صحيفة المثقف

التحول اللغوى فى الفلسفة

ibrahim telbasilkhaتمتاز الفلسفة التحليلية بجملة من الخصائص تميزها عن المدارس الفلسفية الأخرى فى الفلسفة المعاصرة ومنها :

1- فكرة مركزية اللغة بالنسبة للفلسفة، إذ يعتقد الفلاسفة التحليليون أن قضايا الفلسفة يمكن فهمها جيداً عن طريق العناية باللغة . وهذا الاتجاه نحو الاهتمام باللغة أصبح يسمى فى العرف الفلسفى " التحول اللغوى "وهو أصدق ما توصف به الفلسفة التحليلية وتعرف فى كلمتين .

2- الاعتماد على المنهج التحليلى سواء اتخذ هذا المنهج صورة التحليل المنطقى أو التحليل اللغوى .

3- احترام نتائج العلم والحقائق التى يسلم بها الحس المشترك، وأخذها بعين الاعتبار عند معالجة المشكلات الفلسفية (1).

ولقد نسب الفيلسوف مايكل داميت Michael Dummett الصيغة الكلاسيكية   " التحول اللغوى "إلى فريجه، مؤسس المنطق الرياضى الحديث، حيث قال : "إن موضوع بحث الفلسفة لم يحدد بصفة نهائية إلا مع فريجه، بحيث تبين (1) أن هدف الفلسفة قائم فى تحليل بنية الفكر، (2) وأن دراسة الفكر ينبغى أن تتميز عن دراسة عمليات التفكير النفسية،(3) وأن المنهج الكفؤ لتحليل الفكر يستند إلى تحليل اللغة"(2).

وهذا ما أكده أنتونى كينى Anthony Kenny فى كتابه "فريجه "بقوله : " .. إذا كانت الفلسفة التحليلية قد ولدت عندما حدث التحول اللغوى، فإن ولادتها لابد من أن تؤرخ بنشر كتاب فريجه "أسس الحساب "عام 1984 عندما قرر أن الطريق إلى بحث طبيعة العدد هو تحليل الجمل التى تظهر فيها الأعداد " (3).

كما أكد داميت فى موضع آخر دور فتجنشتين المهم فى هذا الشأن فقال : ".. إذا جعلنا من التحول اللغوى نقطة إنطلاق الفلسفة التحليلية، فإننا، على الرغم من تقديرنا لأعمال فريجه، ومور ورسل التى هيأت الأجواء، لن نستطيع أن نشك فى أن الخطوة الرئيسية نحو هذا التحول خطاها فتجنشتين فى كتابه "رسالة فلسفية منطقية " (4). فقد رأى أن العمل الفلسفى هو فى جوهره توضيحات، حيث قال : "إن موضوع الفلسفة هو التوضيح المنطقى للأفكار، فالفلسفة ليست نظرية بل هى فاعلية . ولذلك يتكون العمل الفلسفى أساساً من توضيحات لا تكون نتيجة الفلسفة عدداً من القضايا الفلسفية إنما هى توضيح للقضايا . فالفلسفة يجب أن تعمل على توضيح الأفكار وتحديدها بكل دقة وإلا ظلت تلك الأفكار معتمة مبهمة إذا جاز لنا هذا الوصف " (5).

وقد يكون الفيلسوف إير هو أول من لفت الانتباه إلى "التحول اللغوى "، فهو يقول: " إن الفيلسوف من حيث إنه محلل ليس معنياً بالخصائص الفيزيائية التى تتميز بها الأشياء. هدف الفيلسوف هو أن ينظر فى الكيفية التى نتحدث بها عن الأشياء". أو بعبارة أخرى: "إن قضايا الفلسفة ليست قضايا واقعية، بل هى فى طبيعتها قضايا لغوية . فهى لا تصف سلوك الأشياء المادية، ولا حتى الأشياء العقلية، بل تقتصر على التعبير عن التعريفات أو النتائج الصورية التى تترتب على التعريفات . وكنتيجة لذلك تكون الفلسفة علامة بارزة من علامات البحث المنطقى الخالص" (6).

و" التحول اللغوى " Linguistic Turn هو التحول نحو اللغة واتخاذها موضوعاً للفلسفة ؛ وهذا التحول لم يأخذ صيغة واحدة، كما يصوره أنصار الفلسفة التحليلية، وإنما يأخذ فى الحقيقة صوراً متعددة . وأصبحت عبارة " التحول اللغوى " أكثر انتشاراً عندما استعملها رورتى عنواناً للكتاب الجماعى الذى أشرف عليه وكتب له مقدمة نشرت عام 1967 . وهذا الكتاب عبارة عن مجموعة من المقالات أغلبها لفلاسفة مناطقة وتحليليين، ومنها : "مستقبل الفلسفة " لـ (مورتس شليك)، " التجريبية، السيمانطيقا، والأنطولوجيا " لـ)رودلف كارناب)، " الوضعية المنطقية، اللغة، وإعادة بناء الميتافيزيقا " لـ (كوستاف برجمان)، "التعبيرات النسقية الخاطئة " لـ (جيلبرت رايل) و" معضلة فلسفية " لـ (جون وزدم) و" التقدم السيمانطيقى " لـ (ويلارد كواين) و" الاكتشافات الفلسفية " لـ (ر.م. هير) و" أرامسون ودارنوك " لـ (جون أوستن)، " مدخل إلى اللغة : الكلمات والمفاهيم " لـ (ستيوارت هامبشير)، " تاريخ التحليل الفلسفى " لـ (أرامسون) و" التحليل، العلم، والميتافيزيقا " لـ (بيتر ستروسون) .. الخ .

يقول رورتى فى مقدمة كتابه " التحول اللغوى": "إن الهدف الذى يصبو إليه هذا الكتاب يتصل بتقديم معطيات تمكن من التفكير فى الثورة الفلسفية التى حدثت فى السنوات القليلة الماضية، أى فى الفلسفة اللغوية. وأعنى " بالفلسفة اللغوية " هنا " تلك الرؤية التى تقضى بأن المشكلات الفلسفية يمكن حلها سواء بإصلاح اللغة، أو بالمزيد من الفهم الذى يمكن أن نصل إليه حول اللغة التى نحن بصدد استعمالها " (7). وهو يعرف "التحول اللغوى " بأنه ذلك " التحول الذى اتخذه الفلاسفة فى اللحظة التى هجروا فيها الخبرة بوصفها موضوعاً فلسفياً وتبنوا موضوع اللغة وبدأوا فى السير خلف خطى فريجه بدلاً من لوك " (8).

وأكد رورتى هذا المعنى فى موضع آخر فقال : " لقد اتخذت صورة الفلسفة القديمة والوسيطة " الأشياء " Things منطلقاً لها، واتخذت الفلسفة فى القرون من السابع عشر إلى التاسع عشر " الأفكار " Ideas منطلقاً لها، ويتم توضيح الساحة الفلسفية المعاصرة بواسطة " الكلمات " Words (9). وأضاف رورتى أن النظام المعرفى المسمى حالياً " فلسفة اللغة " له مصدران أساسيان :

المصدر الأول : جملة المشكلات التى عالجها فريجه وناقشها، على سبيل المثال، فتجنشتين فى "الرسالة"، وكارناب فى "المعنى والضرورة " . وهى مشكلات بخصوص معرفة كيفية تنظيم أفكارنا عن المعنى والإشارة بطريقة تمكننا من الإفادة من المنطق الكمى، والحفاظ على حدوسنا عن منطق الجهة، وبصفة عامة، تقديم صورة واضحة ومرضية حدسياً تتشكل من مفاهيم " الحقيقة "، و"المعنى"، و" الضرورة " و" الإسم " . ويسمى رورتى هذه الفئة من المشكلات " موضوع فلسفة اللغة الخالصة "، وهى نظام ليس له شكل معرفى ولا حتى أى علاقة مع معظم الاهتمامات التقليدية للفلسفة الحديثة .

المصدر الثانى : هو المصدر المعرفى، ويتمثل فى محاولة استعادة صورة الفلسفة الكانطية كإطار تاريخى دائم للبحث فى شكل "نظرية المعرفة " . فقد بدأ " التحول اللغوى " كمحاولة لتقديم نزعة تجريبية غير نفسية عن طريق إعادة صياغة الأسئلة الفلسفية بخصوص المنطق . ولقد جرى الاعتقاد بأنه من الممكن الأن، تقديم المذاهب التجريبية والفينومينولوجية ليس بوصفها تعميمات تجريبية – نفسية ولكن كنتائج " للتحليل المنطقى للغة " . وبوجه عام، إن الفعاليات الفلسفية حول طبيعة المعرفة الإنسانية ومجالها (على سبيل المثال ما قدمه كانط من مزاعم معرفية حول " الإله " و" الحرية " و" الأخلاق") يجب أن تقدم من جديد فى شكل ملاحظات أو تعليقات حول اللغة (10).

ويرى رورتى أن " الفلسفة التحليلية " بوصفها صورة من التجريبية قد انطلقت فى عصرنا من أعمال رسل وكارناب – الخ- وأن الفيلسوف إير هو الذى استوعب هذه الأعمال وقام بنشرها وتفسيرها خاصة فى كتابه " اللغة والصدق والمنطق " (1936) . حيث قدم من خلاله جملة من الأفكار التى تشكل ما يسمى فى عصرنا " الوضعية المنطقية " أو " التجريبية المنطقية " وهى الأفكار نفسها التى أعادت الابستمولوجيا التأسيسية للتجريبية البريطانية إلى مجراها اللغوى بدلاً من النفسى . وهذه الأفكار تختلف بشكل كبير عن الأفكار التى تشكل الأساس لما يسمى، أحياناً، " فلسفة تحليلية ما بعد الوضعية " – وهى فرع من الفلسفة يقال عنه أنه " أبعد من " أو " تجاوز " للتجريبية والعقلانية (11).

ويقول رورتى : " إن التحول الذى حدث داخل الفلسفة التحليلية منذ بداياتها فى حدود 1950 م، إلى غاية اكتمالها فى سنة 1970م، من الصعب رصده بيسر وتحديده بدقة، فهو يرجع إلى تفاعل معقد لقوى كثيرة صاحبت الفلسفة التحليلية . لكن مع هذه الصعوبة هناك ثلاثة أعمال رئيسية ساهمت فى مسار الفلسفة التحليلية وهى : "معتقدان للتجريبية " لـ (ويلارد فان أورمان كواين) و" بحوث فلسفية " لـ (لودفيج فتجنشتين) و" التجريبية وفلسفة العقل" لـ (وليفرد سيلرز) (12).

ومقال سيلرز، من بين تلك الأعمال الثلاثة، والذى يتصف بالتعقد والثراء، هو أقلها شهرة ومناقشة . فقد أكد مؤرخوا الفلسفة الأنجلوأمريكية أهمية مقال كواين فى إثارة الشكوك حول فكرة " الصدق التحليلى " وكذلك حول فكرة رسل وكارناب القائلة " بأن الموضوع الرئيسى للفلسفة يجب أن يكون " التحليل المنطقى للغة ". كما عملوا على إبراز قيمة مقال فتجنشتين ودوره فى هدم كثيراً من مشكلات الفلسفة التقليدية . ومع هذا، فإنهم لم يسلطوا الضوء بشكل كاف لتقدير دور سيلرز فى هذا المجال. وسيلرز (1912 -1982) بأعماله العديدة ورؤيته الموسوعية والعميقة بتاريخ الفلسفة قد تميز عن كثير من فلاسفة التحليل وعلى رأسهم كواين وفتجنشتين؛ فهو يقول : " إن الفلسفة من دون تاريخ الفلسفة، إن لم تكن عمياء، فإنها على الأقل تكون خرصاء "(13).

والحقيقة أن محاولة رورتى للجمع بين " التجريبية " و"العقلانية" تعتمد أساساً على أفكار سيلرز وخاصة فى كتابه "التجريبية وفلسفة العقل " . وهو الكتاب الذى أشاد به رورتى واعتبره من أكثر الأعمال جاذبية فى عصرنا، ولا يمكن التعرف على مشروع سيلرز الفلسفى من دونه . والفكرة الرئيسية فى هذا الكتاب هى قول كانط : " الحدوس من دون مفاهيم تكون عمياء " . فوجود انطباع حسى، هو فى حد ذاته ليس مثالاً للمعرفة ولا للخبرة الواعية . سيلرز، مثل فتجنشتين المتأخر، وعكس كانط، رأى أن وجود "مفهوم " يعنى " التمكن من استعمال كلمة " . ولذلك فهو يقول : " إن كل وعى بالأنواع، وبالتماثلات، وبالوقائع .. الخ، أى باختصار، كل وعى بالكيانات المجردة – بل حتى كل وعى بالجزئيات هو " عمل لغوى" . ومذهبه الذى سماه " النزعة الاسمية السيكولوجية" Psychological Nominalism يوضح – كما يرى رورتى – أن لوك، وباركلى، وهيوم كانوا مخطئين فى اعتقادهم أننا " ندرك أنواع محددة .. وذلك ببساطة بفضل وجود أحاسيس وصور(14).

و" النزعة الأسمية السيكولوجية " عند سيلرز مبنية على أسلوب فتجنشتين فى كتابه "بحوث فلسفية "، والذى أكد ارتباط المعرفة بالممارسة الاجتماعية .. وتؤدى إلى تضييق الخلاف، بل والجمع بين توجهات " العقلانيين " و" التجريبيين " (15). وذلك من خلال توسط اللغة ومعالجة المشكلات الفلسفية بالرجوع إليها .. يقول سيلرز : " إن التحكم فى اللغة هو الشرط الضرورى لكل خبرة واعية " (16).

ويقسم رورتى فلاسفة العقل واللغة إلى قسمين : فلاسفة ذريين Atomists وفلاسفة كليين Holists ؛ وهؤلاء جميعاً يرون أن أهم ما يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات هو العقل واللغة . وقد زادت حدة الخلاف بين الفريقين منذ نشر كتاب " مفهوم العقل " لـ " رايل"، و" بحوث فلسفية " لـ " فتجنشتين "، و" التجريبية ومفهوم العقل "   و" معتقدان للتجريبية " لـ " كواين" . فقد شك فتجنشتين فى منطلق النظرية النسقية للمعنى، وسخر كواين من القول " بوجود كيانات تسمى (معانى) مرتبطة بالتعبيرات اللغوية"، وشك رايل فى تصورات علم النفس التجريبى، وسار سيلرز على نهج فتجنشتين بقوله إن ما يميز البشر هو قدرتهم على التخاطب مع بعضهم البعض، وليس امتلاكهم حالات عقلية داخلية متماثلة بشكل ما مع حالات بيئتهم (17).

وبعد أن تربى رورتى فى أحضان الفلسفة التحليلية، وتمرس على آلياتها سرعان ما تمرد عليها وانتقدها بعدما اكتشف إخفاقاتها المتنوعة .

 

أ.د. ابراهيم طلبه سلكها

رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة طنطا

مصر

...............

الهوامش

(1) د. صلاح إسماعيل : نظرية جون سيرل فى القصدية، دراسة فى فلسفة العقل، حوليات الآداب والعلوم الاجتماعية – الحولية السابعة والعشرون، مجلس النشر العلمى، جامعة الكويت، 2007، ص34 .

(2) Timothy Williamson : Op – cit , pp- 11-12.

(3) Anthony Kenny : Frege : An Introduction to the   Founder of Modern

Analytical philosophy , oxford , Blackwell, 2000, p-211

(4) Michael Dummett : Origins of Analytical philosophy , Cambridge, Mass : Harvard university press, 1996 , p- 25 .

(5) لودفيج فتجنشتين : رسالة فلسفية منطقية، ترجمة د. عزمى إسلام، مراجعة د/ زكى نجيب محمود، مكتبة الأنجلو المصرية، 1968، ص ص 36، 37 .

(6) Alfred Jules Ayer : Language, Truth and logic, Penguin Books, 1936,p- 76.

(7) Richard Rorty : The Linguistic Turn , Essay in philosophical Method , The University of Chicago press, 1992, p- 3 .

(8) محمد جديدى : مرجع سابق، ص 256 .

(9) Richard Rorty : Philosophy and the Mirror of Nature , p-263.

(10) Ibid , pp- 257-258 .

قارن د.محمد جديدى : مرجع سابق ص 259

 

(11) Richard Rorty : " Introduction " In " Empiricism and the philosophy of Mind " edited by willforid Sellars, Cambridge, Mass, Harvard University press, 1997, p-1 .

(12) Ibid , pp- 1-2 .

(13) Ibid, pp- 2-3 .

(14) Ibid, pp- 3-4 .

(15) Ibid, pp- 4-5 .

(16) Ibid, p- 9 .

(17) Richard Rorty : Contingency, Irony and solidarity, Cambridge university press, 1995, pp—176 – 180 .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم