صحيفة المثقف

لعنة الشعراء .. خيالات متراخية .. قراءة نقدية

hamid abdulhusanhomaydi(لست انا بل انا الاخر هذا الذي يسكنني، وربما يزورني بين سطوري حزن عميق، وهمّ سطرته هنا ...) ص 7، هكذا كانت " تقدمة " الدكتورة الشاعرة (هناء البواب) لمجموعتها الشعرية، وهي تعنونها بـ (لعنة الشعراء) الصادرة عن دار الرابطة للنشر والتوزيع / الامارات العربية الطبعة الاولى 2014 .

هي .. شاعرة تمتلك قدرة تعبيرية رائعة جداً، لما فيها من سحر الاوزان والتفعيلات والقوافي، انها تقف في صومعتها (لعنة الشعراء) بل (لعبة الشعراء) لترى بعينها الباصرة ما يختفي وراء ذلك الكم الهائل من القريض، الكم الذي وضعت فيه دلالات ايحائية، اشبعتها بملكتها، حيث تضج بالأحاسيس، وطيوف الافق الذي يتلصص منها ما يلتذّ به من جمالية المفردة والتركيب، فالقصائد لديها " حزن وفرح / اعاصير وهدوء رياح / ضوء وظلمة / راحة وتعب / غروب واشراقات باسمة)، قصائد ديوانها توزّعت ما بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة .. حيث بلغت القصائد العمودية (6) قصائد هي: (اوراقي / جدتي / احلام مؤجلة) من البحر البسيط، و(عام الافراح) من بحر الخبب او المتدارك، أما (قبلة الاهداب / دموعي خريطة للطريق) من البحر الكامل .. في حين حظي الديوان بشعر التفعيلة وبلغت (25) قصيدة هي: (على سبيل البصيرة / وعينيه / الذاكرة المفقودة / طيوف البقايا / العتق / على صفحة الذكرى / وحدي / لعنة الشعراء / تموت لأنك / شتاء صيفي / يؤجلني الوداع / اجبني سميح / همسة قبل رحيلك / انين الذكريات / اعتراف / حشية القش / الموت / جدلية / عقارب الساعة / الساري / ادراك الحقيقة / احداقك جارحة / الحب لا يفنى / جذورك تمتد بي) اتسمت الشاعرة في قصائدها: بنفس طويل، مالت فيه الى استخدام صيغة سردية طبعت بأسلوب يجنح الى الروائية احياناً، وكأنها تعرض حوادث انسانية سجلتها بحضورها ضمن انفعالات خاصّة ..

نقرأ لها:

وعدت أنا،

وعاد أناي لي من بعد فقدان،

بهذا الكون ..

سعيك موصد العينين لا ينفع،

تأمل فسحة الاكوان، واسجد راغبا. (على سبيل البصيرة / ص 14)

ايّة " أنا " هي تلك التي تمردت على ما حولها .. لتنساب بعد ذلك على جسور البصيرة الممتدة عبر فضاءات كونية، وهي تلفظ ايمانها بالخالق، حيث تعود من جديد من بين ركام الاتربة التي غشيتها، لتتأمل نفسها وذاتها، لتجد ان هناك فسحة تكورّت، فشعّت، وأضاءت، وهي تقترب من الحقيقة التي طالما سعت اليها ..

ثم نقرأ:-

لا انت تدرك ما اعتراك

ولست تملك من طبيعتك الاحاطة

بالظروف

وكأن هذا الوهم لغزٌ

حول كعبته يطوف

وكأنك السرّ المشوش

يشتهيك فراغ هذا العقل

يهضمك الخسوف

واراك وحدك تائهاً

في الدروب توشك تنفجر .. (الذاكرة المفقودة 21 - 22)

بهذه الانسيابية الرائعة تتحول لغة الخطابية لدى الشاعرة الدكتورة (هناء البواب)الى مناجاة بل همس في خيالات متراخية، انها مرسلات ايقاعية، فهي تميل الى التدرج الفعلي المتناسق في (تدرك / اعتراك / تملك / يشتهيك / يهضمك / اراك / توشك / تنفجر) لتضع للآخر تزامنية متواصلة معها، لأنها تدرك جلياً انه له التأثير النفسي في بثّ و تحريك ما في دواخلها، فهي لا تكاد تخفي هذا إلا وانفجارات روحية متضخمة، تنهي هذه الحيرة التي اصبحت سمة واضحة لدينا .

ثم نقرأ لها:

لأنك عشقي

ورقّي

وعتقي

لأنك في رحلة الصمت نطقي

تهجدت فيك

تهجدت فيك مدى العمر صدقي .. (العتق / ص 29)

بهذه المفردات والتراكيب تفصح الشاعرة عن مديات ذاتية شكسبيرية،عندما وصف حب الانسان: (ويبدأ في حب الحياة منذ ان تبصر عيناه الضوء)، فشعورها الانساني كبير جداً .. يتسع لتهجدات ورحلة صمت، عناقها النطق، ولم يبق لديها إلا ان تضع الصمت جانباً لتعلن عن بوحها المتخم بالعمر الذي تراكمت عليه تلك الاجندة اللغوية وهي تعبئ ارهاصتها بقوة الاسلوب ومتانة اللفظ، وانسجامات موسيقية لها وقعها المميز عند النطق بها، فلا مغادرة منها وهي تسقط زيف كل الاقنعة التي لا تحمل بين طياتها رمزاً للوفاء والصدق .

ثم نقرا لها:

أنا والشعر .. والأحلام

قافية

سيبقى لونه اطلالة بيضاء

لان الشعر لغز صغته وطنا من الكلمات

انثره .. قصيداً كان لي ارضا

وكنت سماء

ويبقى الصوت بي يرتد

انّ الشعر يعني

لعنة الشعراء .. (لعنة الشعراء / ص 51)

الثلاثية التي استخدمتها الشاعرة (أنا / والشعر / والأحلام) ما هي إلا هرمية استطاعت من خلالها تطويع مفرداتها وتراكيبها لايصالية ذات ابعاد ناطقة / فاعلة .. رغبة انها جميعاً تتكور في خانة (قافية)، فالشعر له دلالته اللونية الذي تهيم به الشاعرة نقاء وصفاء وانبساطات لراحة نفسية متكاملة، انه هدوء (د. هناء البواب) .. وهي تمتد ما بين الارض والسماء لوحة فنية تبهر الابصار، إلا ان للوحة مشاكسة إلا وهي انها (لعنة الشعراء) تلك اللعنة التي لها طعم ولون يختلف عما نراه عند الاخرين .

ثم نقرأ لها:

وان العدالة في القيد تبكي

ويجلدها بالسياط القضاة

تموت لأنك تجهل مملكة الليل

تجهل ان القناديل تعدم فيها

وان الزمان الجميل انتهى .. (تموت لأنك.. / ص 55)

حينما تنحرف الحياة عما وضعت لها من طقوس ومبادئ، ويعم الاختلال والفوضى، وتظهر سطوة الجلاد، وتصادر الحريات، وتندرس المعالم الحقيقة للإنسان، الانسان ذلك الكائن الذي نحتفي به كثقافة عامة تعطي وتهب وتمنح، عندئذ نشعر بـ (ظلامية الجهل) وهي تسودنا وتطبق على انفاسنا، هنا تقف الدكتورة (هناء البواب) لتعلن عن رفضها المطلق لكل الممارسات القمعية التي تخنق (الثقافة) وتنحرها على دكة السياف، وهي تنزف عبقاً يفيض بألق الشعر وهو يتوهج من متن (لعنة الشعراء) .

 

حامد عبدالحسين حميدي / ناقد عراقي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم