صحيفة المثقف

مثقفون مغاربة في مجازات العبور

abdulnaby dakirبرحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة ابن زهر بأكادير، واحتفاء بكتب تمارس عبورها الخاص، نظم ماستر التحرير الصحفي والتنوع الإعلامي والإجازة المهنية في التحرير الصحفي، بتنسيق مع نادي المبدعين الشباب ومنتدى فريق البحث الطلابي في اللسانيات، أمسية: مثقفون مغاربة في مجازات العبور، وذلك مساء يوم 28 أبريل 2005 بمدرج المختار السوسي. وهي أمسية مهداة إلى روح المبدع والناقد د. عبد الرحيم مودن، الذي خبر السفر والترحال ممارسة وتنظيرا ونقدا، بدءا بالرحلات السفارية والسياحية، وانتهاء بالدليل السياحي، مرورا بما يعرف في تاريخ المغرب بـ"الحرْكة"، وما يعرف في التاريخ الشعبي بـ"التغريبة".

د. عبد الرحيم مودن (ولد سنة 1948 بالقنيطرة، وتوفي سنة 2014 بهولندا) اشتغل أستاذا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقنيطرة، بعد أن بدأ حياته المهنية أستاذا للغة العربية بثانوية مولاي إسماعيل بمكناس، ثم بثانوية النجد بسلا وثانوية محمد الخامس بالقنيطرة، فأستاذا بالمركز التربوي الجهوي لتكوين الأساتذة بالقنيطرة.

د. عبد الرحيم مودن متمرِّس بالحكي، خبر الرحلة والمسرح و السرد القصصي تنظيرا وممارسة. وأول نص قصصي صدر له كان سنة 1966 على صفحات جريدة العلم تحت عنوان: "ريالات خمسة"، لتتواصل بعد ذلك أضموماته القصصية:

- اللعنة والكلمات الزرقاء (بالاشتراك مع إدريس الصغير) ـ وتلك قصة أخرى ـ أزهار الصمت ـ حذاء بثلاث أرجل.

كما كتب قصصا للأطفال واليافعين، وتشهد على ذلك نصوص المبثوثة في العديد من المنابر العربية من المحيط إلى الخليج، وتشهد على ذلك أضمومته: قصص للأطفال والفتيان، الصادرة سنة 1988.

ومن إصداراته الغزيرة للطفل والتي تحضر فيها بقوة ثيمتا البحر والسفر: (حكايات "طارزاد " ـ عمارة العمالقة ـ راية البحر ـ السباحان الماهران ـ الرحلة نحو البحر ـ باب البحر الثامن ـ سفن البحر الملونة ـ أطفال البحر ـ الحلم ـ الدجاجة والسمكة ومالك الحزين ـ الأرنب الطائش).

ومن مجموعاته القصصية لليافعين: السمكة والأميرال؛ وهي مترجمة إلى الفرنسية والإسبانية.

ويعتبر كتاب: الشكل القصصي في القصة المغربية، وهو في جزءين ضخمين، من أهم الإصدارات المغربية في نقد القصة المغربية، إضافة إلى معجمه الصغير الحجم الكبير الفائدة: معجم مصطلحات القصة المغربية.

ومن أهم منجزاته السردية للطفولة، تلك المؤلفات التي نسج فيها صورا من طفولة الكتاب العرب، لتصدر سنة 2006 في تسعة أعمال تجمع بّورتريهات عن الكتاب المغاربة إلى جانب بّورتريهات الكتاب المشارقة: (إدريس الخوري طفلا ـ محمد زفزاف طفلا ـ غسان كنفاني طفلا ـ مبارك الدريبي طفلا ـ الطيب صالح طفلا ـ نجيب محفوظ طفلا ـ خناتة بنونة طفلة ـ طه حسين طفلا ـ عبد المجيد بن جلون طفلا).

وقد استهواه أدب الرحلة، فأعد فيه أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في موضوع لا يخلو من جدة وطرافة هو: السرد في الرحلة المغربية خلال القرن 19م. وقد حصلت على جائزة ابن بطوطة للمركز العربي للأدب الجغرافي، وصدرت بعنوان: الرحلة المغربية في القرن التاسع عشر؛ مستويات السرد، (2006).

كما أعاد تحقيق ودراسة الرحلة التتويجية إلى الديار الإنجليزية، للحسن بن محمد الغسال؛ التي حازت على جائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي لسنة 2003. وجمع نصوص المرحوم محمد باهي ورتبها في كتاب: الرحلة البهية إلى باريس السرية.

ولعل افتتانه بأدب الرحلة وطقوس العبور الساحرة، هو الذي جعله يدخل مغامرة مسْرَحة الرحلة، كما فعل في مجموعته المسرحية: (مدينة النصوص) مع ابن بطوطة الذي كتب عنه مسرحية شيقة ومثيرة: (ابن بطوطة وتابعه ابن جزي)، مستحضرا طقوس عبور المهاجرين السريين ومآسي مغامرات شباب وشابات وأطفال نسجوا ملحمة العصر بأجساد أنهكها حلم السفر. ولم يتوقف افتتانه بالرحلة عند هذا الحد، بل أمَّل أن ينقل هذه العدوى الجميلة إلى الأطفال واليافعين، فأعاد بقلمه الثَّرّار كتابة نصوص ابن بطوطة والبيروني والمسعودي والقزويني. وفي هذا السياق كتب:

ـ مغامرة ابن بطوطة للفتيان (في تسعة أجزاء: في جزيرة الياقوت الساطع، البيروني ـ رحالة البر والبحر: المسعودي ـ مدن من توابل ـ في بلاد عبدة النار ـ العالم كرة بالألوان ـ جزيرة النساء: القزويني ـ مغامرات الفتيان السبعة).

ويتجلى عشقه الخاص لرحلة ابن بطوطة في أعمال أخرى من قبيل:

ـ مغامرات ابن بطوطة للفتيان، 1999 في تسعة أجزاء: (أنا ما قبل الرحلة ـ الشام بلاد الأنبياء ـ مصر أم الدنيا ـ في الطريق إلى الحج ـ بلاد الظلمة ـ الهند والصين ـ من فاس إلى غرناطة ـ بلاد السودان ـ ما بعد الرحلة).

- رحلة ابن بطوطة الجديدة، 1999.

ومن إصداراته الأخرى في أدب الرحلة، التي تنم عن انتباه مخصوص لأدبية هذا الجنس:

- رحـلات مغربية وعربية، 2000.

- أدبية الرحلة، البيضاء، 1996.

وحري بنا أن نذكر أن المرحوم عبد الرحيم مودن، وهو الذي التحق باتحاد كتاب المغرب منذ سنة 1976، ظل وفيا للعطاء الإبداعي والكتابة النقدية والاشتغال في مجموعات بحث أكاديمية، فقد كان رئيس مجموعة البحث في المعجم الأدبي والفني بكلية آداب القنيطرة ، ورئيس الجمعية المغربية للبحث في الرحلة، وعضو مؤسس للمركز المغربي للتوثيق والبحث في أدب الرحلة بكلية آداب أكادير؛ وعضو مجموعة البحث في تاريخ البوادي المغربية، بكلية آداب القنيطرة؛ وعضو مؤسس لـمجموعة البحث في القصة القصيرة، كلية الآداب بنمسيك، الدار البيضاء؛ وعضو مختبر السرديات، كلية الآداب، بنمسيك ، الدار البيضاء؛ ومؤسس رابطة القصة المغربية القصيرة الجديدة، القنيطرة؛ كما ظل وفيا للنضال كعضو للنقابة الوطنية للتعليم العالي. نعم، تساقطت الزهرة، لكن شجرة المعرفة بقيت وارفة الظلال يتفيأ بها الطفل واليافع والكبير؛ فلكل مكانته الخاصة في قلب عبد الرحيم.

وبهذه المناسبة الاحتفائية برمز من رموز القصة والنقد الرحلي في المغرب، تم تقديم ثلاثة إصدارات حديثة، هي:

ـ الرحالة العرب ودهشة اكتشاف الغرب، لعبد النبي ذاكر.

ـ يسألونك عن الذاكرة، لعبد السلام الفازازي.

ـ سندباد الصحراء، لعبد العزيز الراشدي.

كتاب المقارن د. عبد النبي ذاكر رصد لأقنعة المحتمل في الرحلة العربية إلى عواصم أوروبا وأمريكا والاتحاد السوفياتي. علاوة على أن صاحب الكتاب معروف بجدية كتاباته في هذا المجال، لأنه صاحب مشروع علمي، استطاع بفضله أن يحصل على جوائز عربية في هذا المجال، بل ويترأس لجنها؛ فإن كتابه يتميز بطرافة موضوعه المهتم، لا بثيمات أو موضوعات الرحالين، وإنما بجماليات هذا الخطاب الذي ظل ردحا طويلا من الزمن عصيا على الباحثين. ومن هنا تأتي أهمية اهتمام الباحث في هذا العمل بشتى أقنعة المحتمل. وهي أقنعة لا تقدم نفسها للدارس عند أول وهلة، بل تحتاج إلى صبر وأناة ومكابدة لاستكشاف الأقنعة الأسلوبية والخطابية واحدا تلو الآخر، من قبيل قناع السيرة الذاتية والفكاهة والتكييف والانتقاد الذاتي والغيري، بالإضافة إلى شعرية المغايرة وإستراتيجية التنسيب، إلخ.

أما العبور عند د. عبد السلام الفيزازي، فأنشودة رحيل في الزمان والمكان، يتلبّس فيها الروائي بالسير ذاتي، ممثِّلا لمرحلة زمنية ذات ملامح نضالية تتداخل في عناصرها كل الأبعاد والأشكال النضالية التي اختلفت باختلاف شخصياتها وتضاريسها وسلوك أهلها.. فمن الطبيعة القاسية التي تحبل به فضاءات منطقة الريف المطلة على إسبانيا والبرتغال، والتي أكسبتها بِسيكولوجية كثيرا ما كانت نافذة مشرعة لسعتها من خلالها قسوة النظام المغربي الذي جعلها في خانة المغضوب عليهم، وأصبحوا يعاقبون بذنب لم يرتكبوه عنوة. منطقة أبيّة بفحولتها جعلت كل الألسن تتداولها، هي التي أنجبت المقاوم والمجاهد الأمير محمد الخطابي الذي قاوم مرة واحدة الاستعمار الفرنسي والإسباني فكان رمزا من رموز المقاومة على الصعيد العالمي.. منطقة أنجبت شخصية هذه الرواية السير ذاتية: إدريس الفقيه ، عائشة، وغيرهما.. منطقة تفرعت عنها فضاءات مثل: السوياح، اجْبارْنة، بوحدود، أربعاء تاوريرت...

وهذا العمل الإبداعي الواقعي يعتبر بحق امتدادا عبر أزمنة متعاقبة لمسار إنسان أصبح يتساءل وهو يقيم مراحله النضالية، عن جدوى النضال الذي تنكرت له كل القيم المتعاقبة والتي أصبحت تخال كل ما ولى وراح عبارة عن أضغاث أحلام ليس إلا.. وكل ما اختزلته الذاكرة المكوكية لشخصية إدريس ومن جايله من المناضلين الشرفاء لا يعدو أن يكون سوى مسحة تاريخية تلوكها الألسن المعجبة بماض سرعان ما تلاشى عبر أرخبيلات الزمن الجائر.. إنها حقيقة لم يستطع إدريس رغم خضرميته هضمها بسهولة، هو الذي كافح وجاهد ما استطاع إليه سبيلا من أجل أن يعيش ويستشعر نكهة ومتعة ما صنعت يداه ومن أجل أن يعيش هو وثلة من أسرة جيش التحرير نعمة الاستقلال التي كانت في كف عفريت .

ولعل هذا العمل الإبداعي هو تجسيد لحقيقة تقلب الزمن الذي لا يعترف، في آخر المطاف، إلا بالآني، والابتعاد كلية عن الماضي الذي أصبح يعتبر في نظر الحداثيين من الشبان نكوصا لن يفيد المستقبل في شئ.. ولم يكن إدريس الإنسان الذي تنكر للمستقبل على حساب الماضي ما دام كان ينصت لأبنائه بقلبه وعقله؛ لكن كان في الحقيقة بين المطرقة والسندان.. هل يستطيع التنكر للماضي جملة وتفصيلا وهو من صناعه، أم تراه يستسلم للقدر المحتوم، هو الذي كان يحلم بجيل خانه الصمت، فهوى من أعالي الأحلام إلى اللحظة المرعبة، يعد أضلاعه النخرة، وتقوده قدماه التي ما عادت تتحمله إلى النوم متوسلا أن لا يوقظه الأنام قبل يوم القيامة.. إدريس أصبح في رقعة التاريخ المغربي عبارة عن صيحة ثكلى يود طواعية أن يطوي الماضي كما لو أنه لم يكن فيه.. هادئا كان يمر على المقابر المنسية ليكتشف بعد لأي من الزمن أن الحياة عبارة عن أكذوبة لا مفر منها، وأن المسافة بينها وبين الموت عبارة عن جنازة وردة برية.. إدريس الذي خرج من صمت قريته السوياح، تجرحت قدماه من التطواف عبر فضاءات الوطن الكبير، حاملا شعار: بربكم لا تستنطقوا صمت قريتي التي طردت منها عنوة وحبها لا زال في مهجتي… بربكم هللوا وكبروا الشهداء في بلادي، ودعونا نؤرخ للرحيل أنشودة.

ولرحلة الروائي عبد العزيز الراشدي: (سندباد الصحراء) (الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر- دار السويدي)، طقوس عبور تميزها، وهي تتنقل بين مشاهدات من جنيف، وباريس، وبيروت، والمنامة، ودمشق، والقاهرة، ومراكش ومدن أخرى... وجدير بالذكر أن هذا العمل الإبداعي الاستثنائي الحائز على جائزة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة في دورتها التاسعة (2013- 2014)، تدوين شاعري ليوميات عبد العزيز الراشدي وأسفاره في بلده المغرب وبلدان أخرى غريبة عنه، بلغة شفيفة موحية وصافية، تتخلّلها فكاهة خفيفة حيناً، ومشاعر عميقة يسِمها حزن وجودي دفين في أحيان أخرى. هكذا، تأتي رحلاته أو مشاهداته مختلفة عمّا هو سائد في أدب الرحلات عامة. كأنّ الرحالة يتحول فجأة إلى شاعر يغامر في أفق شعري، لا يصف كل ما يراه ولا يدوّن بدقة كل ما يتعرّف إليه، بل إنه يلمّح أكثر مما يُصرّح، وينفذ من الصورة إلى ما وراءها أي إلى عالمين نرى أحدهما ونستنبط الآخر، عبر الصور والأخيلة والتأملات. وبهذا المعنى، فإن هذه اليوميات هي سفر الذات من خلال السفر في العالم، ومحاولة لاكتشاف دواخلنا بينما نحن نتأمل في صور العالم وظواهره ومظاهره، في الطبيعة والبشر والعمران. وهذه الكتابة، لا شك أنها تصدر عن وعي بالعالم وبالكتابة يتجاوز الفكرة البسيطة عن وصف الرحّالة لما يراه، إلى الفكرة الأبعد التي تتيح له النفاذ من خلال ما يرى في العالم، إلى عمق المسألة في بعدها الوجودي.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم