صحيفة المثقف

موهبة الكتابة وفكرة التفرد

anwar ghaniكثيرا ما نقرأ عبارات انطباعية تجاه النصوص الأدبية كعبارة (حرف مميز) او (لغة متفردة)، ويراد بذلك وجود تفرد اسلوبي للكاتب في ذلك النص. وتكمن اهمية الاستجابة الانطباعية انها تشير الى وجود عنصر فني ابداعي كانت انعكاسا طبيعيا له .

وايضا نسمع كثيرا ان في الكتابة حالة مفارقة للمؤلف وطغيان للغة وتفلت وانها تمر بفترة من اللاوعي هو الذي يأخذ زمام الامور في عملية الكتابة ومنها شيطان الشعر، وهذه الرؤى والاحكام لا تصدر فقط من كتاب وانما من قراء ومتذوقين ونقاد، وبذلك تتجاوز كونها فكرة معرفية او فلسفية وانما هي استجابة انطباعية ايضا تشير الى وجود مظاهر اسلوبية معينة نتجت عنها .

ان وظيفة النقد تفسير الظاهرة الجمالية والكشف عن العناصر الفنية والجمالية التي تسبب الابهار والادهاش، ولذلك تكون الاستجابة الذوقية والحكم الانطباعي مقدمة ودليلا وباعثا له، واما البحث المقحم من علوم اخرى لغوية او اجتماعية والتي لا تمت بصلة الى الانبهار والدهشة والظاهرة الجمالية، فهي ابحاث غريبة عن النقد الادبي، وما هي الا ابحاث لعلوم اخرى لغوية او اجتماعية، ولقد بدأ شعور متنامي لدى الاوساط الادبية الغربية والعربية في وجوب الخروج من هذا المأزق الذي اقحمت عملية النقد الادبي فيه بسبب فلسفات لغوية واجتماعية امتدت يدها الى عملية الابداع ونقده، فأخذت المدرسة الاسلوبية تتسع نظريا وتطبيقيا في ادوات النقد الحديث .

و كتفسير واقعي لما تقدم من مظاهر انطباعية، كلنا يشعر حينما نواجه نصا ان هناك اكثر من يد تعمل فيه وهناك اكثر من غاية وقصد، ويمكن بأدنى تلمس ادراك تجليات لجهات انسانية في النص، منها ما هو مشترك ومنها ما هو متفرد .

المشترك الكتابي قد يكون عاما بشريا وفق النمط الذي يتعامل به الناس في كتابتهم وكلامهم، وأخر يكون مشتركا فنيا بين الادباء والمحترفين للكتابة الفنية .

التفرد هو ما يميز اسلوب المؤلف عن غيره، ويبعده عن خط الاشتراك العام او الفني، في تجل لتجربته الخاصة في الكتابة .

هذا كله يقع ضمن غاية واحدة هي قصد الكاتب حيث انه يمثل البعد العام والبعد الفني والبعد التفردي. هناك في الكتابة غايات و جهات اخرى لها تأثير في عملية الكتابة، منها غايات اللغة، حيث تتجلى اللغة في النص بشكل انثيالات، وكلما كان الموروث اللغوي للكاتب كبيرا وراقيا كانت انثيالاته راقية والعكس صحيح، وهنا تبرز اهمية القراءة وتأثيرها اللاواعي على الكتابة ويمكن ان نسميه اللاوعي المعرفي .

من الغايات الاخرى والجهات المؤثرة في عملية الكتابة هي غايات النص نفسه والسعي نحو الكمال الجمالي، باعتباره وجودا مستقلا وهذا يعتمد على الحس المرهف والذائقة المتطورة والموهبة لدى المؤلف في تجلي عميق يتجاوز الوعي كما هو معلوم ويمكن ان نسميه اللاوعي الجمالي .

تجلي هتان الجهتان اللاوعي المعرفي واللاوعي الجمالي في الكتابة بمظاهرها الخارجية الموضوعية هو الذي يتسبب بذلك الشعور بوجود فترات لاوعي وطغيان للنص في الكتابة .

في ضوء ما تقدم تظهر الكتابة كوجود يقع على بعد ومسافة متغيرة من المؤلف واللغة والنص، يمكن ان نسميها (بالمسافة الكتابية)، كلما كان التجلي لأي من تلك الجهات قويا كانت المسافة بين اللغة وتلك الجهة قصيرة ولكلما ضعف تجلي تلك الجهة كانت المسافة الكتابية كبيرة .

ولحقيقة تباين التأثير الممكن حصوله بفعل انثيالات اللغة وتجلي النص الجمالي وقصد المؤلف ورؤيته، يمكن ان يكون الاقتراب هو السلبي او الابتعاد هو السلبي .فحينما تكون جميع تلك الجهات، اقصد تجليات تجربة المؤلف وانثيالات اللغة والشعور بجمالية النص متكاملة، كان الاقتراب منها سبب قوية ورقي للنص، واما ان كان هناك خلل في احدها، كأن يكون الوضع العام متخلفا، او الثقافة الفردية ضعيفة، او الحس الجمالي ضعيفا، فان الاقتراب من احد تلك العوامل يكون سببا في ضعف النص، وهذا هو السبب الرئيسي في كون انسان مبدعا موهوبا واخر ليس كذلك، كما انه السبب الحقيقي لتبيان كتابات المبدع نفسه بين الضعف والقوة . كما انه بذلك يمكن وبسهولة بعد تبين العمل الارقى والادنى بفحص اسباب التباين واي من تلك العوامل كان هو الطاغي في النص القوي الراقي، وايا من تلك العوامل كان هو المؤثر في العمل الذي لم يكن بمستوى غيره، لاجل توظيف عناصر القوة وتجنب عناصر الضعف، كما انه دافع لتطوير الجانب الذي يعاني من قصور، سوى على مستوى الوعي الفني والتقني او على مستوى اللاوعي اللغوي والجمالي بتطوير الثقافة اللغوية الفنية والجمالية للكاتب . كما يمكن ان يكون هذا النظر مدخلا جيدا نحو جانب تجريبي تطويري علمي في الكتابة وربما يكون ذلك في جانب منه قاعدة لورش الكتابة التي ظهرت في امريكا (writing workshop)، والتي بدأت تنتشر في مصر مؤخرا، لكن ايضا تسلط الضوء على جوانب توجب انتقائية في المتدربين .

 

د. أنور غني الموسوي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم