باني الظالمي, عبد العباس كاظم, كاطع نجمان الركابي, عبدالجبار الرفاعي, الشهيد ياس خضير الجبوري, الشهيد عبدالأمير فرهود, الشهيد جبار ناصر الشويلي, الشهيد فالح القره غولي, الشهيد موحان بشيت الركابي, الشهيد حسين عذار الشويلي. كافة هؤلاء الأخوة دعاة, وان كان بعضهم مرتبطا بالدعوة في محل إقامته.

3-   الأخوة من تلامذة الثانوية: الشهيد حسام حميد الصريفي, زعيم فيصل الخيرالله, عباس خضير الجبوري, ابراهيم خضير الجبوري, ماجد ارزيج العقابي, خالد فرهود الركابي, عماد عبدالجليل, نجيب عبدالحسن, عجمي بشيت...وغيرهم. وهم الحلقة المحورية لنشاط الدعوة في المدينة, بعضهم أصبح في التنظيم, والبعض الآخر تمهلنا في مفاتحتهم, ذلك ان مفاتحة أي شخص في حزب الدعوة يومذاك تتطلب مزيدا من التربية الايمانية, والتوازن الأخلاقي, والانضباط السلوكي, بموازاة تأهيل واعداد ثقافي خاص, وتمارين على السرية والتكتم والإخفاء والتمويه, وهي مراحل تتطلب تجارب وإختبارات عديدة للأشخاص.

يحرص المرحوم أبوتماضر على التعرف على الأخوة ومتابعتهم من بعيد, ويتعاون هووالمرحوم جبار ناصر على قيام كل منهما بمهمات تربوية تثقيفية تطوعية للشباب, فمثلا كان الأخير يأتي ليلة الجمعة من بغداد الى الرفاعي, من أجل تزويد الشباب ببعض الكتب الاسلامية, ويحاول اصطحابهم والحديث معهم لساعات فترة مكوثه. في اطار هذا البرنامج كنت أتولى تدريس كتاب "المدرسة الاسلامية" للسيد الشهيد محمد باقر الصدر, وأحيانا "اقتصادنا", و"فلسفتنا" بحلقات تقتصر على أحد الشباب وربما تتجاوزه الى اثنين في حالات قليلة, نتمشى لمدة ساعتين على الشط "نهر الغراف" مساء أثناء الدرس, وكأننا نستعيد اسلوب "أرسطو" والمشائين في تعليم الفلسفة مشيا في "اثينا" قبل الميلاد, وخشية تنصت المخبرين السريين لدرسنا نختار أماكن بعيدة عن كثافة المشاة, وربما كنت أقفز فجأة للحديث عن ظواهر طبيعية وجغرافية ومناخية, حين يمر بنا بعض المشاة, ثم أعود حيثما انتهيت بعد تخطيهم.

تبنى أبوتماضر تربية وتثقيف أخاه خالد "الشيخ أبوباقر لاحقا", وواصل اهتمامه بمستقبله الدراسي, وتكوينه الديني. في كافة جلساتنا يسأل عن سلوك ومواقف أخيه, ونمط علاقاته بزملائه في المدرسة, ويتقصى كل ما يرتبط بحياته الايمانية, وما فتئ يحلم له بمكانة مرموقة في الدعوة.

نشأ أبوباقر بتوجيه ورعاية أخيه عبدالأمير, كان أستاذه ومرشده الروحي والأخلاقي, فنشأ على يديه نشأة ايمانية, مهذبة, دافئة, وصار ودودا, رقيقا, هادئا, طويل الصمت, يحب الناس, حسن الظن بسواه, لا يذكر أحدا بسوء, يترك ما لا يعنيه. يرتبط بعلاقات ودية مع الناس, رأيت فيه صورة عبدالامير الأخلاقية وأدبه. اضطر للهجرة من وطنه بعد استشهاد أخيه وأستاذه, الذي ترك جرحا نازفا في وجدانه, فتنقل بين بلدان متعددة, مكث مدة تلميذا في الحوزة العلمية في قم, ثم غادر الى لبنان, وانصرف للتبليغ والإرشاد الديني, في بعض ضيعات جبل عامل, وبعد ان مكث سنوات طويلة في لبنان, استقر به المقام أخيرا في ألمانيا, يواصل مهمته في التبليغ والإرشاد الديني, حتى رحل عن هذه الدنيا. رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.

19 رمضان الكريم 1433

 

تابع موضوعك على الفيس بوك وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2203 السبت 11/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم