صحيفة المثقف

مقهى (بُوحي) / عبد الفتاح المطلبي

لا أحد في (الناحية) يجهل مقهى( بوحي) فقد تعاقب عليها مالكون كثيرون وارتادتها أجيال كثيرة من قبل.

اتكأتْ بكراسيها ومناضد الدومينوو(السماور) الفضي على كتفِ السوقِ الأيسر بعد ثلاثةِ دكاكينَ من جهته الشمالِية، مرتادوها عابروا سبيلِ وكسبةٌ صغارٌ ومن يرغبْ بشربِ قدحِ شايٍ حارّ والذين لازالوا يُفضلون(شربت) الرمانِ على أي نوعٍ آخر من العصائر وحين افتتح علاويُ الموسى مقهىً أخرى في الطرفِ الآخرِ من السوقِ اختار مكانـَها مواجهاً لمقر الشرطة،مطلةً على نهر(المـُشَرّح) الذي ظلـّلت ضفافـَه أشجارُ سدرٍِ عملاقةٍ يستترُ بها المارّةُ عن عيونِ مركزِالشرطةِ،يُقالُ وليس ذلك أكيدا أن المقهى تعودُ للحكومة وما علاوي الموسى إلا وكيلاً لها وعينا على الموظفين والمعلمين والغرباء،مقهى علاوي الموسى تشعرك بوجود الحكومة ذلك ربما لارتياد بعض الشرطة المكانَ في أحايينَ كثيرة،كل شيء فيها قد أختير بعناية، المقاعد المغلفة بنايلون سميك صنع إفرنجي والغرامفون ذوالبوق الذي يشبه الوردة وجهاز الراديو(الفيلبس) و(شربت) النومي الذي يبدوشهياً من وراء زجاجة كبيرة بصنبور ذهبي اللون وأقداح مذهبة صُنعت في بلاد الغرب وتلك المنضدة التي لا يجلسُ إليها سوى مختار الناحية، أدى ذلك إلى الإطاحةِ تماما بمجدِ مقهى(بوحي) القديم التي كانت تُدعى في ما مضى (مقهى البلد) وسمعة (شربت) الرمان الذي لم يتقن صنعه بوحي مثل أسلافه وبات مرتادوها وهم غالبية السكان مجرد نكرات في ذيل الناحية، (بوحي) الآن لا يبيع إلا زجاجة واحده من الزجاجات الثلاث ذوات الصنابير التي اسودت من دباغ عصير الرمان في ما مضى من الأيام، شاعراً بالهوان والخيبة لقلة حيلته ورغم إقدامه على شراء مسجلة صوت ببكرات شريط مغناطيسي من نوع (كروندك) ورغم أغاني (حضيري أبوعزيز وداخل حسن ومسعود العمارتلي ومقام النوى والعجم عشيران بصوت زهور حسين ) التي ظل الناس يفضلونها زمنا طويلاً إلا أن رزقه تواضع كثيرا عن ذي قبل وبدأ القلق يساوره من تلك الأخبار التي ترده عن مقهى علاوي الموسى ويتعجب (بوحي) من الخلل الحاصل في أذواق الناس وكيف أنهم حسب بعض الأقاويل بدأوا يفضلون سماع اسطوانات (افرنجي) و(ونغمة المقام السلطاني والدست التركي ونوع من حداء بدوي على رنةواحدة لا تتغير) في مقهى علاوي الموسى، وعندما أقفل أبواب المقهى شعر بوحي بمرارة كبيرة، حدّثَ نفسه أيضا متسائلا عما أصاب الناس الذين لايفرقون بين مقهى سكنتها أرواح الذين مضوا مخلفين ورائهم على المقاعد الخشبية كثيرا من الحكايات التي لا تُنسى وبين آخرى لاتاريخ لها سوى سمعتها الملطخة بعلاقة مريبة بين صاحبها والمأمور، لاحظت أم عباس إن زوجها (بوحي) قد اضطرب نومه، يتقلب كثيرا في فراشه، سألته ذات ليل بهيم:-(أبوعباس) .. لم يلتفت لها وكأنه قد نسي كنيته صاحت بصوت أعلى: (بوحي) مابك؟ رد عليها باقتضاب (الشربت، شربت الرمان ما يمشي هذي الأيام)، (كـَسَرَنا نومي علاوي الموسى)، الناس تحب الجديد، ردت عليه: (بوحي) نام، الرزق على الله والصباح رباح لكن النوم يجافي عينيه، الأفكار في رأسه كاللبن في السقاء تختض بداخله ولا مخض، في الصباح قال لها وهويتناول بيضة مسلوقة: التلفزيون( دخل للعمارة) والناس هنا لا يعرفون بعد التلفزيون، مارأيك بجلب تلفزيون للناحية؟ وعندما سرى الخبر بين الناس وإن (بوحي) مزمعٌ جلب تلفزيون، شعروا بأن موجة ًمن الأمل لكسر ذلك الركود قد بدأت من مقهى (بوحي) وفي الليل عندما قرر نهائياً أن يشتري التلفزيون زاره الحاج حسين وجرى الحديث عن ذلك، تسائل (بوحي) قائلا: مالذي يمنع علاوي الموسى من جلب تلفزيون؟ رد عليه الحاج حسين: أنا أعرف السبب فقد سمعته يقول لن أجلب التلفزيون(للناحية) لن أكون سببا في قطع رزقي،إذا علـّمْنا الناس على التلفزيون وتفتحت عيونهم، سيدخل بعد ذلك للبيوت فماذا يبقى في المقهى سيصنعون (شربت) النومي والشاي ويشاهدون التلفزيون ولا أحد سيأتي للمقاهي، قال (بوحي) أهذا رأي علاوي الموسى، تمتمَ الحاج حسين، هذا رأي مأمور المركز أيضاً كما أسرّ لي به علاوي الموسى قال (بوحي) بصوت خفيض: والله سأبكر غدا إلى (العمارة) وسآتي به وسيرى علاوي الموسى. ولم يبخل الحاج حسين بملاحظاته قائلا:

موجات تلفزيون بغداد لاتصل إلينا هنا إلا عندما يهب علينا الشمال! وفي الليالي الحالكة لكن (الشرقيّ والغربي) سيحمل لنا بث بلاد أخرى ربما الحجاز والكويت والأهواز، أجاب (بوحي) حتى مع هذه الشروط فإنه سيجلب التلفزيون، متحججاً بأن الناس ترغب الجديد.

وكان يوما مشهودا ذلك اليوم الذي أُنزلَ فيه التلفزيون من فوق حدبة سيارة (نفنوف) الشوفرليت الزرقاء الجديدة ذات الموديل 1954، تمكن (ثويني) الحمّال من احتضان الصندوق الكبير وضمه بقوة إلى صدره العريض، حدث ذلك عصر الأربعاء، أسرع (بوحي) بإقفال أبواب المقهى وأعلن أن أبواب المقهى لن تفتح حتى الغد، لم تمض إلا نصف ساعة حتى تسلل (بوحي) إلى مقهاه مصطحبا (زاهر) الكهربائي لإعداد اللمسات الأخيرة على التلفزيون ليكون جاهزا لرواد المقهى من سواد الشعب التائق لكسر رتابة يومه بحدث جسيم، وحين رفع (زاهر) الهوائي الطويل الذي يشبه سمكة كبيرة أُكِلَ لحمُها عن آخره ولم يبق منها غير عظامها مشرعةً للهواء، كانت الحشود تشهد الحدث وتتحلق حول المقهى حلقات، حلقات من الصغار والكبار، جمعٌ من الشيوخ يناقشون (بوحي) حول الحدود التي يجب أن توضع للمرئيات على تلفزيونه حفاظا على أخلاق الناس، تفرق الناس كل إلى بيته بعد إعلان (بوحي) أن الإفتتاح غدا وإنه سيوزع شربت الرمان مجانا بهذه المناسبة، ولم ينس أن ينبههم إلى أن الموعد عصرا لأجل جودة استلام البث الآتي من خارج الحدود نهارا مؤكدا في الوقت ذاته بأن لا يصل لنا من بغداد شيء إلا حين يدلهمّ الليل، طال الليل على الناس وسهروا يتكلمون عن الحدث الجسيم وقيلت في هذا الشأن روايات كثيرة ....

بعد ليلة طويلة وضع (بوحي) مقاعدَ إضافية خارج المقهى وقد حجبَ التلفزيون عن الأنظار بغطاءِ حرص على أن يكون من الساتان الأخضر ليبدو وكأنه (مقامُ) ولي من الأولياء، احتشد الناس مبكرين لحجز مكان ملائم لرؤية واضحة، (بوحي) يذرع المقهى جيئة وذهابا، القلق بادٍ عليه، لم يأمر بعد بتوزيع أقداح شربت الرمان فذلك مرهونٌ بجودة استلام البث، بدأ الناس يضرسون بينما أكلهم انتظارهم ل(زاهر) الكهربائي المخول الوحيد بلمس التلفزيون وبعد مرسالين أوثلاثة أقبل بقامته القصيرة يتمايل ذات اليمين وذات الشمال وكأنه رئيس جند الأنكشارعلى رأسه ريشة وكلما مر باتجاه التلفزيون ينشق الحشد له كانشقاق البحر لموسى وقومه وحال وصوله للتلفزيون وقف بخشوع أمام غطائَه الأخضر وأزاله بلطف بالغ ارتفع صوت المهللين بالصلاة على النبي، في تلك الأثناء، أدرك علاوي الموسى أن لا جدوى من البقاء في مقهاه إذ أن الناس جميعا يمموا شطر مقهى (بوحي)، ترك علاوي أبواب مقهاه مواربةً وتسلل بين الناس ليشاهد ما يجري، صاح (بوحي) قبل أن يضغط زاهر على زر تشغيل التلفزيون نوع (تسلا) صلوا على النبي فهدر الصوت ثانية في اللحظة التي ضغط زاهر فيها على الزر لم يظهر أي شيء على الشاشة فصفن الناسُ وكأن على رؤوسهم الطير، ثم سرت همهمة بينهم، كشر زاهر للجماهير مبتسما ثم أسرّ شيئاً في أذن(بوحي)، انكسرت لهجة (بوحي) وخاطب الجمع بلغة تخلو من شمم كان ينتابهُ قبل قليل قائلا: لابد من أن يسخن الجهاز يا أخوتي وقد جعل منهم إخوةً له في الحدث الجليل أنى كانت نتائجه، تنفس الناس الصُعداء بعد زوال لحظة الخيبة، فتسلل شيء من سرورٍ لصدور الحاضرين مستشعرينَ أهمية مكانهم من هذه الشراكة الأخوية ولو بخيبة إلا أن سرورا سريا مختلفاً أحس به علاوي الموسى وفي أواخر لحظات سرور علاوي الموسى القصيرة بدأت الشاشة تضيء شيئا فشيئا حتى اكتملت فهلل الجميع لهذه الروعة ولهذا السحر،عيونهم ملتصقة على شاشة التلفزيون ينتظرون ظهور ما جاءوا لمشاهدته، كانت النقط السود والبيض التي تتقافز كبق كثيف في يوم صيفي من أيام (الهور) على زجاج الشاشة قد أسكرت الجماهير لأول وهلة ولما طال انتظارهم لسحنة المذيع التلفزيوني راحت الخيبة من جديد تتسلل إلى الجمهور المحتشد منذ أربع ساعات، إنسل علاوي الموسى إلى مقهاه وهو يضحك في سره متشفيا، راح بعض الناس يوهم نفسه أن شيئا يلوح كخيال بعيد من بين صخب النقط السود والبيض، صاح أحدهم، هاهو هاهو لقد ظهر لكنه بعد لحظه صفق كفيه بقوه صائحا: لاااااااااا لقد اختفى ملتفتاً إلى صاحبه قائلا أرأيته، فيرد عليه لصيقه بنظرة بلهاء، في هذه الأثناء فطن الناس إلى أن زهو زاهر الكهربائي لا مبرر له وإن التغيير الذي انتظرته الجماهير طويلا لم يكن إلا صخبا من النقاط السود والبيض غير مسفرة ٍ عن شيء، تتقافز على الشاشة مخلفة احمرارا وحرقة في عيون الناس، بدأ الملل يتسرب للعقلاء وكبار السن فراحوا ينسحبون إلى الخلف تاركين أماكنهم التشريفية للصغار الذين بدأويستمتعون بصناعة أخيلتهم كل حسب ما يشتهي ويحلفون بأيمان غليظة أنهم رأوالمذيع ورأوحسن ونعيمه وأشياء أخرى وراح كلّ مُدّعٍ يشهد لآخر مثله أنه رأى الذي رآه من بين صخب النقط السود والبيض التي تنتشر على الشاشة مثل بقٍّ كثيف، ولم ينتبه بوحي إلا على الناس وقد ملـّت التضريس فراحت تشرب الماء القراح من (الحِبّ) الموضوع جنب المقهى بينما راح بعض الصبيان يتحينون فرصةً لسرقة الأقداح، بقي شربت الرمان في زجاجاته الثلاث واستمرت الجماهير تضرس ونامت وهي كذلك ولم يفصح التلفزيون عن مكنوناته فما كان من بوحي إلا أن يقول ونظرات زائغة تلوح على عينيه: إن الريح غير مواتية اليوم لعلها تكون كذلك غدا .

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2259   الاثنين   29/ 10 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم