صحيفة المثقف

فلسفة العلم النسوية

ibrahim telbasilkhaفلسفة العلم النسويـــة تقع بين الاهتمامـــات النسوية في العلـــم والدراسات الفلسفية للعلم، وقد تطورت في العشرين عاماً الأخيرة. ظل النسويون لوقت طويل ينظرون للعلوم على أنها مصدر رئيسي لفهم الظروف التي تؤثر على حياة النساء، واستخدموا عدداً من البرامج البحثية عالية الإنتاجية، خاصــة في العلــوم الاجتماعيـــــة والحياتية، ومع ذلك، وفي الوقت ذاته، نظر النسويون للعلوم على أنها موضع مهم لتباين الجنوسة، ومصدر رئيسي لتشريع هذا التباين. وقام النسويون، من داخل العلوم وخارجها، بتحليلات نقدية مهمــة لموضوعــات جنوسية وجدوها متأصلة في قوانين العلم وممارساته ومحتواه . إن كل أنواع التدخلات النسوية في العلم – الاستنتاجي والنقدي – أدت لظهور أسئلة ابستمولوجية عن الأهداف الموضوعية، وإقامة البرهان ودور توجيه القيم السياقية (غير المعروفة غالباً) . (90)

و حيثما يكون العلم موضع اهتمام، فإنه من المحتمل أن يكون النسويون مشهورين بالتقييمات النقدية الحادة متعددة الطرق التي تنتج فيها القيم الجنسية والفروض في التكوينات التأسيسية، والممارسة، وبرامج البحث والمحتوى الخاص بالعلوم الدقيقة والأكثر منطقية . فغالباً ما تبدأ الانتقادات النسوية بالتدعيم بالوثائق لتباين الجنوسة في التدريب، والتمثل ومعارف النساء في العلوم، ونماذج التهميش التي لا تزال موجودة حالياً رغم استعداد عدد كبير من النساء للتدرب العملي، وكفاءتهن في تقديم إسهامات هائلة لكل مجالات البحث العلمي . وأوضحت Londa Chiebinger وهي مؤرخة نسوية للعلم، أن هذه الأنماط القديمة من الاستبعاد كانت بدون شك محتومة، فنخبة من النساء والبعض من الحرفيات في القرنيـــن السابع عشر والثامن عشر لعبن دوراً فعالاً في التأسيس الأولي للعلوم، ولكنهن كن مهمشات . ونادراً ما كانت تعتبر النساء مسئولات بالنسبة للأكاديميات والجامعات العلمية الكبرى عن علماء التدريب حتى الخمسين عاماً الأخيرة، أياً كانت مواهبهن أو إسهاماتهن، وبرغم ظهورهن المتزايد في برامج التخرج، فإنهن ظللن أقلية واضحة في أغلب المجالات . (91)

وعلى الجانب الآخر، فإن النسويين اهتموا بتوضيح التحريفات أو التشوهات المنهجية التي تظهر عندما تؤخذ الخلافات الجنوسية بجدية ولكن يتم تكوين فكرة عنها من خلال أراء شائعة تفرض بشدة مقولات استقطابية ثابتة عن ما هي النظم التي غالباً ما تكون معقدة لحد ما وشديدة التغير . والافتراضات من هذا النوع مستخدمة بشكل أكثر وضوحاً في التاريخ الطويل لدراسات الاختلاف الجنسي التي تم تخصيصها لتوضيح الاختلافات الجنوسية في الذكاء والقدرات المعرفية الأخرى، ولفصل أسسها الجينية أو الهرمونية أو البيوفيزيقية الأخرى . حتى إذا تم إدراك إمكانية الموضوعات الثقافية أو التاريخية بوضوح، فإن هناك مشاكل مماثلة تنشأ عندما يعرض الدراسون مقولات جنوسية ناتجة من خبرتهن بناء على الموضوعات الثقافية والتاريخية . إن الفروض الخاصة بسلبية النساء وخضوعهن، بعكس الأدوار الفعالة الشائعة عموماً للرجال، تســــود الأدبيات القديمــة، ونظريات مماثلة عن التطور البشري . ولقد كافح النسويون أنفسهن تأثير هذه الأفكار من الوقت الذي بدأوا فيه برامجهم البحثية . وظهر عدد من الانتقادات الذاتية في بداية الثمانينيات حيث عرض علماء الأجناس والمؤرخون أعمالهم القديمة، مستنتجين أنه، في إعادة تركيز الاهتمام على الأنشطة والخبرات المميزة للنساء، فإنهم يقبلون غالباً الفروض البارزة بخصوص الاختلافات في الجنوسة وطالبوا بضرورة إعادة تقييمها . (92)

و بوجه عام، يمكننا القول: إن العلم الغربي لم يأت أبداً عن ضربة واحدة أو كخامة متجانسة، إلا أنه كمؤسسة اجتماعية، أو طريقة لاكتساب المعرفة، اكتسى بعوائد وتوجهات معينة في استشرافه للأمور . وانعكس الوعي الذكوري في هذه المؤسسة، لأن الغالبية العظمى من العقول المسئولة عن تشييد العلم كانت ذكوراً .. لكن لا يعني ذلك عدم قدرة النساء على ممارسة العلم، فقد تركزت دوافع الكاتبات النسويات ومقاصدهن في:

1- تبيان أن النساء قادرات على ممارسة العلم .

2- إزاحة العقبات التي تعوق النساء عن الإسهامات في العلم .

3- تصحيح المعلومات الخاطئة عن بيولوجيا المرأة .

4- نقد قيم العلم وأهدافه . (93)

و تكشف نصوص النساء العالمات عن أنه لا شيئ في طبيعة المرأة الجسدية أو النفسية أو العقلية يمنعها من إسداء الصنع في العلم . وتبين أن نساء كثيرات، وليس فقط الاستثناءات كماري كوري، ساهمن في كل مستويات العلم، من المساعدات الفنيات إلى الباحثات المستقلات . ويمكننا الآن أن نرى عدداً مدهشاً من النساء العالمات على مدار تاريخ العلم، لم نكن نراهن فيما سبق، بدءاً من الفيلسوفة الطبيعيـــة فــــي القرن الخامس قبل الميلاد أريت القورينائية Arate of Cyrene، حتى عالمة الرياضيات في القرن الرابع هيباثيا السكندرية Hypatia of Alexandria، وصولاً إلى هيلدجارد من بنجن Hidegrad of Bingen فـــي القرن الثانــــي عشــر، وعالمة الكيمياء الفيزيائية في القرن العشرين روزالين فرانكلين Rosalind Franklin التي جرى التهوين من شأن إسهامها المحوري في بنية الشفرة الوراثية الـدنا (D.N.A) . والآن لدى الفتيات اللآتي يمتهن العلم مُثل عليا عديدة كي يهتدين بهن . (94)

 

2- فلسفة الأخلاق النسوية:

تطور علم الأخلاق، أو الفلسفة الأخلاقية، كمجال للبحث الفكري في الغرب لأكثر من ألفي عام بأدنى إسهام من النساء، فالأصوات النسائية كانت غائبة حقاً عن الأخلاق الغربية حتى هذا القرن، تماماً كما هو الحال في مجالات الفكر الغربي . ولقد عنى غياب الأصوات الأنثوية أن الاهتمامات الأخلاقية للرجال شغلت منذ القدم الأخلاق الغربية التقليدية، وشكلت وجهات النظر الأخلاقية للرجال مناهجها ومفاهيمها،و أصبح الانحياز الذكوري ضد النساء أمراً مالوفاً ولم يعترض عليه عبرها . والأخلاق النسوية تستكشف التأثير الهائــل لهـــذا النمــط من عدم التوازن على الفلسفة الأخلاقية وتسعى لتعديله .(95)

و تتضمن أي أخلاق نسوية التزاماً ذا شقين، أولهما نقد التحيز الذكوري حيثما وجد، والثاني تطوير أخلاق غير متحيزة ذكورياً . وهذا يتضمن أحياناً ترسيخ قيم (مثلاً قيم الرعاية، والثقة المناسبة، والقرابة والصداقة) مفقودة أو مهملة غالباً ضمن التيار الرئيسي للأخلاق .و يتضمن أحياناً الانخراط في بناء نظرية من خلال ارتياد توجهات جديدة أو تنقيح نظريات قديمة بأساليب حساسة جنسانيـــاً . والذي يجعل انتقادات لنظريات قديمـــة أو طــــرح مفاهيم جدية تتصف بـ " النسوية " هو أنها تنبثق عن تحليلات جنسية – جنسانية وتعكس كل ما تكشفه هذه التحليلات بخصوص التجربــة الجنسانية والواقع الجنساني الاجتماعي . (96)

وترى "كارين .ج . وارين " Karen . J . Warren أن " الأخلاق النسوية "تتصف بعدة خصائص منها:

أولاً: إلغاء التمييزات الجنسية والعنصرية والطبقية أو أي " نزعة تمييزية " أخرى من نزعات الهيمنة الاجتماعية .

ثانياً: الأخلاق النسوية سياقية . والأخلاق السياقية هي تلك التي ترى الخطاب والممارسة الأخلاقيين ناجمين عن أصوات الناس الموجودين في ظروف تاريخية مختلفة . وعندما تكون الأخلاق السياقية نسوية تولى مكانة محورية لأصوات النساء .

ثالثاً: بما أن الأخلاق النسوية تولي أهمية محورية لتنوع أصوات النساء، فينبغي عليها أن تكون تعددية بنيوياً وليس واحدية أو اختزالية . إنها ترفض الافتراض المسبق لوجود " صوت واحد " يمكن بواسطته تعيين القيم الأخلاقيــــة والاعتقــادات والمواقف والسلوك .

رابعاً: الأخــلاق النسوية سياقية وتعددية بنيوياً، " وقيد التشكل " وهي تتغير عبر الزمن .

خامساً: تنوع أصوات النساء مشروع في بناء النظرية الأخلاقية .

سادساً: لا تقــوم الأخــــلاق النسوية بــأي محاولة لتقديم وجهة نظر " موضوعية " ذلك لأنها تفترض أن في الثقافة المعاصرة ليس ثمة في الواقع مثل وجهة النظر هذه .وكذلك هى تدعى" عدم التحيز " بمعنى " الموضوعية "

أو " الحياد القيمي " لكنها تفترض أنها مهما احتوت من تحيز لكونها أخلاق تمركز أصوات أشخاص مضطهدين فهو تحيز أفضل من تلك التي تستبعد تلك الأصوات .

سابعاً: توفر الأخلاق النسوية مكانة محورية لقيم كانت نمطياً غير ملحوظة، أو مهملة أو محرفة في الأخلاق التقليدية، مثل ذلك قيم الرعاية والحب والصداقة والثقة الملائمة .

ثامناً: تتضمن الأخلاق النسوية إعادة فهم ماهية البشر والهدف الذي من أجله ينخرطون في اتخاذ القرار الأخلاقي . (97)

وعليه، فإن الأخلاق النسوية تنتقد التحيز الذكوري حيثما وجد في الأخلاق .. وهي، مثل المجالات الأخرى للفكر النسوي، مرسخة في الالتزام بإنهاء الظلم، والتبعية، وإساءة المعاملة والاستغلال للنساء أياً كانت النتائج . ففي نهاية الستينيات، عندما بدأت الأخلاق النسوية، فإنها تكونت أساساً من تطبيق مصادر الفلسفة الأخلاقية التقليدية على نظام المسائل الأخلاقية التي أعلنت بواسطة الحركات النسائية ثم الناشئة في كثير من المجتمعات الغربية . وهذه المسائل، مثــل التمييز الاقتصادي ضد النســاء، الأدوار الجنسيـــــة التقييدية (الحصرية)، العنف الأسري، الاغتصاب، الزواج غير المتكافئ ونماذج الأمومة المضحية بالذات كانوا ذوي إهمية خاصة بالنسبة للنســـاء، وأهملت بشكل كبير بواسطة الأخلاق الفلسفية التقليدية . وهكذا، فقد سعت الأخلاق النسوية، منذ البداية لتحويل الاهتمام الفلسفـــي للمواضيع التي تجاهلها الفلاسفة سابقاً، على الأغلب الذكور . (98)

واكتشفت " كارول جيليان " في دراستها لارتقاء المرأة الخلقي، أن النساء مجبولات على فحوى الاتصال . وفي مقابل تأكيد الرجل على الانفعالية والاستقلال الذاتي، تميل المرأة إلى تحديد ذاتها في سياق العلاقات . وبينما يميل الرجال إلى الإقصاء لأنهم يرفعون من قيمة الانفصال والاستقلال الذاتي، تميل النساء إلى الاحتواء لأنهن يرفعن من قيمة الاتصال والألفة . وبينما يعمل الرجال على حل الصراع عن طريق استحضار تراتب منطقي من المبادئ المجردة، تعمل النساء على حل الصراع من خلال محاولة تفهمه في سياق منظور كل شخص واحتياجاته وأهدافه ؛ إنها المسئولية المتجهة نحو الفضيلة، حيث تحاول النساء جلب أفضل ما يمكن لكل فرد من أصحاب الشأن، وإذ يفعلن هذا، ينصتن بروية، وغالباً يعلق الحكم الخـــاص بهن لكي يتفهمن الآخرين في حدودهــن، تعهداتهن وأفعالهن محكومة بإيناسهن بالعالم ومن فيه .الاستجابة الخلقية، بالنسبة لهن، هي الاستجابة الحانية الراعية . (99)

وقد ساهمت نساء كثيرات عبر القرون في اكتشاف طرق جديدة لفهم حيواتنا وفهم عالمنا عبر القيم المختلفة ... فمثلاً، إيزارا Aseara قدمت نظرية في القانون الطبيعي أوضحت خلالها أنه بإمكاننا اكتشاف الأسس الفلسفية الطبيعية للقانون البشري كله، بما في ذلك التكوين الفني للقانـــون الأخلاقـــي والقانــــون الوضعي .. واهتمت نظريتها في القانون الطبيعي بثلاثة تطبيقات للقانون الأخلاقي وهي: الأخلاق الفردية أو الخاصة، الأساس الأخلاقي للمؤسسات العائلية والأساس الأخلاقي للمؤسسات الاجتماعية . (100)

وقررت ثيانو الثانية أنه طالما يعجز الأطفال الصغار عن فهم كيفية تطبيق مبدأ التناغم، فيجب توجيههم وقيادتهم . ورأت أن هذا التوجيه يقع بالدرجة الأولى على عاتق الأم وذلك لأن فضيلة المرأة الخاصة تتمثل في قدرتها على خلق العدالة والتناغم في البيت .. كما تلزم فضيلة النساء الخاصة الزوجات بأن يتصرفن بنوع من العدالة مع أزواجهن حتى عندما يعاملن هؤلاء الأزواج معاملة غير عادلة ..فإعادة النظام والتناغم من جديد تتحقق بالتصرفات النبيلة العادلة وبهذا تستطيع المرأة أن تكسب ود زوجها وتثبت له تميزها الأخلاقي فتصبح قدوته . (101)

أما جوليا فيلتن فافري (1834 – 1896)، فيلسوفة أخلاق، وعالمة تربية فرنسية، أهتمت بدراسة تاريـــخ الفلسفة الخلقية .. وكثيراً من آرائها الليبرالية تركز على التربية الخلقية وعلم النفس الخلقي .. وقد اعترفت بأن الأدوار الاجتماعية للنســـاء كزوجات، وأمهات، ومعلمات منحتهن القدرة على إسعاد الآخرين أو جعل حياتهم أكثر قيمة، وإضفاء السمة الأخلاقية على المجتمع .. فالتربية الخلقية تلعب دوراً مركزياً في تطوير المجتمعات ؛ ومن ثم يجب على الناس التمسك بالمثل الأخلاقية، والحرص على حياة الفضيلة . (102)

كما أن " حنة أرندت " Hannah Arendt (1906 – 1975 )، حاولت العيش في حياة فكرية سامية من كل السلوكيات المنحرفة . فاختارت أن تجرب على الأقــل، " أن تفهــــــــــــم "، والحصول على أساس للأخلاق ملائم لفعل التفكير ذاته . والعيش في وضع تكون فيه الحياة الفكرية مؤهلة لنا لأن نعالج القضايا من دون السماح لنا بالتنازل عن الحرية ؛ فنحن عندما نمارس حرية التفكير، والعمل، واتخاذ القرارات بشكل جيد نظل أصدقاء مع أنفسنا ( نتصالح مع انفسنا )، ومع الآخرين الذين نفكر معهم من أجل الحقيقة، في العالم الذي نتقاسمه معهم . وتؤكد أن الحياة الفكريــة يجب أن تشكل في حد ذاتها سبباً للحرص على الحياة العملية . (103)

 

ا.د. ابراهيم طلبه سلكها

رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة طنطا

مصر

...............

الهوامش

(90) Simon swift: op- cit , p-3 .

(91) Maurizio passerin d'Entreves: op- cit , p- 75 .

(92) ليو شتراوس: تاريخ الفلسفة السياسية، من ثيوكيديديس حتى اسبينوزا، ترجمة   د. محمود سيد أحمد، مراجعة وتقديم د/ إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومى للترجمة، 2005 ص 29 .

(93) Maurizio passerin d'Entreves: op-cit, p-76 .

(94) Dana R. villa , politics , philosophy, terror, p- 128 .

(95) Maurizio passerin d'Entreves: op-cit , pp- 76-77 .

(96) Hannah Arendt: The Human condition , pp- 198-199 .

(97) Anthony F. lany, Jr. John Williams: op-cit, pp- 182-183 .

(98) Ibid, pp- 204-205 .

(99) Margaret Betz Hull: op – cit , p- 60 .

(100) Maurizio passerin d'Entreves: op-cit , p-77 .

(101) Ibid, p- 78 .

(102) Hannah Arendt: On Violence, pp- 44-46 .

راجع أيضاً: الترجمة العربية لهذا الكتاب ص ص 39 – 40 .

(103) Ibid, pp- 40-42 .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم