صحيفة المثقف

تأثير الثقافة الإسلامية على اليهود القرائين*(2-3) / جعفر هادي حسن

فاليهود اهتموا بنص التوراة واعتنوا به وحافظوا عليه، كما اهتم المسلمون – منذ البداية – بالنص القرآني وقاموا على العناية به، لأهميته لديهم ومكانته عندهم. وكان العلماء المسلمون قد قاموا بعملهم هذا في القرن الأول الهجري – السابع الميلادي –،حيث تظافرت جهودهم في ضبط الحروف ووضع العلامات والتشكيل، للنص القرآني، وما أن مرَّ قرن أو بعض قرن، حتى رأينا عملية تشكيل النص التوراتي، تبدأ في بابل (في العراق)، وفي طبريه (في فلسطين) في منتصف القرن الثامن أو في نهايته على أيدي مجموعة من العلماء اليهود، الذين أطلق عليهم فيما بعد الماسورانيون.                                               

وهناك اعتقاد بين علماء تاريخ النص التوراتي، أن العمل الذي قام به الماسورانيون، كان تأثراً بما قام المسلمون، وأشهر من يرى هذا الرأي العالم اليهودي الألماني بول كاله، وكما أشار إلى ذلك  أيضا برنارد لويس في النص السابق، الذي نقلناه عنه.وبودي أن أذكر هنا بعض الأدلة التي استقصيتها أنا، على تأثر تشكيل التوراة بما قام به المسلمون نحو القرآن.وأهم هذه الأدلة فيما أرى، هو استعمالهم للحركات وأسمائها العربية.فهم استعملوا للفتحة كلمة "فتح"، واسم هذه الحركة يقابل الفتحة في اللغة العربية (وقد انتبه بعض الباحثين إلى هذا وأشار إليه)واستعملوا للضمة كلمة " قبوص"، وهي من الجذر العبري "قبص"،التي تعني الضم والجمع. وهم استعملوا هذا الجذر، لأن الجذر "ضم"(الذي يفترض فيه أن يكون صم المضعف) غير موجود في العبرية.وهم استعملوا للكسرة كلمة " حيرق" وهي من الجذر العبري " حرق" بمعنى "كسر وثلم".وفي العبرية يوجد الجذر "كشر"، المقابل الإفتراضي للعربي "كسر" ولكنه بمعنى مختلف، ولايدل على الكسر كما في العربية.وهم استعملوا الإسم " شوا" للسكون، وهذا الإسم في العبرية يعني "فراغ"، ومن المحتمل أن يكون الماسورانيون قد استوحوا المصطلح العربي الذي يعني " الفراغ" من الحركة.ويوجد في العبرية الجذر "شكن" ولكنه بمعنى السكنى، والذي هو صنو العربي" سكن".وعلى الرغم من أن أسماء الحركات يستعملها اليهود بكل فئاتهم،إلا أن المعروف تاريخيا هو أن القرائين كانوا الرواد في ذلك.

ومما يتعلق بالتوراة أيضا، هو تأثرهم بعلم القراءات القرآنية،وهو موضوع لم يعرفوه قبل اطلاعهم على ماقام به المسلمون . فهم أخذوا يؤلفون كتبا في قراءات التوراة، كما ألف العلماء المسلمون .ومن هذه المؤلفات كتاب لأبي سعيد ليفي هاليفي من القرن العاشر – الحادي عشر في الموضوع المذكور، وهو عن اختلاف قراءة الماسورانيين المشهورين بن آشر وبن نفتالي. وقد طبعت أجزاء من هذا الكتاب .وجاء في بدايته ما نصه "هذا ثبت ماوجد من الخلف في القراءة بين المعلمين الفاضلين، أبو سعيد هارون بن موشي بن آشر، وبن عمران موشي بن داود بن نفتالي.[1].ومن هذه الكتب كتاب ميكائيل بن عزيل، الذي يعتقد أنه عاش في القرن الثاني عشر، والكتاب أيضا عن اختلاف قرائتي بن آشر وابن نفتالي أيضا.[2] وكلا الكتابين من تاليف القرائين، ولا أشك بأن ماقام به اليهود القراؤون، هو تأثر بما قام به المسلمون في هذا الموضوع. وربما تُكتشف كتب أخرى في هذا الحقل في المستقبل، لأن القرائين اهتموا بهذا الموضوع بشكل خاص دون غيرهم من اليهود الآخرين. وكان من مظاهر تأثرهم بالثقافة الإسلامية، بما يتعلق بالتوراة أيضا، هو تأليفهم تفاسير لها .[3]  ويعتقد أن القرائين هم أول من ألف من اليهود تفسيرا للتوراة، وكان هذا  تقليدا لما قام به المسلمون، فاليهود عموما لم يكونوا يعرفون التفسير قبل ظهوره عند المسلمين. .

 

في الصلاة

كما أن صلاة القرائين اليومية الواجبة، اعتمدت أساسا على التوراة، كما اعتمد المسلمون في صلاتهم على القرآن، وهي  فيها ركوع وسجود أيضا، كما عند المسلمين، وقد فصل ذلك  عالمهم المعروف، ليفي بن يافث بن إيلي حركات الصلاة، وعدَدها في كتاب له  باللغة العربية، فقال منها (الحركات) "الوقوف" و"الركوع" و"السجود" و"البروك"،كما أنه يذكر "القنوت" أيضا وقد عرفه بقوله "بسط الكفين ورفعهما". وكذلك قضية المحارم في الزواج كتحريم بنت الأخ وبنت الأخت،اللتين يجوز الزواج منهما عند اليهود الاخرين إلى اليوم، بينما هما من المحارم المشددة عند القرائين، كما في الإسلام .

في التقويم السنوي

. ومن تأثر القرائين المهم بالإسلام اتباعهم طريقة المسلمين في حساب الأول من الشهر ( التقويم القمري)، حيث يعتمدون على رؤية الهلال والشهود عليها، كما عند المسلمين، دون طريقة الحسابات الفلكية، التي يعتمدها اليهود الآخرون.والتزامهم هذا أصبح نقطة خلاف كبيرة بين التلموديين والقرائين . ورؤية الهلال بالنسبة للقرائين مهمة، فهم يؤكدون عليها في الصلاة، وكذلك في صلوات المناسبات الدينية، حيث يردد الجماعة فيها عبارة "والقمر في تجدده وظهوره ورؤيته بالعين بعد اختفائه.." ويؤكدون عليها أيضا في الزواج، فإن الزوج والزوجة يقسمون بأنهم يلتزمون بالمناسبات الدينية، التي تحدد برؤية الهلال ويوقعون على ذلك.[4]

 

في التصوف

وتأثروا أيضا ( الى جانب اليهود الآخرين)، بالتصوف الإسلامي. فقد وُجدت بعض المخطوطات الصوفية، في مجموعة أبراهام فرقوفتش،والتي كانت من مقتنيات اليهود القرائين، التي كانوا يدرسونها. منها مقدمة كتاب الصيهور للحسين بن منصور الحلاج (ت922م)، وكذلك أوراق من كتاب السماع،وهو عن الموسيقى الصوفية. وكذلك عثر على أوراق من الرسالة القشيرية،لأبي القاسم عبد الكريم القشيري(ت1072م) كتبت في عام 1045م. وكذلك عثر على بعض أبيات من قصيدة صوفية.

وكان قد عثر في إحدى مكتبات بريطانيا على مخطوطة للفتوحات المكية للشيخ ابن عربي(1240م)، كانت من مقتنيات اليهود القرائين،وكذلك نسخة من كتابه "التجليات"  أيضا، باللغة العبرية . والكتاب هو أحد أهم كتب ابن عربي (ويحتوي على مائة تجل تتمحور حول أسرار التوحيد وتجلي الله). وطبقا لبعض الباحثين المعاصرين، فإن ابن عربي كان له تأثير على اليهود، إلى فترة متاخرة[5] . وكان القراؤون يقرأون كتاب "الروض الفائق وحقيقة الحقائق" لعبد الكريم الجيلي.[6]وكل هذا يدل على اهتمام اليهود بصورة عامة بالتصوف الإسلامي، وقراءة مصادره المختلفة ودراستها،وربما سنكتشف في المستقبل بعض التأثيرات الصوفية  في دراساتهم.

 ومن المفيد أن أشير هنا إلى أن  من العلماء غير القرائين، الذين تاثروا بالتصوف الإسلامي،  كان الحاخام أبراهام(ت1237م) بن الحاخام موسى بن ميمون، فقد كتب هذا الحاخام  كتابا صوفيا مهما باللغة العربية بعنوان "كفاية العابدين" . وهو ليس كتابا في الفكر الباطني اليهودي (القبلاه)، الذي يشبَه بالصوفية، وإنما هو كتاب في التصوف،حيث اعتمد على مصادر صوفية إسلامية. وقد نصح مؤلفه بتبني الطريقة الصوفية في التدريب والتمرين، للوصول إلى الكمال الإنساني.[7] وكان هذا الحاخام قد تجمع حوله مجموعة من المريدين، واعتبروه شيخا لهم، وهم وإن لم يطلقوا على أنفسهم صوفيين،  واستعملوا الكلمة العبرية "حسيديم"،إلا أن سلوكهم كان يشبه سلوك الصوفيين، وكان ابن هذا الحاخام، واسمه عوبادياه أحد تلامذته وممن اتبع طريقته أيضا.

 

في علم الكلام

 وأعود الآن إلى موضوع تاثر القرائين بعلم الكلام الذي أشير إليه سابقا . وسأذكر شيئا عن تأثرهم به وأمثلة عليه، والذي قال عنه بعض الباحثين اليهود" إن القرائين من أوائل اليهود الذين قلّدوا المعتزلة في محاولتهم لعقلنة المعتقدات اليهودية، وقد تبنّى القراؤون آراء المعتزلة بكل التفاصيل، وكان أحياناً من الصعب التفرقة، فيما إذا كان المكتوب لواحد من القرائين اليهود أو لمسلم[8].وكان العلماء المسلمون، قد أطلقوا على القرائين أهل العدل والتوحيد، كما أطلقوا على المعتزلة للتشابه بين المجموعتين.

 وقد اخترت اثنين من أبرز علمائهم، اللذين تطرقا إلى كثير من القضايا الكلامية، وسننقل أمثلة من كتبهما كنماذج على هذا التأثر. الأول  هو أبو يوسف يعقوب القرقساني(من القرن العاشر الميلادي)،وهو من العراق، وكان قد ألف أكثر من كتاب، ولكن كتابه  "الأنوار والمراقب" . هو أشهر كتبه وأهمها، حيث يتطرق فيه إلى الكثير من القضايا الفلسفية والكلامية والفقهية . ويشمل نقاشه وحديثه ليس فقط مايتعلق باليهود، بل أيضا بعض عقائد المسلمين والمسيحيين أيضاً، إلى جانب قضايا أخرى ليس لها وشيجة بالأديان أو علاقة بها .

أما المسائل التي نعتقد أنه قلد  في مناقشتها  العلماء المسلمين، فهي كثيرة. فمنها مسألة كون الله جسماً أو ليس بجسم، وكذلك مسألة نفي التشبيه عنه، ومسألة رؤية الله بالأبصار وعدمها، وكذلك مسالة صفاته، من حياة وقدرة، وعلم، وفيما إذا كان كلام الله مخلوقا أو غير مخلوق،وغيرها من المسائل التي يبدو فيها متاثرا بالفكر المعتزلي بشكل خاص.

وسنذكر هنا  ما يذكره القرقساني عن موضوع الأفعال والصفات، التي توهم التشبيه والتجسيم، والتي وردت في التوراة، وكذلك قضية كلام الله فيما إذا كان مخلوقا أو قديما.

فبالنسبة إلى الموضوع الأول فهو يرى، بأن كل ما ورد في التوراة، مما يوحي بالتشبيه والتجسيم بالنسبة إلى الله يجب أن يؤول، ولا يصح أن يؤخذ حرفياً،وهذا هو رأي المعتزلة كما هو معروف.

فهو يقول "فأما جميع ما وصف به (الله) من الورود  (الدخول) والخروج، والخطو والركوب، فإن ذلك كله راجع إلى القدرة والسكينة والأنوار والمواكب السمائية، التي هي جيوش الملائكة، وذلك أنه لو كان ذلك خروجاً على الحقيقة، وجوازاً وخطواً ووروداً حقيقياً، لوجب أن تكون الذات حالّة في مكان دون مكان، إذ كان الخروج، إنما هو مفارقة مكان، وحلول في مكان غيره،والكتاب أخبر أنه حالٌّ في كل مكان"[9].

وهو كذلك يؤول معنى الجوارح الإنسانية، التي وردت في التوراة مشيرة إلى الخالق. ولا يقبل القرقساني بها، إذا أعطيت معناها الحرفي. فهو يقول في هذا الخصوص "إن الله خاطب الناس من حيث تبلغه عقولهم على ما طبعوا وركّبوا "[10].

وهذا هو أيضاً ما يقوله المعتزلة، ومن يرى رأيهم فهم "قد اتفقوا على نفي رؤية الله تعالى بالأبصار في دار القرار، ونفي التشبيه من كل وجه، جهة ومكاناً وصورة وتحيّزاً وانتقالاً، وزوالاً وتغيّراً وتأثراً، وأوجبوا تأويل الآيات المتشابهة فيها"[11].

وكان موضوع كلام الله من الموضوعات التي احتدم حولها جدل كثير، ودار فيها نقاش طويل، قبل عصر القرقساني مباشرة. وقد انصب النقاش والجدل بين المسلمين حول ما إذا كان كلام الله مخلوقاً أو قديماً. وقد تفرّع عن هذا مسألة خلق القرآن أو قدمه، لأنه كلام الله كذلك، وفيما إذا كان قد أحدث وقت الإيحاء به أم لا، وسميت هذه القضية قضية خلق القرآن.[12] وكانت قد أخذت كثيراً من جهد العلماء ووقتهم، وأعطيت أهمية ما كان يجوز أن تعطى لها، لأنها لا تمت بسبب كبير إلى صفاء العقيدة وخلوصها. وكانت إثارتها بين الناس مضيعة للوقت، وهدرا للطاقات، وادخلت الناس في مداخل كانوا في غنى عنها، إذ هي وسعت شقة الخلاف بين المذاهب وزادتها عمقا وتوترا.

ولقد حاق ببعض القضاة والعلماء وغيرهم ظلم ما كان يجب أن يحيق بهم، وأصابهم حيف ما كان يجب أن يصيبهم، فكان الفقيه يحبس، والقاضي يطرد من وظيفته والمحدث يعزل من موقعه، والشاهد لا تقبل شهادته إذا لم يقر بخلق القرآن، حتى اضطر الفقيه أحياناً أن يهرب بجلده، كما يذكر المؤرخ الكندي، في كتابه "كتاب الولاة وكتاب القضاة".

 

وكانت فرقة المعتزلة وبعض الفرق الأخرى تأخذ بالقول بخلق القرآن، وقد أدلى القرقساني بدلوه فيما يتعلق بكلام الله ، وما يتعلق بالتوراة تأثرا بما قام به المسلمون.

فهو عندما يذكر نص التوراة في سفر العدد 2/7 – 8 "إذا كان منكم نبي للرب فبالرؤيا استعلن له، وفي الحلم أكلمه، وأما عبدي موسى، فليس هكذا، بل هو أمين في كل بيتي، فماً لفم وعياناً أتكلم معه لا بالألغاز"[13]، يعلق على ذلك بالقول ففضل الله عزّ وجلّ موسى(عليه السلام)، وخصّه من الخطاب بما لم يخص به غيره من سائر الأنبياء، وهو أنه اخترع له كلاماً، أقامه في شيء من الأشياء. إما هواء وإما نارا، أو غير ذلك، فأسمى نفسه بذلك متكلماً لموسى، كما يكلم الإنسان صاحبه من فمه، حتى يجعله في فمه وكما يواجه الكلام شفاهاً بغير الواسطة... وإني أخاطبه فماً لفم، وذلك باختراع الكلام بلا واسطة".

ثم يذكر اعتراضاً مفترضاً لمن يقول بقدم الكلام فيقول "فلعل من يقول بقدم الكلام يتعرّض (يعترض) في هذا القول فيقول: إذا زعمتم أن الله عزّ وجلّ يحدث كلاماً في غيره فيكون متكلماً، لم لا يجوز أن يحدث حركة ولوناً وموتاً في غيره، فيكون متحركاً ملوّناً، ميتاً"[14].

وفي الرد على هذا الكلام (الاعتراض) يدخل القرقساني في مسائل فلسفية وكلامية عويصة، يتطرق فيها إلى الفرق بين الفعل والحلول، وأن اللون والحركة حلول، وأن مخاطبته والكلام والأمر والنهي فعل، مع وجود فرق كبير بين الاثنين كما يقول. وليس القرقساني وحده من القرائين الذي يقول بخلق كلام الله ،وإنما هناك آخرون منهم، ايضا كانوا يقولون بخلق كلام الله مثل يافث بن إيلي، فهو يقول "إن كلام الله يخلق خاصة للوحي، وهو لايختلف عن كلام الإنسان الذي يبتدع في وقته".[15] وأرى أن مناقشة هذا الموضوع من قبل اليهود القرائين، إنما كان تأثرا واضحا بما قام العلماء المسلمون.

والمؤلف الآخر الذي اخترته لموضوع هذا التأثر، هو أبو يعقوب يوسف البصير،(عاش في القرن الحادي عشر الميلادي)، ويعتقد أنه كان عراقيا أيضا، وقد ألف عددا من الكتب المهمة ويعد البصير من  أبرز متكلمي القرائين ومتفلسفيهم، ولقد تأثر هذا الرجل كثيراً بكتابات المتكلمين المسلمين وفلاسفتهم. ولم أكن أعرف مقدار هذا التأثير عليه، إلا بعد أن عثرت على كتابه "المحتوي"وهو كتاب ضخم، كتب بلغة عربية وحروف عبرية،وبهذا حرم من قراءته من لايعرف العبرية . ولولا معرفتي بهذه اللغة لما تمكنت من قراءة الكتاب،والنقل عنه. ولا أدري لماذا لم يحاول محقّق الكتاب، الذي نشره عام 1985م أن يحول حروفه العبرية إلى عربية، ليستفيد منه أكبر عدد ممكن من الدارسين والباحثين، إذ أن إبقاءه على ما هو عليه، يقلل كثيراً من عدد المستفيدين منه، ويحرم الكثير من المهتمين بهذه الدراسات من الإطلاع عليه، إذ لا يمكن أن يقارن عدد القراء بالعبرية بعدد من يقرأ بالعربية.

 

ويعد الكتاب ذا قيمة وأهمية كبيرة في القضايا الكلامية والفلسفية، التي كان يدور الجدل حولها في عصر المؤلف، كذلك يعطينا الكتاب فكرة عن مدى تفاعل أتباع الأديان الأخرى مع الثقافة الإسلامية، وتأثرهم بها وهضمهم لها.ويتبع البصير في كتابه هذا مدرسة الكلام البصرية من المعتزلة بخاصة "البهشمية"، وينتقد كثيرا آراء معاصره المتكلم المعروف أبي الحسين البصري (ت 1045م) .

ومنذ الفصول الأولى، يحصل لدى القارئ انطباع عن مدى فهم المؤلف لمسائل علم

الكلام وتعمقه فيها واستيعابه لها . ولكي أعطي القارئ فكرة موجزة عن هذا التأثر، أود أن أذكر بعضا من موضوعات الكتاب المذكور التي درسها المؤلف وناقشها وهي:

- باب في الصفات.

- باب في كونه تعالى عالماً.

- باب في كونه تعالى قديما

- باب في نفي الرؤية عنه تعالى

- باب في كونه تعالى واحداً لا ثاني له

- باب في الإرادة

- باب في انه سبحانه لا يفعل القبيح

- باب في أحكام القدر

- باب في إثبات القدرة

- باب في خلق أفعال العباد

- باب في معنى اللطف

- معنى الأصلح

وقد بحث العلماء المسلمون هذه الموضوعات أو أكثرها في دراساتهم الكلامية،وسأذكر تاليا بعض المسائل التي ناقشها البصير والمتكلمون المسلمون. فأحد هذه الموضوعات التي عالجها المتكلمون، موضوع ما أطلق عليه الموازنة في حساب العقوبات، أي إجراء حساب العقاب والثواب بحيث تسقط من العقاب بمقدار ما يستحقه العبد من الثواب. وقد ناقش هذه المسألة أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم . وقد عالج البصير هذه المسألة في كتابه تحت فصل عنونه (باب الموازنة وما يحصل بذلك من دوام العقاب، وما جرى مجراه من الذم والمدح المستحقين بشرط وبغير شرط وما يتصل بذلك) وهو يقول في ثنايا هذا الفصل من جملة ما يقوله:

ألا ترى أنه إذا استحق بطاعته عشرة أجزاء من الثواب، وبمعصيته خمسين جزءاً من العقاب فالحكم للمعصية، وقد حصلت طاعة صغيرة ثوابها يغرق فيجنب عقاب معصيته، إذ رتب من عقابه عشرة أجزاء بإزاء العشرة التي استحقها من الثواب بطاعته، وقد حصل عليها فاضلاً أربعين جزءاً فهو إذن من أهل العقاب وكذلك الكلام بالعكس"[16].

ومن المسائل التي تطرّق لها في كتابه هي مسألة اللطف الإلهي، وهذه المسألة هي من المسائل التي ابتكرها المتكلمون المسلمون ومتفلسفوهم. واللطف عند المتكلمين هو أن يختار المرء الواجب ويتجنّب القبيح، أو أن يكون ما عنده أقرب، إما إلى اختيار الواجب أو ترك القبيح ويسمى أيضاً توفيقاً، وربما يسمى عصمة وقد يسمى هداية ويكون، إما من فعل الله، أو من فعل العبد، والأخير يشمل فعلنا وفعل غيرنا[17]. وقد تفرّعت مسائل أخرى عن هذه، ومنها هل أن اللطف واجب على الله أو غير واجب؟ وهل أن اللطف من سائر أجناس المقدورات، أو أنه ليس كذلك إلى غير ذلك من مسائل شغلت حيزاً من مؤلفات الكلاميين.

وقد عالج البصير هذه المسألة بإسهاب تحت فصل عنونه بـ"في معنى اللطف وفي الدلالة على وجوبه، والفرق بينه وبين الأصلح وما معنى الأصلح".

وهو في هذا الفصل يذكر أكثر المسائل المتعلقة باللطف، ويذكر آراء أبي علي الجبائي، وابنه أبي هاشم ويختار بعضها، ويذكر كما ذكر الآخرون، بأن اللطف  يسمى أحياناً توفيقاً وكذلك عصمة[18]. وما ذكرناه قد يعطي صورة، لما أردنا التدليل عليه والإشارة إليه والحديث عنه في هذا الموضوع. وسأذكر الآن موضوع أصول الفقه الذي أشرنا إليه سابقا.



[1] J. Mann, Texts and Studies, vol 2,p.32

[2] J. Mann, Texts and Studies, vol.2 p. 29

[3] M. Polliack, Major Trends in Karaite Biblical Exegesis, in Karaite Judaism, p.368

[4] Ibid., p.601

[5] P.B. Fenton, Karaism and Sufism , in Karait Judaism ,p211

[6] P. Fenton, Karaism and Sufism, in Karaite Judaism,pp.204-210

[7] Encyclopeadia Judaica,Abraham ben Moses ben Maimon

[8] N. Rajwan, The Jews of Iraq, p. 145

[9] المصدر نفسه، ج1، ص174.

[10] المصدر نفسه، ج1، ص173 – 172.

[11] بدوى، عبد الرحمن؛ مذاهب الإسلام، ج1، ص415 – 416.

[12] يرى بعض الباحثين بأن هذا الجدل نشأ من جدل آخر بين المسلمين والمسيحيين حول"كلمة الله" التي تشير إلى عيسى بن مريم، فيما إذا كانت مخلوقة أو غير مخلوقة، إذ في ضوء ذلك تحدد طبيعة عيسى.

أنظر لويس غرديه وج.قنواتي فلسفة الفكر الديني ج 1 ص62

[13] الأنوار والمراقب، ج1، ص177.

[14] المصدر نفسه ج1، ص177.

[15] H. Ben- Shammai , Major Trend in Karaite Philosophy and Polemics, in Karaite Judaism,p.351

[16] المحتوي، ص761.

[17] عبد الرحمن بدوي، مذاهب الإسلاميين، ص293 – 294.

[18] المحتوي، ص748 – 750.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2238 الأثنين 08 / 10 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم