صحيفة المثقف

المفكر د. عبد الجبار الرفاعي .. قلم نابض بالحياة

abduljabar alrifaiهو صوتٌ جريء في زمن الخنوع، وفكر نير في وقت باتت عتمة الأفكار تكاد تخنقنا، يفكر بصوت عال، ولا يخاف في الحق لومة لائم. يخوض في الماضي لا ليستكين فيه، بل للاستعانة بمحطاته المضيئة التي تتناغم مع الحاضر وتبشر بالمستقبل. انه د. عبدالجبار الرفاعي المفكر والكاتب صاحب مجلة "قضايا إسلامية معاصرة"، والعديد من المؤلفات النابضة بالحياة. ميزته انه أحد القلائل الذين يغردون خارج سرب المألوف من الأفكار، التي أكل منها الدهر وشرب، حتى باتت رداءا رثاً مهلهلا ومتهرئا. ورغم ذلك ما زال البعض يعتصم بها ليلوي عنق الحقيقة.

أسفي أنني التقيته متأخرا فاكتشفت فيه العالم المتعفف عن كل شيء، إلا عن الاستزادة من الزاد الفكري والعلمي، والفكر المتواضع الذي لا يقبل الكف عن التبحر في القراءة بفهم، ليصل إلى ما يعينه على إشعال قناديل ضوء في حياتنا، التي افترسها التشدد الديني والشحن الطائفي، واستنساخ الماضي بكل رداءته وقبحه، لتطبيقه على واقع ومتغيرات القرن الحادي والعشرين.

إن د. عبد الجبار الرفاعي إذ يسير وحيداً في شارع المتنبي، قلب الثقافة النابضة في بغداد، ويلتقي المبدعين هنا وهناك، يستطلع واقعاً لا نحسد عليه، فكم الآراء والأفكار والكتب والمخطوطات التي يراد منها باسم الدين أن تكبل حياتنا وعملنا وعقلنا وعواطفنا. هو كالفيضان المدمر في زمن أصبح العامة تتقبلها دون سؤال أو محاولة اكتشاف أسرار وحقائق ما يطرح عليهم في المنابر وخطب الجمعة، ومن نصوص ومواثيق بعض الأحزاب السياسية التي ترتكز لفهم جامد وساكن للدين.

إننا بأمس الحاجة لفك الارتباط و الاشتباك بين الدين والدولة، بين الدين كمطلقات أزلية والسياسة كمتغيرات يومية كل شيء فيها نسبي يتغير حسب الزمان والمكان، والظروف وتغيرات الأشخاص والأحوال والحقب والضرورات العصرية والمصالح المرسلة. نحن أيضا بأمس الحاجة إلى التمييز بين الفهم السطحي للدين كطقوس ورموز وشكليات، وبين الفهم المعاصر الحقيقي للدين الإسلامي، وكل الأديان التي جاءت أساساً لصلاح الناس.

إن هذا الخلط بين المفاهيم وبين الدين والدولة جعل كليهما يخسران، والفصل بينهما يجعل كليهما يكسبان ويتضافران، كل من موقعه لبناء مجتمع آمن ومسالم.

أقول هذا لان صوت د. عبدالجبار الرفاعي هو بالضبط ضمن هذه الأصوات المتنورة لإنقاذ الدين الحقيقي ببعده الإنساني المرن، المتصالح والمتعافى والمنسجم بكلياته مع العصر، مع اختلاف في الجزئيات التي يتولاها البشر تطبيقا للآية الكريمة: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) [المائدة: 48].

د. عبدالجبار الرفاعي ينتمي إلى سلسلة من المتنورين والمجددين طوال التاريخ الإسلامي، والذين اما اضطهدوا، أو سجنوا، أو تمت تصفيتهم ببشاعة وأحرقت كتبهم، كما حصل لإخوان الصفا، ولفكر المعتزلة، والحلاج، وابن رشد، وآخرين تطول قوائم أسمائهم، وعلى من يرغب التعمق في ذلك قراءة كتاب "تاريخ العنف الدموي في العراق" للمفكر باقر ياسين.

وإذ بقيت هذه البؤر المشعة في تاريخنا ضئيلة التأثير، فلأن التاريخ يكتبه المنتصر، و تعني هنا السلطان والحاكم أياً كانت التسميات والألقاب، وهكذا نجد في الكتب المدرسية أن التاريخ حكايات وروايات لبطولات زائفة دموية، في حين لا يشار للمحطات المضيئة إلا عرضاً.

في العصر الحديث استمر هذا الضوء في الشيوع، دون أن يكون حاكماً، على يد جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وقاسم أمين، وطه حسين، ونجيب محفوظ، وآخرين كثيرين مثل عالم الاجتماع الكبير د. علي الوردي، الذي صودرت كتبه وحجبت كل حقوقه، لكن اسمه بقي مرموقاً في العالم، وممنوعاً كالعادة في بلده على يد النظام الدكتاتوري السابق. ومحمد عابد الجابري، ومحمد اركون ونصر، حامد أبوزيد. وإذ نورد هذه الأسماء في حزمة واحدة لا يعني أنها تلتقي إلى حد التطابق، فالاختلاف في التفاصيل وطريقة البحث والمنهج العلمي المتبع واضح، ولكن الثابت انها تلتقي على ضفة التنوير والتجديد، ولا تقف عند حدود القرن السادس الميلادي، هذا الوقوف والجمود الذي يسميه عالم الفلسفة الإيراني مجتهد شبستري بأنه يعني الانتحار والاضمحلال.

إن د. عبدالجبار الرفاعي معني كما محمد اركون بأنسنة الخطاب الديني، ومهتم كما محمد عابد الجابري بنقد العقل العربي، وينشد كما علي الوردي انقاذ الدين السمح والنقي والمتسامح والطوعي من تأويلات وتفسيرات مغلقة، يقدسها بعض أدعياء الدين، من وعاظ السلاطين في كل زمان ومكان.

شكرا للصديق د. عبدالجبار الرفاعي. ولا أقول سوى ما قلت له دائما: ان اكتب وصمم على التفكير بصوت عال، فسوف تنعش مع مرور الزمن حتماً الحياة فيمن تنادي..

 

فوزي الاتروشي

وكيل وزارة الثقافة "العراق".

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم