صحيفة المثقف

وهم الحبّ من النظرة الأولى وحقيقة المطاولة

mohamad-alshawi"وإني لأطيل العجب من كلّ من يدّعي أنه يحبّ من نظرة واحدة، ولا أكاد أصدقه، ولا أجعل حبّه إلا ضربا من الشهوة " ابن حزم

 

توطئة:

لقد شكل موضوع الحب محور اهتمام العديد من الدارسين الذين اختلفت زوايا نظرهم إليه باختلاف تخصصاتهم ؛ فالشعراء تحدثوا عنه في قصائدهم باعتباره تجربة معيشة تنتح من صميم النفس العاشقة، وكذلك الأدباء كتبوا عنه باعتباره موضوعا يرتبط بالأدب، ولكون هذا الأخير يعالج قضايا الإنسان والعالم.

وقد نظّر له الفلاسفة والمفكرون، وحتى الفقهاء تحدثوا عنه ضمن مؤلفاتهم.

إنه موضوع يرتد إلى أقوى العواطف البشرية التي تقوم على ترابط بين الذات والغير ؛ إذ يبدأ من العلاقة الأولى بين الطفل وأمه نحو أبيه، ثم العالم الخارجي عبر علاقات الألفة والألاّف، بين الرجل والمرأة حتى نصل إلى الإستحسان والمطاولة والولع والعشق والهيام ...

لكن هل هناك حب من النظرة الأولى؟ وهل له علاقة بالشهوة أ م إنه استحسان تجاه الغير وتعبير عن الإعجاب به ؟ وهل تعتبر هذه النظرة حبا حقيقيا أم مدخلا لبداية قصة حبّ قد تكون هشة البنيان تسقط بنهاية النظرة، وقد تكون قوية لاستحسان وقره في قلب المحب؟ لماذا لا نقول بأن الحب الحقيقي يأتي بعد المطاولة بينما النظرة الأولى فهي ضرب من ضروب الشهوة حسب تعبير ابن حزم؟

وهل يمكن للإنسان أن يعشق شخصين متغايرين؟ بتعبير آخر هل تميل نفس المحب إلى شخص بعينه أم إنها يمكن أن تصل إلى شخصين يحبهما في الآن نفسه؟

للجواب عن هذه التساؤلات سنطرق باب فقيه وفيلسوف مؤسس للفكر الفلسفي بالمغرب والأندلس في القرن الخامس الهجري، إنه ابن حزم ومن خلال رسالته الأبية

" طوق الحمامة في الألفة والالاّف " يقول : " وإني لأطيل العجب من كلّ من يدّعي أنه يحب ّ من نظرة واحدة، ولا أكاد أصدقه، ولا أجعل حبّه إلا ضربا من الشهوة، وأما أن يكون في ظني متمكنا من صميم الفؤاد نافذا في حجاب القلب فما أقدّر ذلك، وما لصق بأحشائي حبّ قطّ إلا مع الزمن الطويل وبعد ملازمة الشخص لي دهرا وأخذي معه في كل جد وهزل، وكذلك أنا في السلوّ والتوقّي.

فما نسيت وّدا لي قطّ، وإن حنيني إلى كلّ عهد تقدم لي ليغصّني بالطعام ويشرقني بالماء وقد استراح من لم تكن هذه صفته " ( ابن حزم، طوق الحمامة، ضمن رسائل ابن حزم تحقيق الدكتور احسان عباس، الجزء الأول، المؤسسة العربية لدراسات والنشر بيروت ط1 1980 ص : 125)

إن الحب حسب هذا المعنى يكون بمداومة الشخص وطول العلاقة وبالتقرب منه في الجد والهزل ومعرفة سجاياه وطباعه وكل صفاته ونعوته مع الزمن الطويل وبعد ملازمة الشخص . فهذا التصور يلغي كلام من دأب على القول بأن

"le cou de foudre الحب يكون من النظرة الأولى "

" " كوبيدون " وهذا نموذج معروف في الثقافة الغربية cupidon و"

ذاك الملاك الممسك بقوس السهام حيث يقوم باصابة فريسته عبر اسقاط أرواح العشاق لقمة سائغة في الحبّ والألفة والألاّف من تلك النظرة الأولى .

إنه حبّ يرتبط بالاستحسان الجسدي، واستطراف البصر الذي لا يتجاوز الألوان،

فهذا سر من أسرار شهوة النفس . يقول: " فإذا فضلت الشهوة وتجاوزت هذا الحدّ ووافقت الفضل اتصال نفساني تشترك فيه الطبائع مع الفس تسمى عشقا "

(طوق الحمامة، ص :126 )

كما أن البعض يزعم أنه يحب اثنين ويعشق شخصين متغايرين، فهذا يرتبط بالشهوة، لأن الحب الحقيقي يكون لقلب واحد " ومن هذا دخل الغلط على من يزعم أنّه يحب اثنين ويعشق شخصين مغايرين، فإنما هذا من جهة الشهوة التي ذكرناها آنفا،وهي على المجاز تسمى محبة لا على التحقيق، أما نفس المحبّ فما في الميل به فضل فضل يصرفه في أسباب دينه ودنياه فكيف بالاشتغال بحب ثان ؟ " (طوق الحمامة، ص : 128)

ولتعزيز هذا الرأي صاغ فقيهنا عدة أشعار تنتقد من يدعي العشق لاثنين ربما تناص معه صاحب القصيدة العامية المصرية " إن رح منك ياعين "للشاعر فتحي قورة، التي لحنها المسيقار منير راد، وغنتها شادية، وهي :

إن رح منك يا عين ... هيروح من قلبي فين

ده القب يحب مرة ... ميحبش مرتين

ميحبش مرتين

الحب إللي في قلوبنا ... النّاس فكرينه إيه ؟

ده شغلنا مهما تبنا ... ولا حلفنا عليه

ومهما بعدنا عنه... نسيانه أقوى منه

وتخافي ليه ياعين ... هيروح من قلبي فين

ده القب يحب مرة ... ميحبش مرتين

ميحبش مرتين

 

يقول ابن حزم: (من الخفيف )

كذب المدّعي هوى اثنين حتما

ومثل ما أكذب ماني (ماني مؤسس مذهب المانوية وهو قائم على الاثنينية

إذ يقول أن مبدأ العالم كونان أحدهما نور والآخر ظلمة كل واحد منهما منفصل عن الآخر)

ليس في القلب موضع لحبيبين ولا أحدث الأمور بثاني

فكما العقل واحد ليس يدري

خالفا غير واحد رحمان

فكذا القلب واحد ليس يهوى

غير فرد مباعد أو مدان

هو في شرعة المودة ذو شرك بعيد من صحة الإيمان

وكذا الدّين واحد مستقيم

وكفور من عقده ديدان (ص 127)

 

لكن أين يظهر مفهوم الحبّ إذا لم يكن في النظرة الأولى ولا في حبّ اثنين ؟

يجيبنا ابن حزم : " والذي أذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع لا على ما حكاه محمد بن داود رحمه الله عن بعض أهل الفلسفة : الأرواح أكر مقسومة، لكن على سبيل مناسبة قوامها في مقّر عالمها العلوي ومجاورتها في هيئة تركيبها " (ص : 93 - 94)

يظهر أن رفض ابن حزم لكروية الأرواح التي استقاها ابن داود من " محاورة المأدبة أو في الحبّ الإلهي " لأفلاطون، من خلال مداخلة الكاتب المسرحي الكوميدي أرسطوفان، ومؤداها أن الإنسان الأول كان شكله كروي، حين استقوى واشتدت عظامه بهذا الشكل خافت الآلهة على نفسها منه فقسمته إلى نصفين نصف مرتبط بالرجل والآخر بالمرأة .

ومن هنا جاءت نظرية" التوأم الروحي "، كما أن هذا الرفض والأخذ في الآن نفسه باتصال النفوس يوضح بصيغة أو بأخرى أثر كتاب " الزهرة " لابن داود في تصوره للحب، وهو تصور كما أسلفنا يجد جذوره الأولى في الفكر الفلسفي اليوناني في القرن الرابع قبل الميلاد .

لكن إذا كان فقيهنا يذهب إلى أن النفوس قد تجزأت إلى عدة أجزاء، بينما ابن داود يؤكد أن الكرة انقسمت إلى قسمين (نصفين)؛ فإنه في نهاية المطاف كل روح تنادي على الروح الأخرى التوأم لها . إذ يبقى ههنا السؤال مطروحا :

لماذا رفض ابن حزم الشكل الكروي للأرواح ذو الأصل الأرسطوفاني، وأخذ بانقسامها ؟ هل كان يرى تعدد التوق إلى ائتلاف الأقسام في مراحل أخرى من العمر، ربما بعد وفاة محبوبته " نعم " التي ماتت بعد زواجها به وهي في عنفوان شبابها؟

هذا الشكل في نظرنا يرتبط بتصور ابن حزم لمفهوم الحبّ وخصوصا نظرية اتصالية النفوس من زاوية شرعية، فهذا معقول وفق النص القرآني الذي يقر بها، حيث لا نجد من جهة أخرى في الحديث النبوي الشريف ذكر لهذا الجانب الكروي، ولهذا فقد حاجج فقيهنا على هذا بنص قرآني وبحديث نبوي

" وقد علمنا أن سر التمازج والتباين في المخلوقات إنما هو الاتصال

و الانفصال،والشكل دأبا يستدعي شكله والمثل إلى مثله ساكن وللمجانسة عمل محسوس وتأثير مشاهد، والتنافر تشابه موجود فيما بيننا، فكيف بالنفس وعالمها وسنضها المهيأ لقبول الاتفاق والميل والتوق والانحراف والشهوة والنفار، كل ذلك معلوم بالفطرة والأحوال تصرف الإنسان فيسكن إليها والله عز وجل يقول

"هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها "

(الأعراف 189) (ص :93)

وقوله صلى الله عليه وسلم: " الأرواح جنّود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف " ومن دليل هذا أنك لا تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكة واتفاق أولا في الصفات الفيزيولوجية والطبيعية كالشكل وملامح الوجه ...

إنه شيئ لابد منه وإن قلّ، وحتى المجانسة الخلقية شيئ ضروري في هذا الباب، حيث إنها تؤكد المودة المودة، ولعل تلك النماذج التي جاء بها ابن حزم في رسالته خير دليل على هذا الجانب التطبيقي لقصص العشق و العشاق من الثقافة العربية بالأندلس، وكأنّه يدرس حالات نفسية " etudes de cas"

وعلى سبيل الختم نستحضر قول الدكتور زكريا ابراهيم في كتابه

" مشكلة الحب " : " ولئن كان ابن حزم قد تناول موضوع الحبّ من وجهة نظر الأديب، والشاعر، والمؤرخ، أكثر مما تناوله من وجهة نظر الفيلسوف، والمحلل والباحث النفساني، إلا أن من المؤكد مع ذلك أننا نتلقى في تضاعيف دراسته للحب بكثير من الملاحظات النفسية الدقيقة والآراء الفلسفية العميقة. "

(زكريا ابراهيم، مشكلة الحب، مكتبة مصر، ط 3 1984، ص :265)

ومعنى هذا أيضا أن دراسة ابن حزم للنفس البشرية لم تكن كما عمد كتاب المشرق من اطناب وكثرة الكلام والاستطراد والاطناب ...

إنها جاءت في منهج منطقي متسلسل أكسيوماتي التوجه والمسعى، يضع حقائق واقعية " وإنما اقصرت في رسالتي على الحقائق المعلومة التي لا يمكن وجود سواها أصلا، وعلى أني قد أوردت من هذه الوجوه المذكورة أشياء كثيرة يكفى بها لئلا أخرج عن طريقة أهل الشعر ومذهبهم ... وأنا أعلم أنه يستنكر على بعض المتعصبين على تأليفي لمثل هذا ويقول : إنه خالف طريقه، وتجافى عن وجهته، وما أحلّ لأحد أن يظنّ فيّ غير ما قصدته قال تعالى : " يا أيها الذين أمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم (الحجرات، 12) "

ثم إن ابن حزم يحاجج في هذا الجانب على مشروعية الكتابة في موضوع الحب في مطلع الرسالة فهو " ليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيدالله " (الطوق، ص : 140)

من هنا يتضح أن ابن حزم قد عمل على تقويض دعوى مضادة نادى بها فقهاء عصره، الذين نظروا إلى الخائض فيه بكونه متنزلا عن يفاع الوقار إلى حضيض الكلام الكلام منزلة، كما جاء به ابن الجوزي بعدهم في حقيقة كتابه

" ذم الهوى"(*).

من هنا فإن ابن حزم يوجه خطابه إلى فقهاء عصره ولا ريب أن يجادلهم في حقيقة الحب . وعليه فإنه خلص في رسالته إلى أهمية التعفف وفضله " وبالجملة فإني لا أقول بالمرايا وأنسك نسكا أعجميا . ومن أدى الفرائض المأمور بها، واجتنب المحارم المنهيّ عنها، ولم ينس الفضل فيما بينه وبين الناس فقد وقع عليه اسم الاستحسان، ودعني مما سوى ذلك وحسبي الله ...

يقول (من الوافر) :

جعلت اليأس لي حصنا ودرعا

فلم ألبس ثياب المستضام

وأكثر من جميع الناس عندي

يسير صانني دون الأنام

إذا صحّ لي ديني وعرضي

فلست لما تولّى ذا اهتمام

تولّى الأمس والغد لست أدري

أ أدركه ففي ماذا اهتمام

جعلنا الله وإياك من الصابرين الشاكرين الحامدين الذاكرين، آمين آمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وصحبه وسلم تسليما "

( الطوق، ص: 310 )

 

بقلم محمد الشاوي

أستاذ وكاتب مغربي

..................

المصادر والمراجع :

ابن حزم، طوق الحمامة، ضمن رسائل ابن حزم تحقيق الدكتور

احسان عباس، الجزء الأول، المؤسسة العربية لدراسات والنشر بيروت

ط1 1980

- زكريا ابراهيم، مشكلة الحب، مكتبة مصر، ط 3 1984

(*) أنظر : ابن الجوزي، ذم الهوى، تحقيق خالد عبد اللطيف السبع العلمي، ط1، دار الكتاب العربي 1998

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم